أ‌. المتحركات وأصولها:
يؤكد أحد أكبر علماء "الوهم البصري"، فرانك بويبر، منذ ستينيات القرن الماضي، في كتابه "FRANC poper: le cinétisme"، أن أصول المتحركات النحتية، وبرامج روبوهاتها (روبوتات)، ترجع إلى الميكانيك الفني (الصناعي) للفن العربي الإسلامي منذ عصر الخليفة العباسي المتنور هارون الرشيد، الذي أهدى إحدى الروبوهات المبرمجة من الساعات لشارلمان؛ تقربًا منه، وتجنبًا للحروب التي لا طائل تحتها. ويؤكد فرانك بوبير (أحد أساتذتي في جامعة السوربون) أن هذه الروبوهات كانت تصمم من قبل فنانين بارعين في علم الميكانيك (نموذجهم عباس بن فرناس، الذي حاول الطيران فقصم ظهره، وانتقلت رسومه إلى دفاتر ليوناردو دافنشي الميكانيكية). إذن، هنالك وحدة صناعية (فنية ذوقية علمية) بين علم الميكانيك، وفنون النحت، والتصوير، والماكيتات التي تعتمد على تحول الطاقة الطبيعية، من رياح ومياه، على غرار نواعير المياه التي كانت تدرس الحبوب في الوقت نفسه. كان ممارسو التصوير (المنمنمات) في المخطوطات منذ القرن التاسع يصممون هذه البرامج المتحركة. محفوظ أغلبها في المتاحف المتخصصة الفرنسية، نعثر في دمشق على ناعورة ابن عربي العملاقة (أكثر من ارتفاع عشرة أمتار) إلى جانب ضريح الشيخ، تعمل حتى اليوم برغم إهمالها المقصود.

كانت، إذن، برامج المتحركات للتسلية وللمنفعة (مثل الوضوء)، والترويح عن النفس مثل الفرق الموسيقية المبرمجة نعثر اليوم على متحركات مبرمجة متوازنة، مثل كالدير، وتانغلي (الموتور).

الزخارف العربية الإسلامية

لعل أبلغ مثال على تداخل العلوم الميكانيكية النحتية برسوم ومنمنمات مهندس بلاد الشام: ابن الرزاز مهندس ديار بكر في جزيرة بلاد الشام (1136 ـ 1206م) وكتابه الشهير: "كتاب في معرفة رسوم الحيل الهندسية (وعنوان فرعي عن المنافع والفنون)". كان، إذن، عالمًا رياضيًا ورسامًا ومصممًا لدورات الطاقة الميكانيكية الطبيعية التي لا تلوث الطبيعة، ولا تعدها مخزنًا لنفاياتها. من الخطأ، إذن، الفصل بين فلسفة بعض العلوم العربيّة، مثل فيزياء البصريات لابن هيثم، والنشاط الصناعي ـ الفني ـ الذوقي، ابتداءً من المنمنمات ورسوم المخطوطات، وتصاميم عرائس خيال الظل، والحليات، وزخارف الشدو، والمبدعات الخطيّة، وأنواع الرقش، وأغطية العمائر بإكساءات السراميك، وسواها.

ب ـ الوهم البصري وأصوله:

المهندس الجزري- البرامج الميكانيكية والروبوهات

ابتدأت قصة هذا اللقاء بين الشرق والغرب منذ تأسيس المدرسة الشمولية "الباوهاوس" في فايمار ـ ألمانيا 1922م، بمبادرة متأخرة من المهندس، والتر غروبيوس، وبيانه الذي يدعو فيه إلى وحدة تطبيقية الصنائع مع الفنون النخبوية، كما كانت في العصور الوسطى، سواء في أوروبا، أو الشرق، خاصة المحمولة إلى الأندلس (قرطبة بالذات). ثم استدعى مدرسين للقسمين العملي والنظري، أغلبهم من أصدقاء الفن العربي الإسلامي، وعلى رأسهم المختص بدراسة المحراب والزجاج المعشّق والنظرية الموسيقية في اللون، بما فيها استخدام الأحرف العربية من دون معرفة معناها، وهو بول كلي. ثم واسيلي كاندينسكي، بمجموعة لوحاته: عربيات، نادرًا ما تذكر، ثم شلايمر الذي استثمر عرائس خيال الظل في مسرحه الهندسي. لكن اللقاء الحقيقي كان مع الهنغاري، فكتور فازاريللي، الذي حمل هذا اللقاح من بودابست. مثله مثل توأمه الموسيقي الأكبر، بيلا بارتوك.

برنامج ميكانيكي- عزف موسيقي للجزري

نعود لننبّه إلى فناني "الوهم البصري - السينيتيك" إلى مصادرهم التراثية في الاستمداد منها لندفع بهذا التيار في مغامرة الحداثة.

في الإمكان إجمال مصادر الاستلهام، كما يلي:
1 ـ المشربية: وهي النوافذ التقليدية في المدينة العربية التي تسمح أحابيلها (من الحاجز الخشبي المخرّم) أن يرى من الداخل إلى الخارج، ولا يسمح بالعكس (مطلة على الخارج في أحياء المارة الغرباء).

فيكتور فازاريللي والزليج المغربي

2 ـ تلعب أحيانًا حركة الرائي وموقعه في إخفاء شرائح من الصناعة وفق زاوية الرؤيا. استعارها حاييم آغام مع فرش سجاجيد إسلامية مهندسة في بحيرة "حي الديفانس" المستقبلي في باريس، مع إضافة المياه الراقصة. يتفوق عليه الفيزيائي اليوناني تاكيس الذي أنجز أوركسترا في الحي نفسه من مصابيح الليزر الملونة ترى عن بعد عشرات الكيلومترات، ومقادة ببرامج إضاءة متغيرة سبرينتيك (منصة معلوماتية). هو ما يثبت من جديد إعادة ميراث وحدة الفيزياء مع الفن البصري، خاصة أن أشعة ليزر الملونة قادت إلى اختراع الهولوغرام، الذي يستعيد الأشخاص في مواقع متعددة، كما فعل مرشح رئاسة الجمهورية، جان لوك ميلانشون؛ يخطب هو نفسه في أماكن متعددة.

3 ـ المشكاة (الكاليودوسكوب العربي)، وهو أسطوانة مرآتية مفروشة من الداخل بعدد من الشظايا السيراميكية الملونة تسمح بانعكاساتها الشفافة بتضاعف أشكالها بطريقة هندسية، مما يذكر بألاعيب وهم الزخرفة الهندسية: الرقش، والأرابسك، ونجميات المثمن ومضاعفاته، التي توحي بالدوران رغم سكونيتها، ناهيك عن الومض الضوئي مع انعكاس الشمس على القباب والمآذن المزججة. وهنا يحضر كل ما هو مطلي بسيليكات الزجاج والمرايا، مثل الفسيفساء، والزليج، والرقش، والأرابسك، والنجميات، والشمسيات، والترصيع الشطرنجي للأصداف الخشبية.
4 ـ أحابيل بعض طرز التخطيط، خاصة الكوفي المربع، أو الديواني. فازاريللي صمم لوحة عملاقة مستلهمة من الكوفي المربع معلقة على واجهة الجامعة (بطول ستة أمتار). وفي المقابل، عرف منير الشعراني (الخطاط الأول) باستثماره لهذا النوع (القلم).
5 ـ المقرنص: تعتمد حويصلة (مفردة تشكيلية معمارية منحوتة بالخشب، أو الجص، وملونة) على تداخل السالب بالموجب، مما يربك تأويل شبكية البصر، مثل بقية الأوهام البصرية، فالقسم المقعر يلون بلون متقدم، مثل الأحمر، والمحدب بلون متراجع، مثل الأزرق، تمامًا مثل مربعات رقعة الشطرنج لا يمكننا إدراك المربعات المتقدمة أو المتراجعة مع تناوب السوداء مع البيضاء. كذلك الأمر في أشرطة الخطوط الديوانية، ومدات نظائرها، يلتبس الفرق بين الفاصل ومدة الحرف.

برنامج شطرنجي استخدمه العرب وفيكتور فازاريللي

وهكذا كلها أحابيل بصرية بهلوانية استعيرت مباشرة من الفن العربي الإسلامي لتعبر إلى اتجاه باوهاوسي واحد يسمى بتيار الوهم البصري. وعندما استثمر فكتور فازاريللي المعلوماتية في البرمجة أصبح اسمه سينيتيك، مستعارًا من الفيزياء الذرية. ناهيك عن علاقته بفلسفة الغشتالت الألمانية، وفدت من نظرية الكليات العربية. ونجدها في كتاب "البصر والبصيرة" لأبي حامد الغزالي.

* * *

علينا باستدراك أن عددًا وفيرًا من الفنانين العرب حاولوا المصالحة بين موروثهم الغرافيكي، من رقش وزخارف هندسية وأحابيل خطية كتابية ومعمارية ليدخلوا غمار الفن المعاصر من بابه العريض الـOptique – Cinétisme، وفق تسمية صديق العرب، فيكتور فازاريللي، لعل أبرزهم العراقي مهدي مطشر، المقيم في فرنسا، والمدرس في مدرسة الفنون العليا للفنون الزخرفية، وإبراهيم هزيمه، وراشد آل خليفة، ومحمد المليحي، ومؤخرًا حسين ماضي، وحسان أبو عياش، وسامية حلبي، والعديد من الحروفيين، وعلى رأسهم منير الشعراني، والقائمة تطول مع كل مهرجان، وكل يوم. وآخرهم اللبناني - الأميركي الفراكتاليست، نبيل نحاس.