}

"نظرة على الفوتوغرافيا المغربية المعاصرة".. غنى التجارب وتنوّع المقاربات

نجيب مبارك 31 أغسطس 2021
فوتوغراف "نظرة على الفوتوغرافيا المغربية المعاصرة".. غنى التجارب وتنوّع المقاربات
مقر المتحف الوطني للفوتوغرافيا بالرباط

يشكّل معرض "نظرة على الفوتوغرافيا المغربية المعاصرة"، الذي افتُتح يوم 11 آب/ أغسطس بمقر المتحف الوطني للفوتوغرافيا بالرباط، ثمرة تعاون بين المؤسسة الوطنية للمتاحف ووزارة الثقافة والشباب والرياضة. وقد تبلورت فكرة إقامة هذا المعرض قبل سنة من الآن، حين ساهمت هاتان المؤسستان في مبادرات تضامن عرفها المغرب من أجل تدبير الأوضاع الاجتماعية لبعض الفئات المتضررة، خصوصا في مواجهة آثار جائحة كورونا المستمرة إلى اليوم، حيث أطلقتا حملتين لاقتناء أعمال فنية من أجل دعم الفنانين والفنانات المغاربة وإغناء الرصيد الفني لكلا هاتين المؤسستين.

إنه معرض يقدم نظرة مختزلة، لكنها عالية التركيز، على تنوع الساحة الفوتوغرافية المغربية عبر مسار يتوزع على أربعة فضاءات محورية، تبرز تنوع المقاربات الفنية والجمالية التي تحرك الساحة الفنية الفوتوغرافية، هي "النهج المفاهيمي والتجريبي" و"السعي الذاتي" و"البورتريهات" و"الفضاء الشاعري"، والهدف منها خلق تجربة متحفية متفردة حيث يمكن للزوار أن يستمتعوا بمعمار "البرج الكبير"، أو "برج غوتمبرغ"، بالموازاة مع اكتشاف هذا المعرض الذي يحاذي فيه طموح الفنانين الشباب تجارب سابقيهم.

بورتريهات من الهامش

في بداية هذه الزيارة، نطالع عملًا فنّيًا بعنوان "اصمتوا" للشاب عبد الرحمن دكان (الدار البيضاء، 1983)، وفيه يضع الفنان بورتريهات بداخل الحيز المخصّص لإعلانات مرشّحي الأحزاب السياسية على الحائط، تلك التي يتم تخطيطها بمناسبة الانتخابات، وهي بورتريهات لأشخاص من هامش المجتمع، لا يصل صوتها عادة إلى الآخرين. ومن خلالها يسائل الفنان وضع ومصير هذه الفئات المعوزة في المجتمع المغربي الحديث. ويمكن قراءة هذا العمل باعتباره صرخة احتجاجية ضد المنتخبين الذين يختفون ويخلفون وعودهم تجاه هذه الفئات بمجرد انتخابهم. وقد صرح الفنان في هذا السياق: "بهذا العمل "اصمتوا"، قررت أن أمنح صوتي في الانتخابات لهؤلاء الأشخاص المعوزين". بعد ذلك، يأتي دور الفنان الشاب أمين أسلمان (تولوز، 1989)، الذي يعرض عملًا بعنوان "مكشوف"، وهو يندرج ضمن أعماله التي تتناول عادة الإشكاليات السياسية والثقافية الراهنة وانعكاساتها على المحيط والهوية. وتظهر فيه صورة لكاميرا مراقبة، شبيهة بتلك التي تستخدم في المراكز الحدودية، وقد تم تثبيتها في ركن الحائط. هذه الصورة تذكرنا بالعزل والمراقبة المعولمة التي نعيشها اليوم، ليس في المعابر الحدودية فقط، ولكن حتى داخل مدننا التي تغزوها الكاميرات يومًا بعد آخر.

صورة "الحارس" للفنان يوسف توزاني وأعمال أخرى


ننتقل إلى عمل آخر، بعنوان "تطرف مركب"، للفنان يونس عتبان، الذي يعمل بين الدار البيضاء وبرلين، وترتكز ممارساته الفنية حول ثلاثة محاور: الفن الأدائي كمساحة للتفكير، تصميم التجهيزات كنتيجة للفعل الفني الأدائي، ثم الفوتوغرافيا والرسم كأرشيفات. وبالنسبة لهذا الفنان، كانت صور تدمير تماثيل تاريخية بمدينة الموصل في العراق عام 1914، صدمة كبرى أيقظت في نفسه تساؤلات كثيرة وشكّلت نقطة بداية لمحاولة مساءلة العلاقة بين الفنون والجمال والتطرف الديني بطريقة بصرية. لقد كان الفن دائما هدفًا للمتطرفين، وهذه الأعمال المعروضة هي بمثابة خطاب مضاد يكشف الستار عن آليات الدعاية المتطرفة. أما الفنان يوسف أوشرا (الدار البيضاء، 1984) فيقترح علينا عملًا بعنوان "ما وراء الموت الكاذب"، يحيل صوتيًا بالفرنسية إلى كلمة أخرى هي "Metamorphose"، التي تعني الانسلاخ والتحول، والتحول هنا في اتجاهين: تردد مزدوج بين الكائن والمستقبل الذي يكشفه الموت الكاذب باعتباره حالة كينونية داخلية، أو تجربة عاشها الفنان شخصيًا في فترة من حياته، والتي يشعر بها ويلاحظها أيضًا من حوله. ويبدو أن هذا المشروع الفني كان بمثابة ضرورة بالنسبة للفنان، وسيرورة حداد، أو بشكل أدق علاجًا وتطهّرًا، لأنه يحكي عن تجربته من خلال مشاهد وصور أدائية تسمح له بأن يقوم بتجريب جسدي، معتمدًا في ذلك على مواد وأشياء، أو مستعينًا بمشاركة الجمهور الحاضر حتى يكمل طقسه الفني.

إعادة اكتشاف الجذور

ترسم الفنانة إيمان جميل في سلسلتها الفوتوغرافية "نسخ مزدوجة: بورتريهات شخصية في الفضاء"، خريطة مبانٍ في مدينة طرفاية، تعود لفترة الحضور البريطاني خلال القرن 19، ثم فترة الاحتلال الإسباني خلال القرن العشرين، قبل أن تهتم بأحد هذه الأبنية بالخصوص، "دار البحر"، التي تم تشييدها لتكون مرفأ تجاريًا قبل أن تصبح سجنًا لاحقًا. هذه البناية المطبوعة بتاريخ عنيف، تصبح مع ملح البحر ندبة رمزية أكثر ألفة بحضور جسد الفنانة. ثم عبر مقاربة حلمية تارة، وعنيفة صاخبة تارة أخرى، تتشكل علاقة مرآوية بين الفنانة وموضوعها الفني: مدينة طرفاية. أما الفنانة ياسمين حاتيمي، التي بعد أن تكوّنت في السينما والفوتوغرافيا بمدريد من 2004 إلى 2012، قررت العودة إلى المغرب لإعادة اكتشاف بلدها، فبدأت بتصوير مدينتها الدار البيضاء التي تبدو شبه خالية، تغطيها هالة من الضباب، بعيدا عن صخب المدينة الجنوني المعهود. ويبدو عملها المعروض "أنا أتذكر"، وهو عنوان مستلهم من السيرة السينمائية للمخرج الكبير فيلليني، دعوة للغوص في ذكريات الطفولة عبر سلسلة فوتوغرافية تطارد منزلًا عائليًا قديمًا ما زال شاهدًا على حضور خافت، تحت طبقة خفيفة من الغبار. كما يبدو واضحا أن الفنانة هنا تفتتن بذلك الإحساس الكوني الذي نسميه "نوستالجيا"، فتصور واقعها مطبوعًا بشيء من الحلم. أما الفنان رشيد الوطاسي، فيعود إلى مدينة طنجة من خلال صور لا تتوقف عن ترصد البساطة في كل أحوالها وأشكالها، وهي جزء من سعي طويل ومضن بدأه الفنان قبل سنوات، من أجل تخليد المعيش اليومي الذي يحيط به، والذي يضطلع فيه أناس عاديون بأدوار البطولة. كما أنها تعبر أيضًا عن احتفال وافتتان الإنسان بالطبيعة في حالتها الخام والبسيطة، كما رصدتها عينه وتأملتها منذ الأزل، وهذه السيرورة يبدو أنها ستلازمه إلى الأبد.

عمل فني لعبد الرحمن دكان بعنوان "اصمتوا"


تعرض الفنانة مديحة الصباني (سلا، 1991) عملًا بعنوان "معلق" تم إنتاجه في ألمانيا خلال بحثها الشخصي حول مفهوم السلطة عام 2017، وتنطلق فيه من طفولتها وتجربتها الشخصية التي تدرجها في قلب التساؤلات الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالسياق المغربي. وبهذا العمل، تطوّر مديحة مقاربة فنية تكشف الحجاب عن دلالات السلطة والهيمنة من منظور شخصي، مع إبراز الاختلاف بين الزيّ الرسمي العسكري والزيّ التقليدي الخاص بالنساء. وهنا يتفاعل جسد الفنانة مع بقايا الذاكرة الشخصية والجماعية المتمثلة في أثواب (نسيج، أزياء رسمية ولباس تقليدي) وإشارات (يومية وعسكرية) كعنصر ثالث وسيط في العمل لتعطي للإكسسوارات دلالات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية. أما الفنانة ديبورا بنزاكن (1973) فتعرض عملًا بعنوان "خائبة الأمل" وهو نتاج اقتراح فني تم إنجازه داخل فضاءات المجازر الحضرية للدار البيضاء، وقد كانت النية الأولى للفنانة تخفيف إحساس الشعور بالذنب الذي يفوح من المكان، وإعادة الاعتبار له كفضاء تتركّز فيه جدلية الموت والحياة، أو الموت الذي يفضي إلى الحياة، كشكل من أشكال تجاوز ما لا يمكن إصلاحه. ولا شكّ في أن إحساس الفقدان العنيف الذي يطبع حياة الفنانة يحتدم بالصدى الجنائزي للمكان ويرسم معالم طموح آخر: تكريم الأم. وعموما، تتميز أعمال ديبورا بالتحرر من الإطارات والأعراف باستعمالها للعديد من الوسائط واهتمامها بمواضيع معاصرة لا تخضع بالضرورة لعوامل الزمن. ويظهر تأثرها بالسينما من خلال أعمالها التي تتشرب إحالات فيلمية راكمتها منذ الطفولة، ما يمكنها من الإفلات من إكراهات الصورة الثابتة.  



تجارب رائدة في الفوتوغرافيا
تتميز صور أمين أولمكي (الرباط، 1986) بطابعها التجريبي الحدسي والاستبطاني، ويستلهم فنه من لقاءاته اليومية ومن بلده وروحه. وقد بدأ قبل أربع سنوات في رحلة بحث شغوف عن ألبومات الصور العائلية، مستقصيًا عن صورته وجذوره. وهذه اللحظات التي تم استنساخها على الورق تتحدث عنه وعن عائلته ومكانه داخل العالم. وقد جمع هذه الحكايات بصور تعريف وأشرطة تصوير وجدها في أحد الاستديوهات المهجورة في حي المحيط حيث يقيم، وبمزجه للصور العائلية مع الصور اليتيمة التي عثر عليها، خلق علائق وقصص جديدة ذات تشعّبات شاعرية تجسّدت عبر فن الخطّ العربي. أما الفنان عبد النبي كتوي فمقاربته الفنية تفتح للمتلقي أبواب الكوني، لكنها تجد جذورها في ترسّبات قديمة تسائل القيم المؤسسة للمغرب، سواء كانت دينية أو سياسية، اجتماعية أو اقتصادية. وعمله المعروض هنا بعنوان "لا نكمّم الضوء" هو عبارة عن تساؤل حول النظرة الفريدة التي يمكن للفرد أن يدرك بها الأشياء اليومية، ويدرك رمزيتها ومشهديتها، والقصة التي تريد سردها. والسؤال الذي يطرحه الفنان هو علاقتنا بالأشياء، والعالم المادي، ويمكن أن نستشف الجواب في عمله هذا الذي يدعونا للسفر والخيال والحلم. بينما يقترح الفنان فؤاد معزوز (الدار البيضاء، 1977) عملًا بعنوان "نفس". ومعزوز يُعتبر من أهم الفنانين الفوتوغرافيين في جيله، إذ يصنف نفسه كإنساني حديث، ومتفائل أبدي، ويضع في قلب أعماله كمًّا هائلا من الرموز والاستعارات والخفة والدقة المتأصلة في الإنسان فتضفي على فنه هالة تعكس إيمانه بالإنسانية. 

جانب من المعرض


أخيرًا، لا نتفاجأ حين نجد بين المعروضات صورًا للفنان الفوتوغرافي والمخرج السينمائي المعروف داود أولاد السيد، لأنه يتجاوز في فنه الفوتوغرافي، كما في أعماله السينمائية المتميزة، حدود الخيال والتوثيق، رغم أنه يحرص على أن يظلّ أقرب ما يكون إلى الواقع، دون أن ينأى عن الشاعرية والحلم. كما يعبر بقوة غرافيكية عن تعلقه بالثقافة الشعبية وفنون الفرجة والذاكرة الجماعية، وهو ما يتجلى بوضوح من خلال بعض صوره الموسومة باسم المدينة الحمراء "مراكش"، التي تعكس من خلال الاستناد على الأبيض والأسود، مختلف مناحي الحياة في مجتمع في طور التغيير. وكل صوره تشهد على حس خاص يربطه بالأشخاص العاديين، والفئات المهمشة، وما تعبر عنه وجوههم المتعبة وهيئاتهم العفوية، وطابع الضوء على السطح الفضي للصورة يضفي على أعماله سحرًا خاصًا.

من جهة أخرى، لا شك في أن تجربة الفنان المغربي نور الدين الغماري هي أيضًا واحدة من التجارب الرائدة في فن الفوتوغرافيا، إذ حظيت بإصدارات ومعارض ناجحة كثيرة، ونالت إعجاب لجان ومحبي الفوتوغرافيا عبر العالم، كما نال عنها جوائز عالمية مثل مصور السنة في بريطانيا وإسبانيا، وفاز بالميدالية الذهبية لأحسن بورتريه فوتوغرافي في العالم العربي لثلاث سنوات متتالية، وعُرضت في دول مختلفة من العالم كبريطانيا واليابان وأوكرانيا ومصر. والعملان المعروضان هنا هما جزء من سلسلتين فوتوغرافيتين عمل الفنان على إنجازهما في إطار معرضه الجديد، وتظهر الصورتان فتاتين يتراوح سنهما بين ثلاث وست سنوات، تنحدران من شمال المغرب، عبر بورتريهين بالأبيض والأسود، يحاول الفنان عبرهما تجسيد الطفولة المهمشة وإبراز عمقها من خلال التركيز على النور الإنساني الذي يشع من داخل كل طفل، كما نكتشف فيهما بساطة ساحرة في الشكل والمضمون، وتناغما في التقنية الدقيقة والحس الجمالي.

جانب من المعرض

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.