يقام حاليًا معرض بانورامي متجول للفنان الهولندي من أصل عراقي نديم كوفي، صاحب الشهرة العالمية، سيُنقل بعد انتهائه خلال شهر كامل (من 22/8 إلى 22/9/2021) إلى العديد من كبرى الصالات العربية. مكان العرض في دار وغاليري كلمات في إسطنبول (واحدة من أبرز صالات العرض المهاجرة، يديرها الأستاذ عدنان الأحمد).

والفنان من مواليد بغداد عام 1962 مـ. يمثّل أسلوب لوحاته توليفًا مركبًا بين دراساته الفنية الثلاث: الحفر والطباعة ثم النحت، وثالثًا التصميم. وتوليفًا ما بعد حداثي بين تيارات متداخلة ابتداءً من الفراكتاليزم وانتهاءً بالآرت بوفيرا مرورًا بأنواع الديجيتال والميديا. لعله من محاسن الصدف أن اسم الغاليري- كلمات- يقترب من عنوان المعرض: "كلمات عطار".

المقصود هنا الشاعر الصوفي فريد بدر الدين العطار صاحب رباعيات منطق الطير. فناننا استعار كلماته وثنوياته المرتبطة بمخطوطاته الطبية والعلمية على مثال تعبير "حلم - علم" ليضعها على منصة جبرية بمعادلة من الدرجة الأولى، ويملأ بذلك قماشته الطباعية. يحفل المعرض بمفاجآت توليفية من هذا النوع تعتمد على مواد غير كيميائية وردية أو رمانية - نيلية (انديكو) وسواها.

الخروج من جحيم الحرب

يصرح هو نفسه عن المتاهة السيزيفية التي عاناها ليهرب من أتون ما يسميه "النظام الفاشي للدكتاتور الأحمق" ومعاناته التي تدمي القلب مثل بقية جيله في بلاد الخدمة العسكرية المعادية للفن والثقافة، وكم مرة يحاول الهروب فيها من ثغور الحدود الفوضوية، يعاني كل مرة من الاعتقال والتعذيب والتنكيل. إلى أن فر إلى الموت المؤكد مع أربعين من المواطنين في خضم البحر على ظهر طوافة بالونية، مات البعض ونجا القليل، بما أنه كان يعشق فرنسا ولغتها وفنونها فقد حاول أصدقاؤه فيها الذين يدركون حجم موهبته أن يهيئوا له "فيزا"  دخول للدراسة. استضافه في البداية يوسف عبدلكي في باريس وما أن انتهت إلا وطردوه من كل العواصم الأوروبية وأعادوه إلى البلد الأم، ثم قبلته هولندا التي سبقه إليها الفنان المعلم علي طالب صديق أستاذه رافع الناصري وجيل ضياء العزاوي الذين أسسوا على بقايا الهزيمة في السبعينات جماعة الرؤية الجديدة. كان (لأصالته) تحت حمايتهم. وصلت لوحته متحف قطر وعمل بدخل ثابت كمدرس شاب في دائرة الفنون في عمان لتدريس الطباعة والحفر، يقول بأن سهمه الداخلي المشدود للهروب إلى أبعد ما يكون عن لعنة تجربته مع بلده لم تشف غليلها إقامته في عمان. لذلك طلب اللجوء السياسي إلى كل دول أوروبا ولم تقبله إلا هولندا ليعيش في منحة ملكية في إحدى مدنها أوترخت فتابع دراسته ومعيشته وإقامته فيها. درس التصميم والميديا واكتشف الديجيتال (والإنترنت الذي ظهر منذ 2001 مـ) إضافة إلى دراسته للكرافيك والطباعة والنحت سابقًا، تمزقت في تلك الفترة الدولة الفاشية قبل أن تحتل الولايات المتحدة البلد. أحس إثرها بأن نديم القديم دفن هناك. وها هو الجديد يؤمن بالإنسان المطلق العاري من الهوية والقومية والأيديولوجيّة. فقد إيمانه بالعاطفة واقتصر على ديكارتية العقل وأصبح البرهان سيد الشكوك، يشك في أصله، يظن من خلال ميوله للاختزال وهندسة الفراغ والعلاقة التوأمية الطاوية بين الفراغ والامتلاء المنظم وفق معادلات جبرية، وأيقن فعلًا أنه آسيوي، يملك جدًا يابانيًا عليه واجب البحث عنه.

ورشة عمل على هامش المعرض يكشف فيها نديم تقنيته الطباعية

وعندما هدأت قريحته اعترف بأنه يبحث عن أسلوب برزخي متوسط تلتقي فيه خصائص الشرق والغرب الفنية. وهكذا كان. بحث عن أهم ثنائية في كلمات العطار وهو الزواج الفلسفي الإبداعي بين "الحلم والعلم" وأنشأ لوحة جبرية من هاتين الكلمتين، يطبق بطوبوغرافيتهما "تناول الوسطين بالطرفين" في معادلة (الجبر والمقابلة) من الدرجة الأولى. وذلك تجنبًا للتناظر، ثم لم يجد في نفيه للتكرار (ضمن منظومة هندسة تعامدات رقعة الشطرنج) إلا في الفراكتاليزم الذي سبقه إليه اللبناني الأميركي نبيل نحاس، لعله من محاسن الصدف أن تعارفا وساعده بما يستطيع فأصبح الفراكتاليست الفنان الثاني من أصول عربية، ضمن آخر مستجدات تطبيق الفيزياء العضوية الحديثة في الفن (عن طريق برنامج فراكتال)، كما سنرى.

الفراكتالية ونظائرها

شرحت قبل أقل من عام مع تغطية معرض نبيل نحاس (في بيروت غاليري صالح بركات) بأن الفراكتالية كاتجاه ما بعد حداثي (الذي يجمع فناننا معه) أي ما بعد بداية التسعينيات حيث بدأ انتشار هذا الفيديو الثري بالتحولات النباتية اللاتماثلية والممكنة الحدوث في الطبيعة (على مثال غابات الأمازون)، ابتدأ من معادلة عضوية اكتشفها أحد علماء الفيزياء الألمان عام 1984 مـ، تحققت تطبيقاتها عام 1986 مـ وانتشرت في مراكز البحوث الأميركية قبل التسعين لتنفجر تأثيراتها منذ بداية التسعينيات في مراكز بحوث جامعة (فلوريدا النموذج). ثم أخذت نظائرها كبرامج تكتشف بالتدريج مثل "جولي" وسواه. أثبتت هذه المعادلة تناقضها مع نفس المعطيات الرياضية، فتوصل العلماء إلى نتيجة لعبت دورًا محوريًا في الفيزياء الفلكية الحديثة التي صححت ما بعد ألبير أينشتاين وستيفان كوكينغ باكتشاف "المادة السوداء" أو الرمادية التي لا ترى. ولعب تطور معرفة دور الضوء (بما فيه الليزر الملون) في الفضاء والبحوث الذرية على غرار آخرها وهو "La Méganique Quantique". واقتصر التأثير الفني على برنامج الـFractal.

تحولات على أوراق نباتية غير متماثلة-2020، ألوان زيتية على قماش

نتجت عنه تيارات كرافيكية وفنية خصبة التنوّع، ومنها معرض نديم كوفي الراهن. بما أنه معرض بانورامي نجد أن التجارب الفراكتالية الصرفة محصورة باللوحات النباتية ذات اللون الطبيعي: رمان - ورد - جوز إلخ. يتحدث نديم عن تأسيسه مجلة فنية الكترونية اسمها "دفتر" عام 2004 مـ ، توقفت بعد ستة عشر عددًا - ابتدأ فيها بشرح تقنية توليفية علمية. ثم تحول مع لوحته إلى فوضى الشعث والعشوائية المنظّمة في داخلها. يشير إلى خصوبة إثراء أسلوبه خلال أيام احترافه في قطر. وأن المعاني الجديدة لهذه المعرفة المعلوماتية (السبرنيتيك) لا يحتكرها "غوغل".

يعانق المعرض لوحات استثنائية بالنسبة إلى ما بعد حداثة الفن العربي، رغم التداخل النسبي (أو بالأحرى الجزئي) لديه بين حدود الفراكتاليزم والسينيتيك الديجيتال (بما فيه استثمار حروف العطار) والفن الفقير L'Art Povéra. وشرحت الثلاثة في مناسبات سابقة.

 كان لا بد من مبادرته: "ورشة العمل" موضحًا فيها سياق تطوّر لوحته من الرسم الهندسي للمنصة المتعامدة إلى ترصيعها بالوحدات سواء المتكررة أم المتغايرة، يلقب الأزرق النيلي غير الصنعي دورًا أساسيًّا Andico. مستعيرًا من الطباعة (والحفر) تناوبات السالب مع الموجب مما يعطي بهاءً حرفيًا باليد لتبصيمات الألوان التي يقع خلفها بعقود ثلاثة: برفرومانس أيف كلين الفرنسي، وهذا الموضوع يطول. لأن تيارات ما بعد الحداثة تداخلت في التسعينيات، واندمجت حدوده حتى بدت بعض مجاميعها وكأنها مدرسة إيكولوجية واحدة كما رأينا في الموضوع السابق بعنوان الهاجس الإيكولوجي وتيارات ما بعد الحداثة. بالطبع لا علاقة لتجربة نديم بذلك لأنه معاد للأدلجة في الفن ولكنه متأثر ببعض تقنياتها كرفع الحدود بين الفنون النخبوية والحرفية التطبيقية وهو ما أثاره مخبريًا في ورشة العمل، ابتداء من توخيه تجنب الهندسة والديجيتال المعلوماتي وذلك بإنجازه كامل العمل بيده مثل أي حرفي في الأسواق الشعبية.

حلم علم-2020، ألوان زيتية على قماش