}

نساء ضد الاستشراق، أو استعادة الجسد المسلوب

فريد الزاهي 25 مايو 2022
تشكيل نساء ضد الاستشراق، أو استعادة الجسد المسلوب
"حريم"، للا السعيدي، 2010


في عام 2006، نظمت الفنانة التونسية المعاصرة مريم بودربالة معرضًا بعنوان "الصورة المنكشفة" شكل لحظة فارزة في تناول الاستشراق الفوتوغرافي، تتنطع فيه نساء فنانات لإعادة نظر أركيولوجية ومعرفية وتأويلية في النظرة الاستشراقية للجسد الأنثوي، والتي جعلت من هذا الأخير محطًا لكافة الاستيهامات. وشكّل هذا المعرض حدثًا ثنائي الدلالة؛ فهو من جهة جعل الفن الاستشراقي الفوتوغرافي يتقابل تاريخيًا وبصريًا مع الفوتوغرافية الفنية المعاصرة، انطلاقًا من نظرة تروم تفكيك الرؤى الاستشراقية للجسد الأنثوي العربي والشرقي عمومًا، وهو من ناحية أخرى كان توطيدًا لأسس فن عربي معاصر ظهرت تباشيره الأولى في تسعينيات القرن الماضي، باعتماده المتعدد على الجسد الشخصي والفوتوغرافيا والمشهدية الإنشائية والإنجازية. بيد أن البعد الأعمق والأكثر إثارة في الأمر يتمثل بالأساس في بناء نظرة "نسوية" ناقدة ومفجرة لما بناه الغرب من رؤى استيهامية كانت أجساد جدات تلك الفنانات موضوعا مُشرعًا ومتسيبًا لها.

من الاستشراق إلى الاستشراق الداخلي

لم يقف أثر الفن الاستشراقي كما تبلور في الغرب عند حدود بلورة رؤية غريبة وعجيبة عن المرأة في البلدان الشرقية والعربية. وهو لم يكتف (منذ إنجر ودولاكروا، مرورا بإتيين ديني وجيروم...) بالتأمل الحالم في جسدها المحجوب الذي تتوارى تفاصيله وراء الدثار أو الحجاب. بل إنه ابتكر هذا الجسد ابتكارًا في مختبره الذهني والعملي، بحيث إن الغانية (الأوداليسكا) كانت جسدًا هجينًا لها تداوير فينوس وملامحها. إنه فن شكل نساءه الشرقيات من خلال عوالم "ألف ليلة وليلة" كما ترجمها غالاند بتصرف كبير وبغير قليل من الإضافات الاستيهامية بدورها. كان الفنانون الأوائل يصنعون شرقهم بنسائه الخاملات وإمائه ووصيفاته انطلاقًا من خيال أوروبي وروماني في أحسن الأحوال، قبل أن يبدأ الكثير منهم من الترحال في هذه البلدان أو الاستقرار بها ليعيدوا تصوير هاته النساء من غير تجريد كبير للجسد، بعد أن تأكد لهم أن الأشباح النسوية التي يرونها تتحرك في الأسواق تحمل معها بصرهم المتلصص إلى بيوتها، وتكشف لهم بعين الغيب عن بواطن تلك البيوت المغلقة على الغريب وعلى الرجال.

"امرأة لمحمود سعيد"، رشا رجب، 2008/  غلاف كتالوج معرض مريم بودربالة "الصورة المنكشفة" 



لم يكن الفن التشكيلي وحده حامل هذا الاستيهام. فكلما تعمقت معرفة الفنانين الغربيين بالبلدان العربية، خاصة مع توطن الاستعمار فيها، كلما تخلى عن تجريد نساء هاته البلدان مما يستر أجسادهن، من غير أن يتخلى بالمقابل عن طابعهن الخامل الحالم المسترخي. بيد أن ما عجز هذا الفن عن القيام به في القرون السابقة على القرن العشرين استطاعت الفوتوغرافيا أن تمنحه مسرحه الماجن والمتداول. كان استقرار المصورين الفوتوغرافيين بتونس والمغرب كما من قبل بالجزائر فاتحة لارتياد الجسد الشرقي بنظرة تحول الفضاء الفوتوغرافي إلى مسرح للعري واستعراض مفاتن الجسد الأنوثي المحلي. وهكذا بنت العين الفوتوغرافية الاستشراقية استكشافها على مفارقة بيّنة: النظرة "المحايدة" للمناظر الطبيعية وللعوالم الحضرية، والنظرة الاستيهامية للجسد النسوي. فهذا الأخير كيان يستعصي على البصر ويشكل الجانب المعتم من هذه "الحضارة" الغريبة التي تخفيه في أعماق البيوت عن أعين الغرباء، أو بالأحرى الجانب المثير للفضول الكاشف. لذا لجأ المصور الاستشراقي (ثم المصور الكولونيالي) إلى تجنيد المومسات ليبني نماذجه النسوية تبعًا لنظرة إثنوغرافية تحتفي بشهوانية مشبوهة بجسد الآخر.



بيد أن هذه النظرة الاستشراقية سواء كانت ماجنة أو محتشمة سينتقل عدواها للعديد من الفنانين الحديثين في البلدان العربية، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وسوف يغدو تصوير الجسد الأنوثي العاري مجالًا لامتلاك تلك القدرة الفائقة على كشف الحجب وامتلاك الرؤية الجسورة التي، وإن غيرت من وضعية الأوداليسكا (أو الغانية)، فإنها مع ذلك تظل بشكل ما محاكاة لطرائق الكشف التصويري للأنوثة الشرقية. ذلكم كان الحال لدى محمود سعيد بمصر ومريم أمزيان وحسن الكلاوي بالمغرب وغيرهم.


تحرير الجسد من النظرة الاستشراقية

لا تعود تلك العدوى للوحة باعتبارها سندًا مشتركًا. فقد بلور العديد من الفنانين العرب المحدثين رؤى شخصية للجسد الأنوثي من خلال صياغته في سياقات اجتماعية أو حميمة مغايرة تمامًا (لؤي كيالي، نذير نبعة وغيرهما)، وتبعًا لمنظورات تسبغ عليه خطابًا مغايرًا متجذرًا في المتخيل العربي. لكن ممكنات الفن المعاصر وانفتاحاته وتعدديته الدلالية وبعده الاجتماعي والسياسي المكشوف أو الضمني، سوف يمنح للفنانات العربيات الفرصة الملائمة لاستعادة تاريخهن وجعله مسرحا لصراع الرؤى والمنظورات. وكأن تحرير المرأة يمر أولًا وقبل كل شيء عبر تحرير تاريخها وماضيها وإعادة بلورته انطلاقًا من ضرورات الحاضر. ذلك ما قامت به فاطمة المرنيسي فكريًا من خلال صورة شهرزاد، وذلك ما تنطعت له فنانات عربيات برؤى متقاربة وبلمسات متباينة.

"حريم"،  ماجدة الخطاري



لئن كانت التونسية مريم بودربالة تسربل جسدها الراقص في دثار شفاف يحجب تفاصيله ويكشف عنها في الآن نفسه، فإن تقنية التضعيف الفوتوغرافي يحول أعمالها إلى أجساد مختلفة في جسد واحد، ومن ثم إلى جسد متناثر الهوية والجنس والصفات. الجسد الأنوثي متعدد، يكشف ويحجب حسب هواه هويته المتعددة التي لا يمكن للتصوير الاستشراقي الإمساك به. وتجريد الجسد يغدو تبعًا لذلك ضربًا من الاغتصاب البصري الذي يلزم تحطيمه باستعادة ذلك الجسد الشخصي وتحويله إلى جسد ملتبس يملك معانيه المتعددة والمتوالدة، ولا يبوح بها إلا جماليًا. كما تمسرح التونسية هيلا عمار جسدها شبه العاري بشكل موارب وفي وضعية "مقدسة"، لتخلق المفارقة المعبرة عن قداسة الجسد ودلالاته المنفتحة على الوجود.

وتقوم الفنانة المغربية المقيمة بباريس ماجدة الخطاري باستخدام الفوتوغرافيا أيضًا لإعادة صياغة المشهد الاستشراقي للأوداليسكا بتغيير المواقع والتضخيم البلاغي الصارخ بالألوان والألبسة وكأنها بذلك تتلاعب بزمنية الصورة وزمنية تلقيها. هذه الخلخلة الزمنية هي ما يخلق المفارقة الساخرة التي من خلالها تتسلل الفنانة إلى صلب النظرة الاستشراقية للكشف عن أسسها الأيديولوجية وعن تفاهة نظرتها للمرأة العربية والشرقية. وتستمر هذه النظرة النقدية لديها بالحدة نفسها في مسرحة الحجاب الشامل (البرقة) من خلال عملية تعرية متقاطعة تبدو وكأنها من خلالها تستعيد امتلاك الجسد المغيَّب قسرا وراء أيديولوجيا المقدس. أما المغربية للا السعيدي المقيمة بأميركا، فإنها تحول أجسادها المحاكية للغانيات إلى مجال للكتابة والوشم. هكذا يتدثر الجسد بالطابع الروحي للكلمة ويغدو جسدًا متعاليًا عن الرغبة والشهوانية. فالكتابة تغدو لباسًا ثانيًا للجسد والحناء وشمًا يمنح عريًا كثيفًا للدلالات المتناسلة للأوضاع. إنها نظرة تتسلل للاستشراق لتسرق منه جوهر ما يستند عليه. وتمنحنا رشا رجب، الفنانة المصرية المقيمة بألمانيا، استعادات من نوع آخر للاستشراق من خلال تملك تأويلي شخصي لأعمال محمود سعيد ذات النبرة الاستشراقية. إنها تجعل من جسدها الأسمر موضوعا تحرر فيه نساء محمود سعيد من كافة الدلالات التي تسربلت بها، كي تجعلها تولد من جديد في بهاء آخر، وفقًا لمنظور ذاتي ينطبع بالهنا والآن. وكأن الفنانة تغزو تلك اللوحات وتتوحد بتلك الشخصيات وتسرقها من اللوحة لتمنحها حياة جديدة معاصرة تحررها من التباس الاستشراق الداخلي.

"الأوداليسكا الكبرى"، للا السعيدي، 2010

استعادة الجسد بمفارقات الصورة

لقد أدركت الفنانات العربيات المعاصرة أن التباس الاستشراق ينبع من مفارقة النظرة والموضوع، وأن قوته كانت تكمن في إمكان تصوير أجساد غير قابلة لذلك، ولا تملك عن نفسها سوى صور ذهنية وبلاغية صاغتها مخيلات الأدباء والشعراء والقصاصين والأخباريين. كما أدركن أن النسق (أو بالأحرى الأنساق) الاستشراقي الذي خلخله إدوارد سعيد من الخارج، يمكن خلخلته من الداخل وتفجير مسبقاته عبر سلبه موضوعه. إنها لعبة مرآوية تسعى إلى أن تسلب من الإرث البصري الاستشراقي قيمه البصرية المتمثلة في النظرة والموضوع في آن واحد، لتحوله إلى استيهامات خليقة بمتحف التاريخ الأيديولوجي. تستنطق هذه التجارب (وأخرى غيرها، لم نتطرق إليها هنا) الجسد الأنوثي من خلال كيانه الجسدي والفكري ذاته، باعتباره تجربة وجودية غير قابلة للامتلاك والاحتواء والاختلاف المتوحش الذي تفرزه عين الآخر الغربي. إنها ترفض أن يظل جسد المرأة الشرقية كيانًا مشرعًا، أو يتم تحويله إلى جسد إثنوغرافي خاضع للتشكيل والامتلاك بعنف يسلبه من ذاته وكينونته. وكأن هؤلاء الفنانات يخرجن الجسد الشرقي من اللوحات التي صاغت صورته، ليجعلن منه جسدًا حيًا، أو بالأحرى لكي يستبدلنه بجسدهن الحي وجسد مثيلاتهن، ويجردنه من كافة ما علق به من حمولات اصطنعها التاريخ والسلطة وإمبريالية النظرة. أو لنقل إنهن يحولن الجسد الاستشراقي والإثنوغرافي الذي يعتبره حريمًا إلى جسد حداثي قادر على تصوير نفسه بنفسه، وعلى قلب محددات النظرة التي رسخته بوصفه حريمًا أي جسدًا مستباحًا، والتي انتقدها بشكل قوي وباهر مالك علولة في كتابه "الحريم الكولونيالي" (1981). وهو ما يعني أن الحركة التي سميت ما بعد كولونيالية أو "لاكولونيالية" ليست حركة فكرية حصرا، وإنما أيضًا وبشكل أنجع حركة تحرير تاريخ البصر من طابعه الإمبريالي والأحادي، الذي يعتبر الآخر موضوعًا إثنوغرافيًا بامتياز؛ وأنه بحاجة لسياسات جديدة للفن لكي تعضدّ قوتها ومشروعيتها الشاملة. 

إنها لعبة خطرة ترتادها الفنانة العربية المعاصرة في حلبة الفن ومجالاته وتقنياته، أي في إحدى قلاع الحداثة الغربية التي استبقت السيرورة الكولونيالية ورافقتها وبلورت متخيلاتها. بيد أن تلك المجازفة أفرزت لنا تجربة بَيْنية يتجاور فيها الحوار والنقد والتفكيك والخلخلة والتقويض... وتمتح خصوبتها الأساس من كونها تصنع جسدًا جديدًا خاليًا من الاستيهام والغرابة والشهوانية الفجة... لأنه جسد مفكر ومبدع ويملك جسارة بصرية وإبداعية تواجه الآخر بالكشف عن حقائقه المحجوبة.       

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.