}

"عودة".. بإيجاز عن الخراب والاغتراب والألم الذي عاشه السوريون

شآم المعرّي 7 مارس 2022
سينما "عودة".. بإيجاز عن الخراب والاغتراب والألم الذي عاشه السوريون
من فيلم "عودة" للمخرج والكاتب غياث المحيثاوي

يعرفُ كل من خدم في الجيش العربي السوري أن أبسط مقوّمات الحياة الكريمة غير متوفّرة للجنود في قطعهم العسكرية، من طعام كافٍ، أو تدفئة، أو ألبسة نظيفة، ناهيك عن غياب احترام إنسانية هؤلاء الجنود، أو حتى حياتهم. هو تفصيلٌ صغير ربما، لكنّه شديد التعبير عن صورة هذه "المؤسسة" القائمة على العنف والبذاءة والذكورية والفساد. لهذا ترى الجنود في إجازاتهم وكأنهم يعيشون صدمة أمام أبسط مظاهر الحياة المدنيّة.
يبدأ الفيلم الروائي القصير "عودة" (2022) بمشهد لشاب يجلس أمام غسّالة أوتوماتيكية، يتأمّل دوران بدلته العسكرية داخلها. لكن معالم وجه الشاب ونظراته الساهمة، وتحوّل صوت الغسّالة، في نهاية المشهد، إلى أصوات آليات عسكرية ثقيلة، يمهّد لقصّة تتجاوز هموم عسكري يحلم بثياب نظيفة!

أمل عمران في فيلم "عودة"




ـ الأم: عم باخد مهدّئات. نص العالم عم تاخد مهدّئات. الناس تِلْفِت. بس يالله، الأزمة بلّشت تخلص، هيك عم يقولوا بالتلفزيون.
ـ حسام: الأزمة؟ الأزمة كمان عم تاخد مهدّئات.

***

الفيلم الذي تجري أحداثه في دمشق مطلع العام 2013 يطرح قضية الصراع الذي عاشه عشرات الجنود خلال السنوات الأولى من الثورة السورية، ما بين اضطرارهم لتأدية الخدمة الإجبارية ضمن جيش يحاصر ويقصف قرى ومدنًا سورية، وبين رغبتهم في الفرار والانشقاق، بما يحمله هذا الخيار من تهديد حقيقي لحياتهم، ومعارضةً لإرادة أهاليهم الذين يرونهم "أبطالًا" يدافعون عن الوطن وعن شرف الأسرة!

أحمد كيكي وأمل عمران  

ـ حسام: بتكون إمو داعيتلو اللي بيطلع مداهمة وبيتصاوب إصابة خفيفة، رصاصة بتكسرلو إيدو، أو إجرو، أو كتفو. هاد بيعرف إنو راحت معو 3 ـ 4 شهور ما عاد يشوف الفوج.
ـ الأم: شو؟ عيب. عيب ع الرجال تفكّر هيك. على أساس هدول اللي عم يحمونا.
ـ حسام: في عساكر عم تكسر إيديها ورجليها قصدًا حتى تروح ع البيت.
ـ الأم: هدول لازم يعدموهن مو يعالجوهن.
ـ حسام: في ناس كتير، هاد الجيش نفسو اللي عم يخدموا فيه، محاصر ضياعهن، وعم يقصف أهاليهن.

أحمد كيكي 




النص الأصلي لسيناريو الفيلم كان قد أُنجز سنة 2015 بصيغة مسرحية، لذا نرى الحوار بين حسام ووالدته (أحمد كيكي، وأمل عمران)، الشخصيتان الوحيدتان في الفيلم، قادرٌ على إيصال أفكارهما وهواجسهما بلغة بسيطة معبّرة ومقنعة. لكن المخرج والكاتب غياث المحيثاوي لم يكتف بالحوار حاملًا وحيدًا لقصّة فيلمه، بل نجح في استثمار أدوات السينما لتحديد معالم شخصياته، وتقديم القصة، ومقولة الفيلم، بصورة بصرية مكثّفة.
بعد مشهد الافتتاح الهادئ والمتأمّل، يطالعنا فجأة مشهدُ يدِ الأم وهي تغسل وتعصر قطعًا من اللحم الأحمر. وأثناء مساعدة حسام لوالدته في طحن اللحمة لإعداد "الكبّة"، يشرح لها الإمكانيات السهلة لكسر يده، نراه يرتجل طريقة باستخدام ماكينة اللحمة بالذات، حتى أنه كاد يكسرها بالفعل لولا تدخّل والدته!
يكرّر حسام مرات عدة أنه لم يفعل شيئًا في حياته يجعله يشعر بالفخر. ولذلك يفكّر أن يموت شهيدًا، ويتخيّل نفسه مُكفّنًا ومحمولًا على أكتاف الناس الذين ينادون "حيوا على الشهيد"، في تعبير ضمني عن رغبته في أن يكون مع الناس الثائرين ضد النظام، الذين بات تشييع جنازات أبنائهم مشهدًا يوميًا. تلتقط والدته الفكرة بارتباكٍ وقلقٍ. ولذلك نراها تصرّ على إعطائه تلفزيونهم القديم ليكتفي بمتابعة الإعلام الرسمي الذي يؤكِّد أن "الأزمة خلصت".

عن حصار الجنود ضمن دور البطولة
في واحد من أبرز مشاهد الفيلم، وأكثرها تعبيرًا عن الصراع الذي يعيشه حسام، وعن إسار الاغتراب الذي يعانيه، نراه محبوسًا على السقيفة الضيّقة المعتمة ذات السقف الواطئ، تحيط به أغراض و"كراكيب" قديمة له ولوالده المتوفّى. يُخرجُ لعبة بلاستيكية رخيصة لفارس فوق حصان، يتحرّك بزنبرك ضمن علبة زجاجية صغيرة. يعيد حسام تشغيلها ثلاث مرات، ليراقبها بابتسامة مريرة، لعلّه يتذكّر طفولته عندما كان متحرّرًا من شرطه القاسي الذي يعيشه اليوم، أو يعيد التفكير في دور "البطل" الذي تفرضه عليه أسرته وجيرانه، ليرى نفسه محاصرًا مقيّدًا وشبه عاجز، كفارس اللعبة ذي الزنبرك! يتكرّر شروده، حتى أنه لا يسمع والدته حين تناديه من الأسفل، كما يتكرّر تحوّل صوت اللعبة إلى أصوات إطلاق الرصاص من سلاح رشّاش.
تجري أحداث الفيلم في غرفة واحدة، المطبخ، مع اعتناءٍ واضحٍ بالتفاصيل الصغيرة للبيوت السورية، من مكوّنات الفطور، وفنجان القهوة المقلوب بعد "التبصير" به، إلى المجلى المليء بأدوات الطبخ، إلى مَنشر الغسيل المعلّق خلف الباب، وصولًا إلى باب السقيفة المغطّى بستارةٍ خفيفةٍ.

عن الأساطير الوطنيّة المُكرّسة في وعي السوريين
قد يثير الفيلم نقاشًا ضروريًا حول الجيش السوري، وقيامه بممارسات إجرامية ضد الناس والبلد، ومساهمته في إحداث شرخ كبير في بنية المجتمع السوري. لكن الفيلم يقف عند المساءلة الأخلاقية لدور هذا الجيش خلال الثورة السورية فقط، وكأن حروبه السابقة كانت نظيفةً وواضحةً وتحظى بإجماعٍ وطنيّ!
في ردّه على والدته التي تذكّره بمشاركة والده في حرب لبنان 1982، يقول حسام: "أبي كان بيعرف مين عم يقاتل".
هل هذا صحيح، حقًا؟
نستذكر هنا الرسالة الإذاعية الشهيرة لزياد الرحباني في برنامج "بعدنا طيبين، قولوا الله"، مع المخرج الراحل جان شمعون، في نهاية سبعينيات القرن الماضي: "يا عسكر سورية، وقت دوّرتوا الدبابات، وزقّيتوا الصواريخ، بشو فكّرتوا؟ ما في حدا منكن فكّر مين رايحين نقاتل؟ ما حدا منكن تطلّع مقابيلو مين في بالميلة التانية حامل سلاح؟ ما بيّن عليكن شي فلسطيني؟ شي لبناني؟".



قد لا يكون متاحًا لفيلمٍ مدته ربع ساعةٍ فقط معالجة مشكلة بهذا الحجم من التعقيد والإشكال، سيما وأن جزءًا كبيرًا من مقوّمات الهويّة الوطنية السوريّة السائدة والمكرّسة في عقول قطاعات كبيرة من أبناء البلد (كحسام ووالدته في الفيلم) تحتاجُ نقاشًا جدّيًا، ومساءلة جذريّةً. لذلك، يُحسب للفيلم أمران، أولهما أنه قدّم هذا الموضوع ضمن شريط سينمائي بسويّة فنية جيّدة ستكون مشاهدته ونقاشه، الآن ومستقبلًا، مدخلًا لإثارة أسئلة ٍكثيرةٍ واجبةٍ بين السوريين حول المؤسسة العسكرية (جيش وأجهزة أمن) ودورها الكبير، منذ الاستقلال وحتى اليوم، في تشكيل معالم بلدهم ومصيره ومصيرهم معه. وثانيهما، رسالة الفيلم النبيلة في الانحياز إلى الجنود السوريين الذين قالوا لا لقتل أبناء شعبهم.

لماذا كان كل هذا؟
لا يستخدم المحيثاوي موسيقى تصويرية خلال الفيلم، ليكون استخدامه لها في الدقيقة الأخيرة فقط، حيث تخرج موسيقى أغنية من التلفزيون القديم. وبينما تقف الأم منشغلة بتحضير الطعام، تدندن لحن الأغنية، مديرةً ظهرها لابنها. نرى هذا الأخير وحيدًا في شروده وضياعه أمام القرار الذي يفكّر في اتخاذه. يتأمّل دوران بدلته العسكرية داخل الغسّالة التي يتحوّل صوتها في رأسه، مرة أخرى، إلى صوت مدرّعات عسكرية. لينتهي الفيلم مع انطلاق صوت محمد عبد الوهّاب في مطلع أغنيته "كل ده كان ليه؟"، في تأكيدٍ جديدٍ لرسالة الفيلم ودعوته لنا، كسوريين، لأن نشهر أسئلتنا عن كل ذلك الخراب والاغتراب والألم الذي عشناه، وعن أي فنٍّ، أدبٍ ومسرحٍ وسينما، صنعناه، أو سنصنعه، لنكون نحنُ، الآن وهنا.
شارك الفيلم في مسابقة الأفلام القصيرة للدورة 43 لمهرجان ماكس أوفولز السينمائي (16 ـ 26/1/2022).

روابط:
1- رابط فيلم "عودة" ضمن مسابقة الأفلام القصيرة لمهرجان ماكس أوفولز السينمائي:
https://ffmop.de/film_detail/movie-61b5ed2123f4f
2- رابط "يا عسكر سوريا" من برنامج "بعدنا طيبين، قولوا الله" لزياد الرحباني.
https://soundcloud.com/user-185072067/q4gbqwxk1mz3

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.