* * *

"لنعد خطوة إلى الوراء، لنقفز خطوتين إلى الأمام"، مثل فرنسي.
إذا بلغ الباروك في أوروبا ما وسمه الناقد الأول فازاري "بعصر النهضة" بعباقرته الثلاثة (خلال القرون الثلاثة 14 - 15 - 16)، فقد برزت روما كعاصمة فنية في ذلك العصر، واستمرت بعده حتى انتزعت منها باريس مع الانطباعية هذه المونوبولية، ثم انتزعت نيويورك مركزية ما بعد الحداثة منذ السبعينيات من القرن العشرين.

أما الواقعية فقد أثمرت في منزليات أمستردام ودلف، ثم إسبانيا (مع فيلاسكس وغويا). حمل إدوار مانيه هذه الحساسية إلى عقد الانطباعيين مع الواقعية المحلية (غوستاف كوربيه وميي). ناهيك عن تردد زعيم ومؤسس الانطباعية كلود مونيه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى لندن بصيغة دورية ليطلع على مناظر وليام تورنير، وحرائق البحر وغروبه مستلهمًا منها لوحة "انعكاس غروب الشمس" رمزًا للانطباعية الفرنسية.

بيت موندريان والتجريد الهندسي

* * *

تعدُّ "الانطباعية"، إذًا، رمزًا للحداثة في أوروبا، أثمرت من تحالف الفيزياء البصرية (ممثلة بالعالم شيفرول)، وبحوثها المشتركة مع كلود مونيه حول الهوية الضوئية ـ الزمانية ـ في الهواء الطلق للاحتكاك مباشرة مع أشعة الشمس وانعكاساتها وظلالها، تفرع عنها: التنقيطية، والوحشية، والأنبياء، وفان غوخ، وبول غوغان، ووازاها بول سيزان، الذي اكتشف حجوم الكلاسيكي "بوسان" أثناء تدربه في متحف اللوفر، وصدرت عن تجاربه النزعة التكعيبية بفضل بابلو بيكاسو، وجورج براك، ومجموعتهما.

بيرفورمنس (أداء مباشر) للفنان إيڤ كلاين

إذًا، ابتدأ تحالف الفيزياء البصرية مع مونيه (الحداثة)، ووصل إلى ذروته مع الفيزيائي اليوناني تاكيس (ما بعد الحداثة)، الذي أصبح فنانًا نحاتًا لأشعة ليزر، مصممًا لأوركسترا من المصابيح الليزرية الملونة المقادة بمنصة معلوماتية (سبرنيتيك). هو في الأساس مختص بالتواصل الفيزيائي بين الصوت والضوء، كاستمرار لأبحاث الحداثي وما بعد الحداثي في آن واحد هو فكتور فازاريللي.
إن تقاطع الفنون مع الفيزياء الحديثة (وعلى رأسها "فيزياء الشعث" ما بعد الحداثية في نيويورك) مثلًا يمثل في دوره التحول من الحداثة إلى ما بعدها. أنتجت "فيزياء الشعث" برامج سبرنية، مثل الفراكتال ووجولي، فتحول الأول إلى مدرسة تشكيلية ما بعد حداثية، اكتشف معادلتها العضوية عالم ألماني عام 1984، طبقت بعد سنتين ثم انتشرت في شتى مكاتب الكرافيزم، وأصبحت جزءًا من الثقافة التشكيلية ما بعد الحداثية.

تعرضت العام الفائت (في مقال لضفة ثالثة) لمعرض محوري أقيم في غاليري صالح بركات في بيروت، للفنان اللبناني الأميركي، نبيل نحاس، أول فنان عربي ينخرط في الفراكتاليزم. كما كانت منى حاطوم أول فنانة عربية (فلسطينية ـ لبنانية ـ إنكليزية) تستبدل قدسية لوحة الحامل بإيمائية الفيديو، وتدرسه في الجامعة. يمثل هذا البرنامج ذروة التواصل بين الفن والفيزياء الحديثة، وذروة التواصل بين أشكال زهرة النينيفار التي تعوم في بحرات ولوحات كلود مونيه، ومفردة الفراكتال النباتية التي تعتمد على اللاتماثل مثل الطبيعة. في الطبيعة لا توجد ورقتان متماثلتان، حتى ولو كانتا على الغصن نفسه. المهم أن نبيل نحاس استلهم لوحاته من هذا المختبر الفيزيائي المعلوماتي الفرضي. وهو ما يتناقض مع تعميم المقال الساذج الذي يقصر تجارب الفن العربي فقط على الحداثة، ويحرم فنانيها من تجارب ما بعد الحداثة، وهم نوعان: الانطلاق من التجريد (الغنائي أو الهندسي) يتحول إلى التجريد التعبيري مع جاكسون بولوك. صدر التجريد في مدرسة نيويورك عن "باريس" تجارب كلود مونيه الأخيرة، وحمل من باريس تحت الاسم نفسه الحداثي التجريدي الغنائي، سام فرانسيس الأميركي ليتحول إلى تجارب ما بعد الحداثة للتجريد منها: الحركي (كالدير) يدعى بالموبيل المتوازن، أو النحت المنماليست دونالد جود واختزالاته القصوى، ما بعد الحداثية. ودخل تعبير "السينيتيك" في ما بعد حداثة أميركا اللاتينية كمختبرات مستقبليّة مع "دييز" ومجموعته. نلاحظ، إذًا، أن انطلاقة ما بعد الحداثة لما بعد السبعينيات تصدر غالبًا عن تيارات حداثة ما قبل الستينيات.
فالبوب آرت ما هو إلا المدرسة الوحشية الفرنسية (هنري ماتيس)، عبرت إلى العالم الاستهلاكي حتى وصلنا إلى تصاوير آندي وارهول الشعبية بطباعة شاشة الحرير (السيريغرافي)، سواء عن تكرار وجه مارلين مونرو، أم رقص جيتار إلفيس بريسلي.
ثم من نهايات البوب آرت خرج فن "الغرافيتي"، وهمجية التصوير الخارج عن القانون في أروقة المترو، وجدران المدينة الصناعية (منه خرج باسكيا وقبله هارينغ)، ومات الاثنان بمرض السيدا لانتشاره في الأوساط العبثية أو الطقوسية (الزهور) بين جماهير وفناني الدهماء العامة، وجحافل الجماهير المتعاطية للمخدرات.

تجريد/ كلود مونيه

بقي، أخيرًا، العلاقة الجرمانية بين تعبيرية ماكس بكمان، وكروز، وغوتي غولفيتس، الحداثية، وعلاقتها بدادائية لوكسوس، يقابلها ما بعد حداثية همجية جورج بازلتز الانتحارية الإباحية. هو نفسه مسمى مريديه بـ"التعبيرية المحدثة"، أي الما بعد حداثية، كما سمى روشنبرغ مريديه بـ"الدادائية المحدثة"، أي دادائية بداية القرن العشرين عندما تحولت إلى ما بعد حداثية.

تستبيح شتى الوسائط البديلة عن لوحة الحامل رمز تيارات الحداثة المحافظة، من تعددية الوسائط رفعت الحواجز بين أنواع الفنون، فالبرفورمانس ما هو إلا طقس مسرحي يجري لمرة واحدة أمام الجمهور، تنطلق الفكرة دومًا من مختبر حداثة باريس لتتحول إلى ما بعد حداثة نيويورك. شهدنا ذلك مع تيار البيئة والإيكولوجية، وكذلك مع لاند آرت الأميركي مع هايزر وصحراء نيفادا، ولو عدنا إلى البرفورمانس لوجدنا مبادرته منذ ستينيات مختبر كلاين بالأزرق الإنديكو، وتبصيمات العاريات الزرقاء على الجدران، مثل رسوم ما قبل الكهوف، وقد استطاع بيير ريستاني (تعرضت له سابقًا) أن يصالح التنافس بين الحداثة الباريسية وما بعد الحداثة النيويوركية، من خلال معارضه المشتركة بين جماعة الواقعية الجديدة الباريسية والبوب آرت الأميركي، حتى وصلنا إلى تحول النحات سيزار من الواقعية الجديدة إلى ما بعد حداثة البوب آرت في "باهمه" العملاق العالمي المغروس في حي الديفانس (باريس الحديثة)، وساحل جدة (في العربية السعودية). ثم تحول روشنبرغ النيويوركي في المقابل من البوب آرت إلى الواقعية الجديدة المعدلة بالوثائق التصويرية المتبدلة المواقع من قبل الجمهور، بل وانتقل نشاطه إلى باريس.

دونالد جود والمينيماليزم

* * *

نتبين من هذه القفزات المقارنة عبر نصف قرن (قبل نهاية الحرب العالمية الثانية) ونصف قرن ما بعدها أن العلاقة بين تيارات الحداثة وتيارات ما بعد الحداثة علاقة ذات مسار تواصلي أحادي، مثل تاريخ الفن عادة، رغم ما توحي به تنوع الأطروحات النظرية، وتباعد الوسائط والمواد. إن رفع الحدود بين التصوير والنحت ابتدأ منذ الباوهاوس، وأفضلية الفكر على المادة ابتدأ منذ الدادائية الأولى في أوائل القرن العشرين، وموادية أنطوني تابييس تدين لمبادرات التكعيبية البيكاسية الكثير، وكذلك فضل كلين على البرفورمانس والآرت بوفيرا على الليزر آرت وقبلها التنقيطية على المستقبلية الإيطالية الكثير، ناهيك عن التحام وسائط الفيديو والفوتو والليزر والهولوغرام في التعبير الصوري. تيارات ما بعد الحداثة، إذًا، خرجت من رحم تيارات الحداثة من دون أدنى انفصال.