}

مسرح كريم دكروب.. منطقة آمنة للنجاة من عالم مُلوّث

مسرح مسرح كريم دكروب.. منطقة آمنة للنجاة من عالم مُلوّث
(مشهد من مسرحية "بيتك يا ستي")

متكئًا على حلمه بتحويل المسرح إلى مؤسسة لها تقاليدها المسرحية وإيجاد ريبرتوار خاص، يقدّم لنا المخرج والكاتب كريم دكروب عمله "بيتك يا ستي" (كتابة كريم دكروب ونعمه نعمه، أداء فؤاد يمين، ماريليز عاد، سمير يوسف، وكاترين دكروب، أزياء فدى حطيط) على مسرح "دوار الشمس" (بيروت) والذي كان عُرض لأول مرة عام 2006، وها هو يقدّمه من جديد فنقع معه على نسخة محدّثة من الحب مع أجيال جديدة تتعاقب على خشبة "دوار الشمس" منذ ثلاثين عامًا، هي بدايات ابن المدرسة الروسية على هذا المسرح مع مسرحية "شو صار بكفر منخار" والتي يعيد عرضها أيضًا بشكل دوري.

"بيتك يا ستي" (50 د)، سينوغرافيا وليد دكروب، موسيقى وكلمات الأغاني للفنان أحمد قعبور، تكاد تشكّل هذه الشراكة الذهبية هوية هذا المسرح الذي اشتبك مع الواقع في عرض قصص وحكايا على طريقة الصغار مقدّمة للجميع، للعائلة وللكل، من بوابة العلاج النفسي الذي تخصّص فيه دكروب، بعد دراسته للإخراج المسرحي في معهد سان بطرسبرغ للفنون المسرحية، فتوغل في أعماقنا كأنه يدعونا إلى وجهة نظر أخرى بالعالم والحياة والآخرين، ومن بوابة القضايا المجتمعية التي يحلم بإيجاد حل لها، وهو عبر مسرحه يرفع لنا شمعة لنرى الطريق بشكل أفضل وأعمق.

تعتمد هذه المسرحية، ككل أعمال كريم دكروب، على تحريك الدمى وتمزج بين مسرح الظل والفيديو أنيمايشن. إنه العام 2046 حيث الحداثة المعمارية الرمادية من أحجار إسمنتية عملت على تقويض الشجر والهواء النقي والطعام الصحي بشكل كامل، والجدار الفاصل بين زمنين، و"سلمى" الفتاة الصغيرة التي ستحاول أن تصعد مع صديقيها "أمين وسلوم" الجدار لاكتشاف ما هو موجود خلفه. لكن حارس الجدار يمنعهم من ذلك. ما وراء الجدار هو زمن آخر، ستلتقي فيه سلمى بجدتها المقيمة في منطقة الحلم، منطقة آمنة من العالم الملوث بصريًا وشعوريًا، حيث الحقول والأشجار والفاكهة والخضار والهواء النقي، وهناك ستتعرّف الفتاة الصغيرة على العصافير والزهور، فترفض العودة بعدها إلى زمنها الذي ينمو على الحبوب المصنعة والفيتامينات بديلًا عن الطعام الصحي، والألعاب الإلكترونية بديلًا عن المراجيح.

"وحدي بها الليل، والليل كبير/ قدامي حيط، وعالي كتير/ ضجران كتير، شو بدو يصير"- هي مطلع الأغنية التي يبدأ فيها العمل والتي تختصر الحقل الشعوري الذي سيصاحب عالمنا وأطفالنا عام 2046 بعد أن تكون الحياة قد تحولت إلى مناطق منعزلة والوحدة ممددة خلف الجدران التي سيكون قد بناها كل إنسان حول نفسه. ثم، "ماما شو في ورا الحيط.. زهور وعصافير وشجر وست اسمها فيروز بتغني "بيتك يا ستي الختيارة"، ما بآ فيه منن هول الناس.. ماما كيف يعني زهور.. شو يعني عصافير.. شجرة! كيف شكلها الشجرة..". يريد دكروب أن يقدّم مقارنة بين عالمين، كأنه يدفعنا إلى أن نختار بينهما، أين نريد لأطفالنا أن يكبروا، وكي لا تتحول تلك الحياة النقية إلى ذكرى.. "ما ضل من التوتة إلا الحتوتة"، فلن يبقَى بعدها من شجرة التوت إلا الحكاية عنها..

مشهد من مسرحية "بيتك يا ستي"


تتساءل الفتاة الصغيرة بعد عودتها إلى عالمها "ماما كيف خليتوهن يعمروا هل الحيط، كيف سمحتوا لناطور الحيط يكون أقوى منكن، ما خليتولنا لا شجر ولا مراجيح، كان الأكل كتير طيب عن التيتا.."، ترد الأم: "معك حق، نحنا خسرنا كتير إشيا حلوة".. وبمرافقة توليفة غنائية قعبورية صافية يقترح علينا دكروب كبارًا وصغارًا شكلًا للمستقبل إذا أكملنا حياتنا وسط هذه المناطق الملغومة بالموت، الذي نعيشه دون أن نعي ذلك. يجعلنا دكروب نقف أمام ذواتنا للحفاظ على الشجر والغذاء السليم ومواجهة المناطق المضرة من التكنولوجيا والعمارة الإسمنتية التي لا روح فيها.

البيئة والطبيعة

يقول دكروب، أستاذ الإخراج المسرحي في الجامعة اللبنانية، في سياق حديثنا معه الذي جرى في مكتبه في مسرح "دوار الشمس" إثر عرض مسرحية "بيتك يا ستي": "هذه المسرحية واحدة من سلسلة مسرحيات قدّمناها عام 2006. كنا نفكر ماذا سيحدث للبشرية بعد أربعين عامًا، للبيئة والطبيعة، لن يكون هناك شجر، والناس ستأكل حبوب الفيتامين بدلًا من الطعام الطبيعي والخضار والفواكه. لن يكون من شيء صحي في حياتنا، ولا حتى الهواء الذي نتنفسه، لن يكون بالطريقة المناسبة، والأكثر من ذلك، سيكون هناك جدار بين الناس، هذا الجدار الموجود الآن ويكبر بين الناس يومًا بعد يوم. هذا الجدار نحكي عنه في المسرحية، أحدهم عمّره وأحدهم يحرسه ويمنع الأولاد وكل من يحاول الاقتراب من الجدار ومعرفة ماذا يوجد خلفه، فهو يمنع الناس أن تتلاقى مع بعضها البعض أو تتلاقى مع هويتها. في المسرحية نوع من الاستشراف".

كريم دكروب في مكتبه في مسرح "دوار الشمس"


نسأل مخرج "يا قمر ضوي ع الناس" عن أن ثيمات أعماله تبدو كأنها مخصصة للكبار، فيرد: "صحيح أننا نشتغل مسرحنا للأطفال، لكنها ليست للأطفال بالمعنى التقليدي للكلمة، كل عمل نقدمه لهم فيه رؤية معينة، رؤية فنية إبداعية نحب أن نوصلها للجمهور بكل الأعمار. البعض يقول إن هذه المسرحيات ليست للأولاد وأنا أقول إنه يمكن أن نقدّم للأعمار الصغيرة أشياء فيها معنى أعمق من الشيء المسطح. رؤية الفنان هي رؤية للمستقبل، كيف يرى المجتمع، وكيف يقترح أين يرى الخطأ، وأين يشعر أنه من الممكن أن يُقدّم شيئًا ليصبح المجتمع أفضل. هذا الذي نقدمه في مسرحنا، نضيء فيه على قضايا في المجتمع نشعر أنه يجب الإضاءة عليها، وأن فيها خطأً ما، فنقدّم الاقتراحات ولا نقدّم الحلول. لذلك، وأنت تعرفين أننا نقدّم مسرحياتنا للأطفال وللعائلة، فإن معظم مسرحياتنا فيها رسائل اجتماعية وسياسية، وليست سياسية بالمعنى الوضيع للكلمة؛ مفهوم السياسة العام في لبنان ليس المفهوم الحقيقي للسياسة. ما نشتغله في مسرحنا ينطلق من أن أي فنان يشتغل مسرحا فإنه يشتغل سياسة ويشتغل على هدف، ونحب أن نقدّم للأطفال وللأهل طريقة لرؤية المجتمع بنظرة مختلفة من الطريقة التي يعيشون فيها".

يتابع مؤسس مسرح الدمى اللبناني: "مثلًا مسرحية "فراس العطاس" تحكي عن ولد مخترع يركّب ويصلح أشياء ويستهزئ به رفاقه في المدرسة، فهم لا يفهمونه. يُطلب منه مثلًا كتابة نص تعبيري عن السماء الزرقاء والعصافير تزقزق، فيشعر بالملل، ومعلمات المدرسة يضغطن عليه ليدرس، فيخترع شخصية وهمية اسمها ’فراس العطاس’ أي الذي يعطس، وهو يعطس لأنه عندما وُلِد احترق معمل الكهرباء وتنشّق هواءً غير نظيف. لنصل في النهاية إلى أن فراس يجد حلًا لمشكلة الكهرباء في لبنان بطرق معينة. مسرحية "شو صار بكفر منخار"، التي عمرها ثلاثون عامًا، هي تربية مدنية بكل ما للكلمة من معنى. إنها تعكس وضع المجتمع اللبناني الذي لم يتغير منذ ثلاثين عامًا. مسرحية "يللا تنام مرجان" تحكي كيف يتعامل المجتمع مع الطفل على أساس أنه صغير ولا يتعاملون معه على أنه كائن مبدع يرى الأشياء بطريقة مختلفة ويحتاج بشكل دائم إلى اللعب. مسرحية "يا قمر ضوي عَ الناس" تحكي عن العنف وتستوحي من القصص الدينية. وغالبًا، مع الأسف، يحدث العنف باسم الدين؛ هذه المسرحية تحكي عن عنف الإنسان وعن الذئب الذي يسأل نفسه ’لماذا الإنسان متوحش؟’". 

مشهد من مسرحية "شو صار بكفر منخار"


تعتمد جمعية "خيال للتربية والفنون" التي يترأسها كريم دكروب، على نظام الريبرتوار فتعيد عرض هذه المسرحيات بشكل مستمر، نسأل دكروب عن السبب، فيجيب: "نعم العروض لا تتوقف، هذه المسرحية، ’بيتك يا ستي’، عُرضت لأول مرة عام 2006، والهدف أن يبقى هذا المسرح موجودًا وتبقى المسرحية موجودة. هناك أجيال جديدة تأتي كل مرة وتشاهد الأعمال. هل تعرفين أن مسرحية "شو صار بكفر منخار" يأتي الآن الأهل مع أطفالهم لحضورها وكانوا قد شاهدوها منذ ثلاثين عامًا. أنا درست في روسيا، وهناك يشتغلون على هذا الموضوع، أي أنه إذا نجحت مسرحية فإن عروضها فلا تتوقف، وقد تستمر لعشرات السنين".

وعن دراسته للعلاج النفسي بعد الإخراج المسرحي يخبرنا دكروب: "تخرجت عام 1993 في الإخراج المسرحي ثم شعرت أنه لا يكفي في بلد مثل لبنان أن يكتفي الإنسان باختصاص واحد، شعرت أنه يجب الدمج بين الاختصاصات، واهتمامي بعلم النفس والدعم النفسي الاجتماعي هو الذي دفعني لأن أتطرق إلى مواضيع حساسة، وغالبًا عروضنا هي نوع من مسرح اجتماعي، ونشتغل على المسرح التطبيقي الذي له استخدامات في مجالات مختلفة بالمجتمع. جزء من عملنا المسرحي هو العلاج عبر المسرح وأنشطة في المخيمات ودورات مختلفة".

الجمهور متعطش للمسرح

عن واقع مسرح الدمى في ظل التطور التكنولوجي الذي يدفع الأولاد نحو الألعاب الإلكترونية يقول دكروب: "كلما اتجهنا نحو الحداثة ونحو الآي باد، كلما اقترب الناس أكثر صوب المسرح، خاصة بعد أزمة كورونا. هناك هجمة كبيرة على المسرح، ونحن نتبّع إجراءات السلامة والتباعد في مسرحنا، ويكون المسرح كاملًا، ولا توجد أماكن شاغرة، وهذا دليل على أن هناك عطشًا لدى الناس لحضور المسرح، الجمهور متعطش جدًا للمسرح". نسأله إذا كان الإغلاق التام في ظل الجائحة دفعه للقيام بعروض عبر الأونلاين، يعلّق: "لم نرَ أنه من الممكن أن نشتغل مسرحًا عبر الأونلاين، لا يمكن ذلك، المسرح لا يمكن أن يُقدّم إلا على المسرح أمام الجمهور".

وعن طبيعة الجمهور من خلال جولاته حول العالم يجيب دكروب: "ذهبنا إلى الكثير من الدول، العالم العربي، الصين، أوروبا.. وقدمنا عروضنا على عدد كبير من مسارح العالم. أحب الجمهور الأوروبي، في أوروبا يتميز الجمهور بالهدوء وهم يعرفون جيدًا كيف يتذوقون منذ الصغر، يعلمونهم منذ الصغر كيف يسمعون ويتفرجون ويتذوقون. نحن احتجنا خمسًا وعشرين سنة كي نعوّد جمهورنا على الاستماع وأنه ليس كلما بدأت الموسيقى يبدأ التصفيق، نقوم بجهد كبير لنجعل المتفرجين يسمعون ويشاهدون بهدوء".

مشهد من مسرحية "يا قمر ضوي ع الناس"


نختم معه عن مسرح الدمى بالعالم العربي والعروض العربية المشتركة، فيقول دكروب: "مسرح الدمى له تاريخ بالعالم العربي، مسرح خيال الظل موجود بتراثنا منذ القدم، ثم اختفى لأسباب كثيرة. عاد وازدهر مسرح الدمى في الخمسينيات والستينيات في مصر خصوصًا، وكان له اهتمام من قبل الدولة أيام عبد الناصر. في الفترة الأخيرة عاد الاهتمام بهذا المسرح في العالم العربي من قبل بعض المؤسسات، وأستطيع أن أقول إن هذا المسرح عاد ينمو من جديد الآن في تونس ومصر وسورية، وطبعًا في لبنان هو موجود دائمًا ونحن نهتم بهذا المسرح. وقد تم تنظيم عدد من اللقاءات المشتركة المخصصة لمسرح الدمى بين لبنان والعالم العربي قبل جائحة كورونا التي تسبّبت بتوقف هذه الأنشطة واللقاءات".

"شو صار بكفر منخار"، "شتي يا دنيا صيصان"، "يللا ينام مرجان"، "القنديل الصغير"، "ألف وردة ووردة"، "كليلة ودمنة"، "عندي حلم"، "منطق الطير"، "فراس العطاس"، "يا قمر ضوي عَ الناس"، "بيتك يا ستّي".. أكثر من خمسة وعشرين عملًا مسرحيًا قدّمهم كريم دكروب لنا وكأن كل عمل من هذه الأعمال هو ضوء كاشف على الحياة والحقيقة. ثمة شعور بمحاولة مداواة ندوبنا بعد كل عرض. كريم دكروب يومئ لنا في هذه المسرحيات إلى حيث المعنى الحقيقي والعميق للأشياء في محاولة مكتملة للإنصات إلى مكان موشّح بنتف من الحب والأمل، مع قليل من الكوميديا، وقليل من النوستالجيا، وأشياء أخرى تدعونا إلى أن نتمسك بحجاراتنا الخفية التي تتدحرج نحو الأسفل كلما مرّ الزمن، وأن نفتح حوارات جديدة مع الأطفال والمجتمع وهذا العالم الذي ينزف بالخسارات المتلاحقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.