}

جديد السينما

ضفة ثالثة 15 يونيو 2022

(إعداد: م. جميل خضر)

 

فيلم Operation Mincemeat

بدون سابق إنذار، ولا ترتيبات مسبقة، أصبح العاشر من تموز/ يوليو 1943، بوصفه يومًا من أيام الحرب العالمية الثانية، كابوسًا يقلق ليل القوى الجاسوسية والاستخباراتية البريطانية. إنه اليوم الذي الذي حدده رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (1874-1965) موعدًا لأكبر إنزال في حينه فوق شواطئ جزيرة صقلية (أكثر من 100 ألف جندي وآلاف القوى اللوجستية والمدافع والذخائر والعتاد والآليات والمدرعات)، ولم يقتصر إعلانه هذه النية لمحيطه وقواته، بل أبلغ الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1882-1945) بنواياه تلك، وبالتالي، أصبح ذلك اليوم، تاريخًا ملزمًا لإنجاز ذلك الإنزال. الإرباك الذي وُضِعت فيه قواته المقاتلة والأخرى المخابراتية والجاسوسية بسبب تعهدات تشرشل تلك، هو موضوع الفيلم الدرامي الحربي الإنكليزي الطويل operation mincemeat "عملية اللحم المفروم"، من إخراج جون مادِن عن واحدٍ من الملفات البريطانية حول الحرب التي وثّقها الكاتب الإنكليزي بِن ماكنتاير في كِتاب حمل الفيلم اسمه، وكتب السيناريو له مايكل أشفورد.

بدون انحرافات تقريبًا عن النص المتعلق بتفاصيل تلك العملية الاستثنائية، يصنع مادِن ومن معه شريطًا سينمائيًا ممتعًا، لا يدير الظهر لمختلف عناصر الفن السينمائي ولغته ومؤثراته وميكانيزمات بهجته. الموسيقى حاضرة، وكذا الإضاءة والكوادر والألوان ومواقع التصوير والأداء التمثيلي المقنع اللافت ومتواليات التشويق وملامح الإبهار. ولكن الأهم من كل هذا وذاك، برأيي، هو التصاعد الدراميّ الجميل والمتعلّق بتورط الفريق الذي يشرف على الحبكة الجاسوسية بالقصة التي نسجوها من وحي خيالهم، فإذا بها، تلك الخدعة الكبرى، تصبح من لحم ودم وتكبر وتتفاعل أمام أعينهم. والقصة أن الجاسوسية البريطانية كُلِّفت بتدبير حيلة محبوكة بعناية لإيهام هتلر ورايخه أن الإنزال سيكون على شواطئ اليونان، وليس صقلية. وأن تكون حيلة غير تقليدية ولا تحتوي على نقاط ضعف، وغير قابلة للشك أو التكذيب. من أجل كل هذا وذاك اقترح الرائد تشارلز تشولمونديلي (الممثل ماتثوي ماكفادين Matthew Macfadyen) خدعة تتلخص بأن يحضروا جثة ويوصلوها لشواطئ إسبانيا التي تبنّت الحياد، تقريبًا، طيلة سنوات الحرب، على أنها جثة ضابط بريطاني كان مكلفًا بإرسال رسالة لقواته والحلفاء تتضمّن معلومات كاذبة عن الإنزال في اليونان وموعده وأهميته، وأنه غرق خلال محاولته تأدية مهمته وإيصاله الرسالة. إلى هنا الأمر عادي ولا يخرج عن نطاق العمل المخابراتي الذي يحتمل كل ألاعيب الظلام وتفتقات الخفافيش، إلا أن الطرافة الكبرى داخل أحداث الفيلم وصيرورته، تحققت عندما بدأ الفريق المكوّن من تشولمونديلي نفسه، ومعه الرائد أوين مونتاجو (الممثل كولِن فيرث Colin Firth) والزميلتان جين ليزلي (الممثلة كيلي ماكدونالد Kelly Macdonald) وهيستر ليجيت (الممثلة بينيلوب ويلتون Penelope Wilton)، بتعميق الفكرة، وتعزيز فرص نجاحها، وخلال اجتماعاتهم الليلية المكثفة اتفقوا على أنه لا بد أن يكون لهذه الجثة اسم وتاريخ وملامح وسرديتها الخاصة بها، فهو مثلًا بحسب مواصفات الجثة وملامحها لا بد أن له صديقة يواعدها كلما كان ذلك ممكنًا. ومن المفترض أنه يضع صورة لحبيبته في جيب سترته، وهكذا تكبر الفكرة ويصير لها رجلان ويدان. ولكن الأكثر بلاغة داخل الشريط، أنهم وبعدما اختاروا جين نفسها لتكون محبوبة الجثة التي باتت تحمل اسمًا هو ويليام مارتن، وتحمل رتبة رائد في القوات البحرية الملكية، وبعدما أخذوا صورتها (منحوها هي الأخرى، بوصفها حبيبة وليام، اسمًا جديدًا هو بام) لوضعها في البزة العسكرية التي سيلبسونها للجثة، بدأوا يتقمصون دور الجثة، ويتقربون لا شعوريًّا من جين/ بام، وبدأت، حتى الغيرة، تتسلل إليهما. مرّة يقدّم لها أوين خاتمًا على اعتبار أن ويليام لو كان حقيقيًّا فحتمًا كان سيفعل ذلك. مرّة يستأذنها تشارلز برقصة يفترض أن ويليام يفضلها عن غيرها من الرقصات.

لقطة من فيلم Operation Mincemeat



حتى خلال اختيار الجثة فإن دقة الاختيار وحساسيته كانت حاضرة بقوة، فهي لا بد أن تكون جثة رجل قوي عمره بعمر من يؤدّون الخدمة العسكرية، وأن تكون في ذروة حركيّتها ولياقتها، وعليه وقع اختيارهم على جثة الشاب غليندور مايكل، الذي توفي بسبب تسمم انتحاري محتمل، ولم يمض على دخوله الثلاجة سوى يوم واحد، ولم يزره وقت احتضاره في المستشفى أحد من أقاربه، أو معارفه. جثة مثالية، أضافوا عليها اكسسواراتهم، وضخّوا في عروقها الباردة أفكارهم، فأصبحت رفيقة سهراتهم، تشاركهم، حتى موعد إرسالها للبحر المتلاطم الأمواج، جلساتهم ويومياتهم وأشجانهم.

باستثناء هذه التفصيلة، وتفصيلة أخرى تتعلق بالأمور (المشينة) التي اقترفها عميلهم الكابتن ديفيد أينسوورث (الملحق البحري البريطاني) في إسبانيا لضمان حصول المخابرات الألمانية على محتويات الحقيبة التي كان يحملها الرائد ويليام مارتن (لم يختر الاسم من عبث، فهو اسم شائع بين أفراد وضباط البحرية الملكية البريطانية)، فإن باقي أحداث الفيلم تتحرك في إطاريْن رئيسيْن: إطار الجاسوسية وتشويقها، وإطار الحروب ومعاركها ودمائها وويلاتها.

إنه فيلم عن المرئي (الجنود على الجبهات) والمخفي (الصراع الاستخباراتي الجاسوسي) في القصة، أي قصة، عن القنابل والشجاعة والموت والأمل، ولكن أيضًا عن الظلال الرمادية، وغابة المرايا، عن الحدس والغريزة والزمن الصعب التي عانت منه أوروبا قبل أن تتخلص من طاغيتها الكاسح العنيد هتلر.

بغض النظر إن كان ثمة أفلام أخرى قبل "عملية اللحم المفروم" قد تناولت قصة الجثة الجاسوسية وخدعة صقلية، ومنها، على سبيل المثال، وكما يؤكد بعض النقاد، فيلم "الرجل الذي لم يكن" The Man Who Never Was المنتج عام 1956، استنادًا إلى كتاب صدر عام 1953 يحمل الاسم نفسه من تأليف الرائد إيوين مونتاغو Ewen Montagu، أحد المشاركين، كما أسلفنا بالعملية، إلا أن للفيلم الجديد نكهته الخاصة به، إضافة إلى أنه مناسبة جيدة لمن لم يحضر الفيلم القديم، ويعشق، إلى ذلك، هذا النوع الخاص من أفلام السينما.

من الجمل اللافتة في الفيلم الطويل (128 دقيقة) المنتج نهايات العام 2021: "الحقيقة في الحرب الجاسوسية محمية بواسطة حارس الأكاذيب". "مصير العالم الحُر تتحكم فيه جثّةٌ وعربةٌ وحمار"، وهي الجملة التي قالها تشارلز عندما وصلت الجثة الشواطئ الإسبانية، وعثر عليها صيادون بسطاء، ووضعوها على عربة يحملها فوق ظهره حمار.

لقطة من فيلم The Perfect Family 


 
فيلم The Perfect Family

متمثلًا الروح الحقيقية لمصطلح كوميديا الموقف، ينساب الفيلم الإسباني الروائي الطويل The Perfect Family، أو La familia perfecta بالإسبانية، أو "العائلة المثالية" بالعربية، مثل انسياب الماء العذب في أوردة العطش. عن نصٍّ لـ Olatz Arroyo أولاتز أرويو، يقدم لنا المخرج Arantxa Echevarría أرانيتكسا إيشيفاريا على مدى (110 دقائق)، وجبة مهضومة خفيفة الظل من الأجواء الأسرية بمختلف تفاصيلها وأنوائها ومآلات المرأة (سيدة البيت) خلال صيرورتها.

القصة تقليدية ومكررة مئات المرّات، بابلو (كونزالو راموس) ابن الطبقة الراقية الذي يقع في غرام سارة (كارولينا يوستي) بنت الطبقة الشعبية، التي تتمتع، إلى ذلك، بروح متمردة، تلقائية، حارّة. الفرق، هنا، بالمعالجة، ببث روح المعنى داخل عروق هذه الثيمة المعروفة، وبكيفية إدارة إيشيفاريا لمتوالية الأحداث، وبلاغة الحوارات، وظرافة المواقف.

ورغم المنعطف الانحداري الذي قسم ظهر منتصف الفيلم المنتج نهايات العام 2021، وكاد يفقده الروح التي بدأ بها، إلا أن جملة من القضايا والموضوعات، من مثل علاقة المدينة بالقرية (انتقل أهل سارة إلى الأحياء الجنوبية في العاصمة، قادمين من قرية صغيرة جنوب مدريد اسمها سوريا)، يمرّ عليها الشريط بسلاسة معقولة. هموم المرأة الأم والعاملة في الوقت نفسه. الذائقة الموسيقية وتبايناتها. كيفية إنعاش العلاقة الزوجية بعد قطعها سنين من المعاركة اليومية والتعوّد الوجدانيّ.

 

فيلم Father Stu

إن أكثر ما يلفت النظر، ويمكن الإشارة إليه، في الفيلم الأميركيّ الروائيّ الطويل Father Stu "الأب ستو"، سيناريو وإخراج روزاليند روز Rosalind Ross، هو التحوّل الصعودي الذي قادته مخرجته، وأدّت إليه متوالية أحداثه؛ من فيلم مضجر أميركيّ نمطيّ غير لائق بامتياز، إلى فيلم راقٍ بخلجاته الإنسانية الإيمانية الحوارية التي جعلت له معنى، وعوّضت الدقائق الطويلة (124 دقيقة) لمتابعته حتى النهاية.

يعيش ستيوارد لونغ Stuart Long (الممثل مارك والبارغ Mark Wahlberg)، حياة فظّة جافية مستهترة مستعلية، يؤمن فيها بقبضته وقوة لكمته فقط. يعاني من ذاكرة مشروخة بسبب موت شقيقه الأصغر منه طفلًا لم يتجاوز الخامسة من عمره، ومغادرة والده بيل لونغ Bill Long (ميل جبسون Mel Gibson) بيت الأسرة بعد حادثة القتل المروعة التي راح ضحيتها ابنه الصغير. شخصية متعالية من المنطقي أن ترفض الرضوخ لنصائح الطبيب الذي شخّص لديه مرضًا عضالًا يصيب العضلات بالضمور والحياة بالخطر. ويظل الغرور والطيش عنوان أيامه إلى أن يسقط صريع كل حساباته الخاطئة. لم يسعفه الحب، فعندما مال قلبه فعل ذلك مع كارمن (الممثلة تيريزا رويز Teresa Ruiz) الكاثوليكية اللاتينية المتديّنة المؤمنة. المفارقة أن أحداث الفيلم ومآلات تلك الشخصية المتناقضة، توصلنا إلى نتيجة معاكسة، فستيوارد لم ينقذه، في نهاية المطاف، إلا الحب. على أنه طوّر هذا الحب، فمنحه معناه الشموليّ الواسع، وقرر أن يترهبن ويدخل عالم القساوسة.

عن قصة حقيقية دارت أحداث الفيلم المنتج حديثًا (2022) عن العصيان والإيمان، عن التسليم والتصالح مع حقائق الكون واشتراطات الوجود: "الحياة الدنيا مهما طالت، هي مجرّد محنة مؤقتة تعدنا بالمجد الأبديّ"، عن الشك الضروري بوصفه دربًا للإيمان اليقينيّ: "حتى المسيح دخل قلبه الشك" يقول الأب ستو في شهادته المؤثرة بنهايات أحداث الفيلم، ويقتبس لتعزيز كلامه ما قاله المسيح وهو على الصليب: "يا إلهي.. يا إلهي.. لماذا تخليتَ عنّي". الحب الذي لم نعثر عليه ببدايات الفيلم أصبح قفلته: "نال يسوع العذاب الذي نستحقه نحن لأنه أحبنا. الحب يجعل الرجل السّيءَ مؤمنًا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.