بالرغم من مرور ما يقرب من 500 عام على وفاة الفنان الألماني ألبريشت دورر (1471- 1528) إلا أنه ما زال حاضرًا بقوة في عالم الفن حتى الآن. وقد افتتح معرض للوحات دورر بمتحف suermondt- Ludwig بمدينة آخن الألمانية في 18 يوليو/ تموز الجاري. يقدم هذا المعرض نظرة دقيقة وجديدة على مجموعة لوحات بعنوان "رحلة إلى هولندا" (1520/ 1521)، وهي مجموعات لوحات ورسوم تشهد على دور الفن الاستثنائي بالنسبة لدورر، حتى أثناء تنقله وسفره بدون الاستوديو الخاص به، وهي واحدة من أهم مميزات دورر بالنسبة لفناني عصره الذين اعتادوا العمل داخل الاستوديو. يقدم المعرض صورة فنية وثقافية وتاريخية لهذه الرحلة الغامضة بعنوان "كان دورر هنا".
أقيم المعرض الأخير الذي يعرض رحلة دورر إلى البلدان المنخفضة في عام 1977 كجزء من مهرجان يوروباليا في بروكسل. في غضون أربعة عقود أخرى من البحث الإضافي في وثائق ورسوم الرحلة، للاستفادة منها قدر الإمكان، يركز معرض 2021 في آخن الألمانية على الفنان نفسه- قام دورر بهذه الرحلة في وقت قريب من بلوغه سن الخمسين حين كان قد تحوّل إلى ظاهرة في وقته- وعلى كيف تحوّل الحرفي البارع اجتماعيًا بعد أن طور نفسه إلى فنان في عالم لم يطور بعد مصطلح الفن كما نعرفه اليوم.
الرحلة الأسطورية إلى الأراضي المنخفضة
عرف دورر كفنان كثير السفر والتنقل، ومهتمًا بالحكايات. عندما سمع دورر عن الحوت الضخم الميت أثناء رحلته إلى هولندا، قرر الذهاب إلى مكانه ليرسم له صورًا تفصيلية. بالكاد وصلت سفينة دورر إلى الشاطئ لكنه أصيب بالملاريا أثناء ذلك، وكانت الأراضي والقنوات مغطاة بالطين، لذلك لم يحقق حلمه في رؤية الوحش البحري أبدًا.
تحولت تلك الرحلة إلى قصة مغامرة حكاها الكاتب فيليب هور في كتاب صدر حديثًا بعنوان "ألبريشت والحوت". قدم هور في الكتاب نصًا أقرب للمقالات منه للسيرة، وطرح في كتابه عدة أسئلة: لماذا ما زلنا نهتم بفنان عاش ومات منذ قرون؟ هل كان دورر عبقريًا وهل ما زال مؤثرًا حتى الآن؟
| |
| من أعمال ألبريشت دورر |
كتب هور: "قصرت رحلة دورر الاستكشافية البرمائية الفاشلة حياته، بسبب حيوان لم يره" ومع ذلك نتج عنها تطور في فن دورر وفي شغفه بالمخلوقات البحرية وانتهى به الأمر في العمل على مجموعة رسوم كبيرة للحيوانات البحرية من أهمها صورة حيوان الفظ وهو أحد أنواع الفقمات الكبيرة. رسمه دورر بجلد مرقط وشعر شائك وأنياب مخيفة وعيون غاضبة. الصورة صارمة وقوية للغاية لدرجة أنه من الصعب تصديق كونه لم ير الحيوان عن قرب.
أضاف هور في كتابه: "لا يمكننا أسر الحيوانات المرتعشة، ولحمها وعظامها وأنيابها وفرائها وغرائزها ومخاوفها، ومع ذلك اقترب دورر من ذلك، حتى عندما لم ير الحيوان عن قرب".
لم يكن الكاتب فيليب هور هو الوحيد الذي وجد نفسه مفتونًا بمهارة دورر الفنية. سقطت مجموعة من الشخصيات تحت تعويذة دورر الفنية السحرية منهم الكاتب الأميركي هيرمان ملفيل الذي استوحى العمل الفني الأشهر عن الحيتان "موبي ديك" من مغامرة دورر. بالإضافة لـملفيل كان هناك الروائي الألماني صاحب نوبل توماس مان الذي كان من كبار معجبي دورر وتمتلئ رواياته بإشارات إلى الفنان.
القرعة التي صنعت دورر
تبدو حكاية احتراف دورر للفن مثل حكاية خيالية لا تصدق بدأت في القرن الخامس عشر، بقرية صغيرة بالقرب من مدينة نورنبرغ الألمانية حيث عاشت عائلة مكونة من الأب والأم وثمانية عشر طفلًا. كان الأب صائغًا، لما يقرب من 18 ساعة يوميًا من أجل إطعام كل هؤلاء الأطفال.
على الرغم من الحالة السيئة للأسرة، إلا أنه كان هناك اثنان من الأولاد الكبار لديهم موهبة في الرسم وحلم أرادوا متابعته، لكنهما كانا يعرفان جيدًا أن والدهما لن يكون قادرًا ماليًا على إرسال أي منهما للدراسة في أكاديمية الفن.
بعد العديد من المناقشات الليلية الطويلة في الفراش المزدحم، توصل الصبيان أخيرًا إلى اتفاق. سوف يرميان عملة معدنية أشبه بقرعة. الخاسر ينزل للعمل في المناجم القريبة ويدعم أخاه بأرباحه للدراسة في الأكاديمية. عندما يكمل الأخ الفائز دراسته في غضون أربع سنوات، سيدعم الأخ الآخر في الأكاديمية، إما بمبيعات أعماله الفنية أو بالعمل في المناجم إذا لزم الأمر. فاز ألبريشت وعلى مدى السنوات الأربع التالية غرق أخيه في العمل في المناجم الخطرة. كانت رسوم ألبريشت ونقوشه وخاماته أفضل كثيرًا من تلك التي يستخدمها معظم أساتذته، وبحلول وقت تخرجه كان قد بدأ في جني أموال كثيرة مقابل أعماله.
| |
| منزل ألبريشت دورر بألمانيا |
أقامت العائلة مأدبة كبيرة في حديقتها احتفالًا بعودة الفنان الشاب. وبعد الاحتفال تحدث ألبريشت من مكانه الفخري على رأس الطاولة موجهًا حديثه إلى أخيه قائلًا: "والآن. ألبرت أخي المبارك حان دورك للذهاب إلى نورنبرغ لمتابعة حلمك وسأعتني بك". تحولت وقتها كل الرؤوس حيث جلس ألبرت والدموع تنهمر على وجهه الشاحب، وهو يهز رأسه من جانب إلى آخر ويكرر: "لا لا لا. لا يمكنني الذهاب يا أخي. لقد فات الأوان بالنسبة لي. أنظر ما فعلته أربع سنوات بالمناجم في يدي. لقد تحطمت عظام كل إصبع مرة واحدة على الأقل، ومؤخرًا كنت أعاني من التهاب المفاصل بشدة في يدي اليمنى لدرجة أنني لا أستطيع حمل كوب، ناهيك عن وضع خطوط دقيقة باستخدام قلم أو فرشاة. لا يا أخي. لقد فات الأوان بالنسبة لي".
رسم دورر رسمًا قويًا ومشحونًا بالعاطفة تكريمًا لألبرت على كل ما ضحى به. اختار دورر أن يرسم يدي أخيه مضمومتين معًا وأصابعه الرفيعة متجهة نحو السماء، وأطلق على رسمه اسم "الأيدي". أحب العالم تحفته الجميلة، وأعيد تسميتها تلقائيًا باسم "أيادي للصلاة".
التحولات الاجتماعية لدورر
اهتم دورر بقضاء الوقت مع الوكلاء التجاريين وأصحاب المناصب الرفيعة، وكذلك الأرستقراطيين والمجتمع الملكي. بسبب تلك العلاقات وبسبب رسومه للملك منحه الملك معاشًا إمبراطوريًا بمبلغ 100 جلدر سنويًا، أي ضعف المتوسط السنوي المعتاد في ذلك الوقت. بعد وفاة ماكسميليان الأول في أوائل عام 1519، رفضت مدينة نورنبرغ دفع المعاش الإمبراطوري، وحاول دورر البحث عن مناصرين لاستمرار معاشه الإمبراطوري.
توج هابسبورغ ملكًا على ألمانيا في مدينة آخن في تشرين الأول/ أكتوبر 1520، وكان دورر قد وصل بالفعل إلى آخن في بداية أكتوبر، وبدأ في الاستمتاع والمقامرة مع رفاقه. أعجب دورر بالآثار المقدسة بالمدينة، ورسم الكاتدرائيات ودار البلدية، ومناظر نهر الراين الطبيعية. بالرغم من الدعم الكبير الذي قدمته مدينة آخن لدورر، لم يستطع مقاومة عرض إيطاليا لإقناعة بالذهاب إليها والبقاء فيها؛ المزيد من المال، منزل أحلامه، إعفاء ضريبي كامل. عاد دورر بالفعل إلى إيطاليا التي أحبها منذ رحلتيه السابقتين إليها وبقي هناك حتى صيف عام 1521.
| |
| إحدى لوحات ألبريشت دورر |
تأثير الفن الإيطالي على فن دورر
كانت لرحلة دورر إلى إيطاليا تأثيرات كبيرة تتجلى في رسومه ولوحاته بشكل مباشر وغير مباشر. أثناء وجوده في إيطاليا تعرف على رسوم ونقوش الأساتذة الكبار أمثال أنطونيو بولايولو ودراساته الخطية الحيوية لجسم الإنسان أثناء الحركة. كما تأثر بفنان البندقية أندريا مانتيجنا الذي كان منشغلًا بالموضوعات الكلاسيكية والتعبير الخطي الدقيق عن الشكل البشري.
اللوحة الأكثر لفتًا للنظر التي توضح اتجاه دورر لروح عصر النهضة الإيطالية هي صورة ذاتية رسمها لنفسه عام 1498. سعى دورر من خلال اللوحة إلى نقل المثال الأرستقراطي لعصر النهضة في تمثيل شخصه. لقد أحب الطريقة التي بدا فيها كشاب وسيم، يرتدي أزياء عصرية ويواجه الحياة بغرور إلى حد ما. بدلًا من الخلفية التقليدية أحادية اللون، صور دورر الجزء الداخلي مع نافذة مفتوحة على اليمين. من خلال النافذة يظهر منظر طبيعي صغير لجبال وبحر بعيد، وهو تفصيل يذكرنا بلوحات البندقية وفلورنسا المعاصرة له في ذلك الوقت.
ظهرت التأثيرات الإيطالية أيضا بسلسلة النقوش على الخشب. تظهر تلك الرسوم عاطفة غنية وتكوينات مزدحمة ومكتظة في كثير من الأحيان، لكنها تبدو بلمسة إيطالية مميزة. استمر أسلوب دورر بعد ذلك في التأرجح بين القوطية والنهضة الإيطالية، ثم وجد ضالته في الصور النصفية، وعزز أسلوب النهضة الإيطالية في فنه من خلال اتصاله بجاكوبو دي بارباري، وهو رسام وغرافيكي من البندقية كان يبحث عن حل هندسي لتصوير الأبعاد البشرية.
ربما بسبب تأثير بارباري بدأ دورر في التعامل مع النسب البشرية بأسلوب عصر النهضة الحقيقي. كانت النتيجة الأكثر تركيزًا لجهوده في لوحة آدم وحواء، حيث سعى إلى جلب سر الجمال البشري إلى شكل مثالي محسوب فكريًا، ليصبح فن دورر كلاسيكيًا بقوة. ظهر أيضًا التأثير الإيطالي في لوحة "مذبح الملوك الثلاثة". على الرغم من أن التكوين بصوره الخمس المنفصلة له طابع إيطالي، إلا أن فكر دورر وخياله تجاوز الاعتماد المباشر على الفن الإيطالي، ليظهر نضجه الفني في لوحة "عشق المجوس" بتصويره الجرئ والطبيعي والمريح لشخوص اللوحة.
تحول دورر في سنواته الأخيرة إلى رسم اللوحات ذات الموضوعات الدينية، لكن لم تكتمل اللوحات بسبب تدهور حالته الصحية. توفى دورر في نورنبرغ عام 1528 في عمر 56 عاما وترك المئات من اللوحات والمخطوطات والصور الشخصية الرائعة له بالأقلام، والألوان المائية أو الفحم والنقوش الخشبية والنحاسية، معلقة في كل متحف كبير في العالم.
مراجع:
https://www.britannica.com/biography/Albrecht-Durer-German-artist
تحميل المقال التالي...