}

"الجنة تحت أقدامي".. حكاية أخرى عن أوجاع النساء

عبد الكريم قادري 4 يونيو 2021
سينما "الجنة تحت أقدامي".. حكاية أخرى عن أوجاع النساء
لينا عرار تنظر إلى صورة لها مع ابنها

استطاع لبنان، في السنوات الأخيرة، أن يخلق تميّزه السينمائي من خلال ما ينتجه من أفلام وثائقية ذات جماليات ومواضيع متعددة، وقد طوّع الكثير من المخرجين الشباب هذا الجنس السينمائي وحوّلوه إلى أداة تنقل أوجاعهم وهمومهم، وما يرتبط بمجتمعهم وبلدهم، كما حوّلوه لقالب جمالي أعادوا من خلاله تشكيل ماضيهم الأسري، كأفلام "يا عمري" 2016 لهادي زكاك، "ميّل يا غزيل" 2016 لإليان الراهب، "المرجوحة" 2018 لسريل عريس، وغيرها من الأفلام الأخرى التي تستثمر في محيطها الضيق لتخلق عالمًا أكثر رحابة واتساعًا. وبرغم محدودية الموجودات وصعوبة ما يتم تناوله فيها، غير أنهم أذابوا تلك العقبات وخلقوا طرقا مختصرة أوصلتهم لذائقة المتلقي بسهولة، لتصبح المدونة السينمائية الوثائقية اللبنانية أكثر جمالية، بعد أن استعارت من الروائي التراكيب السردية والشعرية ووظّفتها لصالحها، وبالتالي أخرجت الوثائقي من جموده واتجاهه الواحد، ورمت به في عوالم أخرى عصيّة على التصنيف، ومن جهة أخرى بات الوثائقي اللبناني متحرّرًا أكثر من غيره، منفتحًا على اتجاهات متعددة، وذكيًا في تسليطه الضوء على القصص التي يختارها. وهذا ما حدث في فيلم "الجنة تحت أقدامي" 2020 للمخرجة الفلسطينية/ الأردنية ساندرا ماضي (90 دقيقة) الذي تناول قضية لبنانية غاية في الأهمية، تعاني منها الكثير من المطلقات اللبنانيات اللاتي وقعن ضحية لقوانين الأحوال الشخصية، التي تتبع ثماني عشرة طائفة، كل طائفة لديها قانونها الخاص، ومحاكمها وقضاتها، وكل حكم يستند إلى تلك الطائفة، ليكون المتضرّر رقم واحد هو الأم المطلقة.
 

هل تصلح السينما ما أفسدته القوانين؟

إنتاج فيلم عن القوانين المسلطة على المرأة اللبنانية، هو نوع من المواجهة المستمرة مع الأنظمة السياسية المتعاقبة، قضايا يراها المعنيون والمتضررون وحتى المتعاطفون مع المرأة، نوعًا من المقاومة المستمرة ضد القوانين الشرعية، ومواد الأحوال الشخصية التي تُصدِر من خلالها أحكامًا مستندة على مرجعيات طوائف دينية تتويجًا لها، وهي ما تراه المرأة أحكامًا مجحفة في حقها، خاصة الأم الحاضنة، أين تحدّد المحكمة مدة الحضانة في المذهب الكاثوليكي مثلا بسنتين كحد أقصى، وعندما يزيد عمر الرضيع عن سنتين يصبح لوالده الحق في أخذه وترك حضن أمه، إضافة إلى المذهب الشيعي الذي رفض توحيد قوانين الأحوال الشخصية التي تخص حضانة المرأة المطلقة، لهذا هناك مشاكل لا تنتهي في النفقة وما اتصل بها، وقد تصل في الكثير من الأحيان إلى سجن المرأة التي ترفض تسليم طفلها في حالة تجاوز المدة القانونية، وحسب ما جاء في الفيلم فإن قوة هذه المحاكم التي تملك سلطات قوية تأتي بدعم من رجال الدين والسياسة الذين يتحكمون فيها، ويدفعون برجال الأمن لممارسة القوة ضد كل امرأة حاضنة تمتنع عن التخلي عن ابنها لفائدة المطلق، ويمكن أن تسجن وتصدر في حقها أحكام سجن نافذة، وهناك العديد من النماذج التي وقع لها هذا الأمر في لبنان. 

فاطمة حمزة التي سجنت تنفيذًا لقرار قضائي بعد رفضها التنازل عن حضانة ابنها وتسليمه لأبيه بعد بلوغه السنتين


أربع قصص ووجع واحد

يرتكز فيلم "الجنة تحت أقدامي" على أربع قصص مأساوية لنساء لبنانيات، مسّهن الضرر بسبب تجارب موجعة مع الطلاق، منهن عبير هاشم (منتجة هذا الفيلم) التي مرت بتجربة طلاق صعبة سبّبت لها الكثير من الآلام، ولينا عرار التي غادرت لبنان إلى ألمانيا وطلبت اللجوء للحاق بابنها بعد أن اختطفه زوجها السابق وقام بتهريبه بأوراق لبنانية مزورة، وفاطمة حمزة التي سجنت تنفيذًا لقرار قضائي بعد رفضها التنازل عن حضانة ابنها وتسليمه لأبيه بعد بلوغه السنتين، وقد تحوّلت قضيتها إلى قضية رأي عام في لبنان، وزينب زعيتر التي تحاول منذ سنوات تنفيذ قرارات قضائية تجيز لها رؤية ابنها ولكن دون جدوى، لأن القوات المختصة في تنفيذ هذه القرارات لا تعتبر مثل هذه القضايا ذات أهمية، ولهذا تتجاهلها تمامًا.

سلّطت المخرجة ساندرا ماضي عدسة كاميرتها على أوجاع عبير، لينا، فاطمة وزينب، اللاتي يتألمن ويتوجعن على حالتهن مع ظروف الطلاق، وإصدار أحكام في حقهن يرونها غير عادلة بالمرة، تهين الأم وتدوس على دورها المحوري، لأن المحاكم ألزمتهن بحضانة أبنائهن لفترة زمنية محدودة جدًا، بعدها تقوم القوات الأمنية المختصة بفصلهن عن أطفالهن الذين هم بحاجة ماسة لدفء الأم وقربها، حتى أن دور المخرجة لم يقتصر على الفضاء اللبناني وملابساته، بل تتبعت المطلقة لينا التي طلبت اللجوء السياسي في ألمانيا، بعد تعرّضها لضغوطات رهيبة في بلدها، وقد هاجرت لتلتحق بابنها الذي اختطفه والده وزوّر أوراقه الثبوتية في بلده وسافر به إلى ألمانيا، وهناك بدأت لينا في رحلة مع المحاكم التي لا تنتهي، وقد عايشت المخرجة التي أقامت فترة زمنية مع المتضررة، ووقفت بنفسها على حجم المعاناة وآلام الانتظار والفقد، وكيف تنظر الأم المحرومة لابنها الذي أبعد عنها عنوة، والمشكلة الكبيرة حسب الأم لينا هي أن هذا الابن لا يعرف حجم الحب الذي تكنّه له، لهذا بدأت تكتب له الأغاني والقصائد وتشتري له الألعاب والثياب وتخبئها له، ليعرف في يوم من الأيام كيف كان مقدار حبها له، وهذا ما حدث مع زينب في الجهة الأخرى، تم سجنها لأنها لم تسلّم ابنها، لكن تسليط الأضواء عليها جعل العدالة تلين وتخرجها، إضافة إلى مئات النسوة الأخريات اللاتي وقعن في مشاكل متشابهة، لكن لا تزال قضاياهن مكتومة، لعديد من الأسباب، أهمها الخوف من العائلة والطائفة التي تنتمي لها، أو من الانتقام الذي يمكن أن يحدث لعائلتها، أو خوفًا من عواقب السجون والإذلال، بحكم أن قانون الأسرة في حالة الطلاق ينتصر دائمًا للرجل على حساب المرأة. 

زينب زعيتر التي تحاول منذ سنوات تنفيذ قرارات قضائية تجيز لها رؤية ابنها ولكن دون جدوى



الملازمة المستمرة للقبض على ألم الضحايا

تستعير المخرجة ساندرا ماضي في تشكيل فيلمها الوثائقي، القالب السردي الأكثر استعمالًا في متن السينما الوثائقية الفرنسية، وهو الشكل المستعمل حتى في إعداد التقارير التلفزيونية، ويتميز بجمع العديد من القصص المتشابهة أو ذات التوجّه الواحد، ثم يقومون بإذابتها في تكتل أو خط سردي أفقي، لتنتج في الأخير فيلمًا وثائقيًا ذا نفس منطقي، وهذا ما حدث في فيلم "الجنة تحت أقدامي" الذي تناول أوجاع أربع أمهات مطلقات حاضنات، واحدة استعملت كمقدّمة رمزية عميقة، تم من خلالها الوقوف على قبر الخالة "سعاد" التي استمر طلاقها خمسًا وعشرين سنة كاملة ولم تنله، إلى أن رحلت عن هذه الدنيا، وكأن ساندرا بهذه المقدمة السينمائية الموجعة تحضّر المتلقي لما هو آت، لتنطلق بعدها في تحصيل آلام وأوجاع النسوة الباقيات على قيد الحياة، وإظهار مآسيهن وأوجاعهن مع قوانين الأحوال الشخصية في لبنان، وقد استطاعت المخرجة من خلال الملازمة المستمرة لكل واحدة منهن، مثل لينا عرار في ألمانيا مثلًا، أن تقبض على لحظات إنسانية نادرة، وتقوم بتوظيفها في الفيلم بشكل إنساني يجلب التعاطف مع هذه القضية، وهذا ما حدث مع باقي الأمهات اللاتي يتوجعن بقوة، خوفًا من حضانة سيخسرنها أو حسرة على أطفالهن الذين أخذوا منهن.

جمعت المخرجة هذه المادة ثم قامت بدمجها في بعضها حسب مقتضى المونتاج الذي تم استعماله لزرع بذور التشويق والإثارة، عن طريق التوقف في نقطة معينة في إحدى القصص والذهاب لنقطة أخرى والعودة من جديد لقصة البداية، هذا الأمر خلق سلاسة في تقديم الأحداث والمعلومات، وأصبح المتلقي أكثر حرصًا على معرفة مصير الأمهات، واحدة تنتظر قبول اللجوء السياسي في ألمانيا، وأخرى تنتظر تطبيق القانون ورؤية ابنها رغم صدور قرار بهذا، وثالثة تصارع مع القضاء لإبقاء الحضانة لها، لكن كل مرة تمر بمطب فيتوجع القلب وتتضاعف شحنة التضامن، وقد تحول المونتاج الذكي في هذا الفيلم إلى أداة رئيسية في تشكيل العمل بشكل عام، وخلق مستوى معينًا من الجماليات المتعددة ساعدت كثيرا في مد جسور التلقي.

من الاحتجاجات المناهضة لقرارات المحكمة الجعفرية (الشيعية) في لبنان


لعبت خبرة المخرجة ساندرا ماضي في تشكيل جماليات فيلم "الجنة تحت أقدامي" والحفر عميقًا في موضوع المرأة ومشاكلها في لبنان وفي معظم البلدان العربية، نتيجة استنادها لقوانين تنتصر للرجل على حساب المرأة،  وقد مرّت المخرجة بالعديد من المحطات المهنية والإنسانية التي ساهمت في مرجعيتها الثقافية والسينمائية والإنسانية، فهي مخرجة مستقلة وممثلة ولدت في عمان/ الأردن لأبوين فلسطينيين، بدأت مشوارها الفني بمجال المسرح، حيث قدّمت 18 عملًا مسرحيًا، وأعمالًا عديدة لمسرح الطفل وعدة أعمال تلفزيونية، شاركت في العديد من المهرجانات العربية والدولية وورش تدريب عالمية، وحصدت عدة جوائز كأفضل ممثلة، عملت في الإذاعة كمعدة ومقدمة برامج على الهواء مباشرة كما عملت في مجال التدريب على فنون التمثيل والارتجال في عدة بلدان عربية وأوروبية، وقدمت عدة ورش في مجال إعداد مختصين لتربية مسرحية في المدارس والمراكز الثقافية، وأنتجت عدة برامج تلفزيونية ووثائقية لصالح عدة محطات فضائية، وهي تعمل كمخرجة أفلام تسجيلية مستقلة وفي رصيدها من الأفلام "بعيدا عن هنا"، "قمر 14"، "ذاكرة مثقوبة"، وآخرها فيلم "الجنة تحت أقدامي" الذي تصادف عرضه مع انتشار فيروس كورونا، لكن هذا الأمر لم يؤثر على سعة انتشاره في العديد من المناطق والمنابر المهمة.

   

 

  https://www.youtube.com/watch?v=fE0j93m8hQc&t=115s

     

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.