}

"أغنية راعية البقر".. سيمفونية الريف السعيد

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 7 مايو 2022

متحررًا، تمامًا، من دُوار العصر، يقترح الفيلم الأميركي الروائي الطويل "A Cowgirl's Song/ أغنية راعية البقر" المنتج قبل أيام قليلة (أبريل/ نيسان 2022)، من تأليف وإخراج تيموثي آرمسترونغ، عودةً حالمةً لزمن أغاني الريف وأجوائه، عندما تكون العربة التي يجرها حصان ليست مجرد لوحة فوق الجدار، بل حدثًا ممكنًا قادرًا على تقديم المساعدة، وتقريب المسافات، والانعتاق قليلًا من ضغط العالم الافتراضي، ووسائل تواصله، وكاريزمات خلاياه ومجسّاته، وساعات الأرق بسببه.
مقترحٌ فذٌّ يجعلنا نغض الطرف كثيرًا عن بساطة الأداء، وغياب الصخب الدرامي، والتخلص من مختلف مؤثرات سينما هوليوود واشتراطاتها وعُقَد تفوقها.
بوجوه شابة، وقيم اجتماعية دافئة، ومواقع تصوير أخّاذة على صعيد احترام الطبيعة البكر، والانحياز لمفردات الريف، وأخذ الوقت بلا أي تعجّل عند المرور على فلوات الدروب، وتصوير رحلة هالي (Savannah Lee May/ سافانا لي ماي)، وشقيقتها بروك (Darci Lynne Farmer، دارسي لاين فارمر)، من بيتهما الريفي إلى سجن المقاطعة لمقابلة والدهما الذي تعرض لعملية نصب حوّلته إلى متهم مطلوب منه دفع مبلغ 50 ألف دولار ثمن خروجه من السجن، ومختلف تطورات الأحداث بعد ذلك، وفيها كثير من الدروب والتصوير الخارجي المزدان بألوان مشعة بالحياة.
يريد منا "أغنية راعية البقر" تخيّلَ الحياة من دون أجهزة خليوية، ومن دون إنستغرام، وفيسبوك، ويوتيوب، وما إلى ذلك. يأخذنا معه في رحلة تخيّل ممكنة، تركب خلالها بطلة الفيلم هالي (أسماها والدها تيمنًا بمذنّب يزور الأرض كل 76 عامًا مرّة)، العربة التي يجرّها حصانها الأبيض الجميل، وتقطع مع شقيقتها مسافة 40 ميلًا للوصول إلى المدينة. يجنّ الليل، فتشعلان نار مسامرة القمر، وتعقدان جلسة محاورة النجوم.
رحلة ليست من دون معنى، ترافقهما خلالها أغاني الريف، في فيلم تشكّل أزياء الزمن القديم، من أحذية طويلة العنق، وطواقي الكاوبوي، وسترات التزيّن بالأزرار اللامعة، وما إلى ذلك، مفردات مهمة على صعيد توضيحه هويّته، وتفعيله سرديّته.
بالإشارة إلى مختلف ما تقدّم، وبالتقاط غياب الخبث الأدائي، وتسيّد حالة من الطيبة الجمعية، يصبح أسوأ ما يمكن توقعه شكلًا من أشكال الاستغلال الساذج لصوت هالي وقدراتها العزفية وكتابتها كلمات أغانيها. لا شرور دموية. لا خطط جهنمية. لا قلق قد يؤدي إلى الانتحار، أو قتل الآخرين. تغيب كثير من أمراض العصر، بل لعلها تختفي جميعها في شريط آرمسترونغ. تكاد تعتقد أنه فيلمٌ أبيضٌ تمامًا لا ملوّنين فيه، فإذا به يقدم نماذج مشرقة منهم. تكاد تظنه فيلمًا يخلو من جماليات السينما، فإذا بالأغاني وألحانها الريفية الهادئة وغيتاراتها الكلاسيكية عذبة الأوتار، تمنحك حصة وارفة الظلال من معارج الجمال.
بانتقال بعيد عن أي تعقيد من مشهد إلى آخر، يقدم لنا آرمسترونغ خلال (92 دقيقة) سيمفونية بهية الألحان تتضمن 11 أغنية، وتغوص عميقًا في سخاء البِشْر وتحليق البشائر. فيلم لكل العائلة، يبوح بأسرار الريف السعيد، يقدم مقاربة لِمخيال الناس الشعبيين ومرويّاتهم حول النجوم والنيازك. بعيدًا عن أي ترشيحات، يريدنا "أغنية راعية البقر" التحرر من اشتراطات الزمن الذي نحيا مختلف مصائبه، والانعتاق من ثقافة الأجهزة الذكية، ولا أعتقد أن هكذا رسالة تجعل من الأوسكار والجوائز هاجسًا. فيلم عن التحدي ومعجزة الإرادة، عندما تواصل فارسةٌ مسابقةَ قفز الحواجز رغم إصابتها بإعاقة دائمة.

هالي الطالعة من أسطورة النجوم في لقطة من الفيلم


تقول إحدى أغاني الفيلم:
"تحت الشمس الأليفة لا تحاصرني من الداخل.. فقط أطلق سراحي.. أعطني أرضًا.. مزيدًا من الأرض.. السماء المرصّعة بالنجوم فوقنا.. دعني أكون وحدي مع نسيم المساء.. فقط أطلق سراحي.. دعني أمشي على سرجي القديم تحت السماء الغريبة.. أريد أن أمضي نحو التلال، حيث يكون الغرب لحظة ندية من الصفاء.. أطلق لي العنان.. أطلقه لسرجي وروحي".




يظهر واضحًا في أغنية "لا تحاصرني" من كلمات روبرت فليتشر، وكول بورتر، والتوزيع الموسيقي لِماغي ماكلير، أن أغنيات الفيلم وموسيقاه تتقاطع مع رؤيته الجمالية، ورسالته الدلالية: الطبيعة البكر، الحصان وسرجه، الفضاء المفتوح، الانعتاق الحر العنيد، الليل المرصّع بالنجوم. إنه الفيلم القصيدة الطالعة من معلبات الزمن المعاصر ومكعباته الخانقة، لتقول لنا إن التحليق لا يزال ممكنًا، وكذلك الأغاني، على رأي أغنية عربية "لسّه الأغاني ممكنة".
أما عناوين باقي أغنيات الفيلم، فهي: "ابق على جانب الشمس المشرقة"، أو "ابق على الجانب المشمس"، من كلمات آدا بلينكهورن، و"أرض الحرية"، من كلمات آدا بلينكورنر، و"راعية البقر"، من كلمات ماغي ماكلير، و"شواطئ"، و"أنت تذكرني"، و"أميال قليلة عليك أن تقطعها"، ومذنب هالي  haleys comet، و"نجوم أوكلاهوما/oklahama stars"، و"وقت الاحتفال"، و"لابأس أمي/ thats olright, mama".
يحتفي الفيلم بمدينة تشيكاشا التي تتبع ولاية أوكلاهوما الشهيرة بمروجها الخضراء ومواردها الزراعية وغاباتها التي شكّلت في يوم من الأيام موائل للسكان الأصليين، وهو يكاد، حرفيًا، يقدم نفسه بوصفه قصيدةَ هذه الجبال الممتدة على امتداد مقاطعة غرادي التي تتبعها تشيكاشا، وأغنيات الدروب:
"حافظ على جانب مشمس من الحياة سوف يضيء طوال الطريق.. هنالك نفق مظلم ومقلق من الحياة.. وهنالك جانب مشرق ومشمس أيضًا.. وإن كنا نلتقي في الظلمة والصراع، فإن الجانب المشمس سوف يشاهدنا.. في غروب شمس الذي يتلاشى ببطء.. التفكير بفتى المدينة يجلب الذكريات..". تتجلى في هذا المقطع من أغنية "ابق على الجانب المشمس" فكرة الصراع بين النور والعتمة، بين الخير والشر، بين اللحظات والرغبات.
عندما يتسنى لهالي وشقيقتها إقناع جدتهما (والدة والدهما) بالعودة إلى الغناء، وهي التي كانت نجمة شهيرة من نجمات الغناء الريفي، وعندما توافق الجدة كونهن يردن جمع المبلغ الكفيل بإخراج ابنها ووالد الصبيّتين من السجن، فإن الفيلم يكون قد وصل لحظة الذروة الموسيقية الجمالية فيه، مع أغنية تتشارك أداءها وغناء مقاطعها هالي مع جدتها النجمة إيرين مايز (أدت دورها بلمسة دافئة الممثلة شيريل لاد):

هالي وشقيقتها بروك في لقطة من فيلم "أغنية راعية البقر" 


"تسرج وتقود عبر الجبل.. إنها دائمًا تنتقل من الأمس نحو اليوم. تسرج وتقود السيارة عبر الجبل.. تقود العربة.. تقود الحصان.. الجمر في النار يتلألأ.. كانوا أحباء.. ولكن ثمّة شيء مفقود. اليراعات ترقص في السماء.. إنها حرة.. مثل العصفور الأزرق يطير برشاقة.. قمر الصيف ساطع.. بارك الله براعية البقر.. في غروب الشمس الذي يتلاشى ببطء.. الغرب ينادي من مسافة.. بإيمان من فوق.. أتمنى لو كنت لك.. أدعو كل شيء أن يكون على ما يرام.. أتمسك بأحلامي بقوة.. كنت أجلس هنا.. أفكر في كل الأشياء.. لا أستطيع معرفة صوتك الرقيق.. يتحدث معي.. أنت تذكرني.. سأنتظر طوال الليل.. لست مضطرة للقيام بذلك.. لديّ قلب مرهق.. وروح قلقة.. أنا أنت وأنت أنا.. أسمع صوتك يقول لي.. ذراعاك ستتحكمان بي.. من يتحكم.. نعم أنت ذكرني.. تسرج وتقود عبر السهل.. مرّت سبعة أيام منذ مغادرة تشيكاشا.. إنها تنتقل دائمًا من الأمس.. قمر الصيف مشرق.. بارك الله في كل راعية بقر.. اليراعات ترقص في السماء.. لم أكن أعرف ما الذي أفتقده حتى رأيتك بجانبي.. سر في اتجاه الشمس، ودع الظل خلفك".




لا بد قبل رفع قلم كتابة مادة حول فيلم "أغنية راعية البقر" من الإشارة إلى المشاركة اللافتة للمغنية وكاتبة كلمات الأغاني ماغي ماكلير/ Maggie McClure، التي قرر المخرج جعلها داخل أحداث الفيلم بأدائها التمثيليّ، إضافة إلى مشاركتها الرئيسية في كتابة كلمات الأغاني، وتلحينها وتوزيعها موسيقيًا. وقد أجادت ماغي بدور مادي إيفانز.
وقبل الختام، فإن رسالة الحب ظهرت ساطعة ناصعة في المشهد الأخير، عندما ظفرت كل قصص الحب داخل أحداث الفيلم بنهايات سعيدة تكللت بخروج الأب عبر مرافعة المحامي المتقاعد الأستاذ دانييلز (بيل جنكنز)، الذي أراد أن تكون مرافعته هدية حب وارتباط بالنجمة المخضرمة إيرين مايز، وكان له ما أراد. أما المبلغ المجموع فقد تبرعوا به لِـ(مادي)، التي تعاني من مرض غريب، ليصبح الإيثار في الفيلم رديفًا للحب، وعنوانًا للمحبة، ولحنًا آخر طالعًا من سهول الريف الخضراء ناصعة النقاء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.