}

فيلم "العارف".. عودة إلى سينما "الرسالة الوطنية"!

أحمد عبد اللطيف 17 أغسطس 2021

 

ينطلق فيلم "العارف- عودة يونس" لأحمد عزت وإخراج أحمد علاء الديب، من لحظة حرجة بالنسبة إلى الجهاز الأمني: اكتشاف أحد الإرهابيين الأقوياء بعد أن ظنوا لسنوات أنه مات. الاكتشاف يدفع رئيس الجهاز إلى دعوة يونس (أحمد عز) إلى العودة إلى العمل لأنه الوحيد القادر على التعامل مع هذا الإرهابي، ولأنه كذلك خبير في الأمن السيبراني. خطورة الإرهابي هنا لا تكمن فحسب في قدرته على التخطيط والتفجير، وإنما اختراق صفحات وبيانات ورسائل الأجهزة السيادية. بعودة يونس، يتخذ الفيلم تصنيفه كفيلم أكشن، حيث المطاردات والرصاص والهروب، ويتمتع بقدرته على التشويق وإثارة القلق في المشاهد، مع قليل من المشاهد العاطفية التي تقلل من حدة الأكشن، وبعض المشاهد العائلية لنتعرف سريعًا على جانب خافت من حياة يونس.

يبدو الفيلم بناءً على هذا الإطار فيلمًا أميركيًا، ينتصر فيه البطل الملحمي على صعوبات فوق الحد المعقول. إنه ممثل الخير ويجب أن يحقق النصر من أجل صلاح العالم، وحتى يشعر المشاهد أن حياته ليست محض عبث. لصنع هذه الصورة، يفرط في الخدع السينمائية، وفي استخدام الفوتوشوب، واستخدام ألوان قاتمة معظم الوقت. البطل الأسطوري لا يحارب عدوًا مجهولًا، إنه عدو معروف، له وجه وله تصنيف، إنه إرهابي متطور، يجيد اختراق الشبكات ويتميز فيها، وبناء على بيانات متوافرة لديه يخرب العالم، وليس بلدًا واحدًا فحسب.

البطل الأول (أحمد عز) ليس إلا ممثل الوطن/الدولة/الجهاز الأمني/الخير، والبطل الضد (أحمد فهمي) ممثل الجماعة/الإرهاب/الشر، لكنه أيضًا ممثل الطموح في الثراء وليس الدفاع عن الدين. وأرض المعركة ليست الشارع ولا البناية، وإنما الواقع الجديد. المعلومات المحفوظة من قبل في الأرشيف وخزانات الدول، باتت الآن معروضة في الفضاء السيبراني، وهناك تتكوّن معركة جديدة تختلف عن معارك التسعينيات. إذا كانت القوة البدنية من قبل هي الحاسمة في النصر في معركة تشبه حروب العصابات، فقوة المعرفة هنا هي العنصر الحاسم. لكن الغريب أن يونس، البطل الرئيسي، ليس ضابطًا في الأجهزة الأمنية، إنه متعاون من الخارج يسدي معروفًا ويرحل، فيما يشغل الإرهابي منصبًا قياديًا في الجماعة. ما الذي يريد أن يقوله الفيلم من هذه التفصيلة؟ الأجهزة الأمنية لا تورط نفسها في عمليات خارج القانون، لكنها تستعين بمن ينفذ هذه العمليات، ربما يكون هذا مضمون الفيلم، حتى لو كانت العمليات مواجهة صارمة وأخلاقية مع جماعة إرهابية.

يبدو فيلم "العارف" كحلقة مفقودة في مسلسل "هجمة مرتدة"


يتشابه الفيلم بذلك مع مضمون مسلسل "هجمة مرتدة"، المعروض في رمضان الفائت، وببطولة نفس الممثل، أحمد عز. في المسلسل، الذي تدور أحداثه في فترة ما قبل ثورة يناير بقليل، ليتناول الثورة وما بعدها من أحداث من وجهة نظر أمنية/الدولة، يُكلف سيف (عز)، كمتعاون من خارج الجهاز الأمني، بمهمة وطنية هي اختراق جمعيات المجتمع المدني التي تعمل في مصر، سواء في الجانب الاجتماعي أو الحقوقي، ليثبت نظرية المؤامرة على طول الحلقات. ثمة سردية قاصرة يتبناها صانعو المسلسل ويروجون لها، يمكن إيجازها في تجاهل الحنق الشعبي والحراك المدني الحقيقي والواقعي اللذين أديا لنشوب ثورة عظيمة وهائلة أسقطت ديكتاتورًا/موظفًا كبيرًا ودعت لدولة ديمقراطية حديثة، لصالح سردية أخرى تشيطن المتظاهرين وترسمهم، بعد عشر سنوات من حدوثها، بنفس الألوان المستخدمة منذ اليوم الأول لثورة يناير: لوحة عن مشاغبين وفاسدين يتلقون أموالًا من منظمات مشبوهة لإسقاط الدولة.

يبدو فيلم "العارف" كحلقة مفقودة في مسلسل "هجمة مرتدة"، مع اختلاف العدو هذه المرة، ومع اختلاف الوسيلة. العدو هنا، الذي يحيق بالبلاد ويسعى لدمارها، هو الإرهابي، والوسيلة ليست السلاح والمواجهة، وإنما صراع المعرفة. ثمة انزياح كبير في فكرة المواجهة، اختفى الجنود النظاميون وأعداؤهم من الإرهابيين المسلحين، هؤلاء الذين ظهروا دائمًا كمفجري كمائن عسكرية، لتكون الحرب بين قيادات من نوع خاص. وإذا كان الممثل للدولة يحمل صفات الوطنية ورسالتها، فالممثل للجماعة لا يحمل صفات الإسلام ولا رسالته، إنما يسعى للثراء. بناء على ذلك يتأسس خطاب الفيلم، ليس صراعًا بين الوطن والدين، وإنما الوطن في مواجهة الجشع الإنساني والمأجورين، المدفوعين من قبل دول خفية كل مصلحتها تدمير الوطن، لتكون الرسالة الواضحة للمواطن/المشاهد "لا تتعاطف معهم، انبذهم". مع ذلك، فالمستوى الموجه له الخطاب ليس فقط المستوى الشعبي، وإنما مستوى رفيع، ونخبوي، رسالة موجهة إلى الساسة وإلى الدول المجاورة. يشير مسلسل "هجمة مرتدة" إلى أن الأحداث واقعية من ملفات المخابرات المصرية، ما يعني أنها حقيقية وموثقة بالأدلة، وهو شيء لافت جدًا لأن المخابرات لا تكشف ملفاتها بسهولة، وباستثناء مسلسلات رأفت الهجان والثعلب وجمعة الشوان (وكلها تدور في فترة زمنية متقاربة وتخص الصراع المصري الإسرائيلي)، ربما لا يمكن الحديث عن ملفات مخابراتية معلنة. وإذا اعتبرنا "العارف" حلقة أخرى من هجمة مرتدة (نفس البطل، ونفس المخرج) يمكن اعتباره كذلك من ملفات المخابرات. ورغم أننا غير معنيين بحقيقية الوقائع، إذ أنه فيلم سينمائي وليس فيلمًا وثائقيًا، لكننا نتساءل عن تغيير سياسة المخابرات مع ملفاتها، وكيف يمكن أن نقرأ العلاقة المصرية الإسرائيلية من واقع هذه الأحداث، وأخيرًا، ما يتضمنه الفيلم من رسالة موجهة للمشاهد/المواطن.

لقطة من فيلم "العارف-عودة يونس" 


اختار الفيلم أن يبتعد عن القواعد، في الجيش والجماعة، ليكون أبطاله هم القادة. في الأثناء يبدو البطل الضد "ما بعد إرهابي" Post-terrorist وهو مصطلح يعني تطور التكنيك واستغلال التكنولوجيا الحديثة، لكنه يعني أيضًا تبني وجهة نظر جديدة في صراع الإرهاب مع الدول. الرؤية الجديدة تنطلق من الدخول في ثورة العالم الثالثة: الثورة التكنولوجية، واستغلال المعرفة لتنفيذ أفكار أيديولوجية. امتلاك المعلومة كان دائمًا أحد أسباب القوة (في حالة الفرد أو الدولة)، والآن بات للمعلومة ثمن أكبر وأهم، وأصبح الحصول عليها ممكنًا. لذلك بات السايبر سيكوريتي من أهم مجالات العمل الجديدة، إنه الأمن الإلكتروني، الجيش الذي يحفظ حدود المعلومات، فأسرار الدولة وأحشاؤها معروضة في فضاء واسع، وكل من يمتلك كلمة السر يمكنه الاطلاع عليها. لذلك، لا يمكن استبعاد احتمالية أن يكون الفيلم من ملفات المخابرات، ولا يمكن استبعاد هذا النوع من المعارك كمعارك واقعية تتعرض لها أجهزة الأمن في العالم كله يوميًا.

ورغم أن الفكرة الرئيسية للفيلم كان يمكن أن تولد عملًا جيدًا، إلا أنه اقتصر على العرض الطفولي، غير الناضج، لهذا الصراع، واختصاره في نظرية المؤامرة، والنعرة الوطنية المبالغ فيها، وصورة البطل الملحمي الذي ينتصر ويجب أن ينتصر وليس أمامه حلول أخرى إلا الانتصار، بدون تقديم أسباب منطقية لكل هذه القوة المفرطة وهذه الثقة العمياء. هذه الرؤية المحددة سلفًا أفقرت العوامل الجمالية الممكنة في فيلم من هذا النوع، وقوّضت عناصر فنية كان يمكن استغلالها لو كان صناع الفيلم فكروا في فيلم جمالي وليس فيلمًا وطنيًا.

نحن أمام الخير الصافي والشر الصافي، لا نعرف شيئًا عن إنسانية أي منهما، ولا هناك أي منطقة رمادية، ولا لحظة شك، ولا تفكير. نحن أمام روبوتات مكلفة بتأدية دورها، في خطوط قصيرة ومحددة. لا يحمل الفيلم أي فكرة، أي عمق سينمائي، أي جمال في الصورة، لأنه قرر من البداية أن يحمل رسالة وطنية كبيان من المجلس العسكري أو كخبر في نشرات الأخبار. لذلك ووسط هذا الكم الهائل من الأكشن والمؤامرة والاضطرابات، لا تجد كمشاهد مونولوجًا ولا تفكيرًا ولا حلمًا، ولا مشاعر إنسانية تربط الأفراد ببعضهم، حتى العلاقات العائلية في مشاهد "الخير" محفوفة بالقلق وبالأسرار.

           

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.