}

"شكرًا لأنك تحلم معنا": في فعالية النقد الاجتماعي وطرافته

سينما "شكرًا لأنك تحلم معنا": في فعالية النقد الاجتماعي وطرافته
مُنح الفيلم جائزة الإسكندر الفضيّ للإخراج
الفيلم أتى من عند الجيران، ويا لهؤلاء الجيران الذين لا يكتفون بالقدوم بل بأخذ الجوائز وتحميس الجمهور وزرع الابتسامات والضحكات في دار عرض ممتلئة على آخرها. كان الفيلم الفلسطينيّ "شكرًا لأنّك تحلم معنا" لليلى عباس مشاركًا في إحدى مسابقات مهرجان سالونيك السينمائيّ الدوليّ التي يطلق عليها "لقاء الجيران"، هي مخصّصة لأفلام من مناطق قريبة من اليونان تُعتبر جارة مثل تركيا وجورجيا ورومانيا وأوكرانيا وإيطاليا وفرنسا وتونس وفلسطين.
في المهرجان الذي عُقد من 31 تشرين الأول/ أكتوبر وحتى 10 تشرين الثاني/ نوفمبر، مُنح الفيلم الإسكندر الفضيّ للإخراج مصحوبًا بجائزة نقديّة قدرها 5 آلاف يورو. المخرجة الفلسطينيّة حقّقت فيلمًا جاذبًا من مشاهده الأولى بحكايته وشخصيّاته وأسلوب إخراجه، وهذه الطرافة في التعامل مع قضيّة اجتماعيّة مهمّة دون إثقال ولا دروس. المثير في "شكرًا لأنّك تحلم معنا" هذا المرور العاجل إنّما الفعّال على قضايا أخرى خاصّة وعامّة متساوية في أهمّيتها، أو أكثر مصيريّة أو أقلّ تأثيرًا من القضيّة الرئيسيّة التي يقترحها النصّ السينمائيّ. هكذا، شمل الفيلم حياة أسرة فلسطينيّة من طبقة متوسّطة بما يحيط بها من احتلال وسلطة محليّة وقوانين غير منصفة، وما يساورها من قلق وهموم وما يُفرض عليها من ظروف اجتماعيّة، ومشاقّ حياة تأتي هنا مضاعفة عن غيرها من مدن وبلدان أخرى، بسبب وضع سياسيّ خاصّ، وهذا أقلّ ما يمكن وصفه به.
تضع الشقيقتان نورا (ياسمين المصريّ) ومريم (كلارا خوري) نفسيهما في قضيّة شائكة بعد وفاة والدهما. لقد رحل قبل أن يتمكّن من تحويل مبلغ كبير من المال لهما، والتركة ستقسّم وفقًا للشريعة الإسلاميّة إلى نصفين، واحد إلى الأختين والنصف الآخر لأخيهما المهاجر إلى الولايات المتّحدة. ومن خلال شعورهما المشترك بالعدالة تقرّر الأختان، ليس بسهولة بالنسبة لمريم، وضع خلافاتهما واختلافاتهما جانبًا للوقوف في وجه نظام التركة، وتصمّمان على المطالبة بما تعتقدان أنّه حقّ لهما، أي حصّة مماثلة لحصّة أخيهما الغائب الذي لم يهتمّ يومًا لا بهما ولا بأبيه المريض، كما لم يكلّف نفسه يومًا القدوم لزيارته، بل حتى السؤال عنه بانتظام.
يُبنى السيناريو (كتابة ليلى عباس) إذًا على قضيّة حسّاسة تتعلّق بالإرث ويتعامل معها الإخراج بذكاء شديد على نحوٍ يجعل التعاطف مع سعي الأختين بديهيًّا. إنّه ينتبه لإعطاء مبرّرات مقنعة لدوافع تصرّف يبدو للوهلة الأولى غير محقّ ولا شرعيّ تجاه الأخ. كما يورد تبريرًا آخر يتعلّق بأسباب عدم قيام الأب، وهو مريض، بفعل ما رغب به قبل موته، أي تسجيل التركة الماليّة باسم الابنتين، ويعطي ذريعة تتعلّق بعدم استحقاق الأخ لمال الأب. كلّ هذا بدا مقنعًا حتى لشخصيّات أخرى في الفيلم (نسائيّة بالطبع فالخال رفض مسايرتهما)، وهذا بفضل سيناريو متين وإخراج يثير إعجابًا بأسلوبه السلس الخفيف الوقع والفعّال في عرض قضيّة شائكة ونقد اجتماعيّ مدعّم بطرافة ساخرة، ساعده في هذا اختيار ممثّلتين أدّتا الدور على نحو لافت بعفويّته وتمكّنه.




لكنّ اختلاف شخصيّتي الأختين في أسلوب حياتهما وتعاملهما مع الآنيّ اليوميّ والطارئ وذلك على خلفيّة اجتماعيّة عامّة، كان كذلك أحد أبرز ما بُني عليه الفيلم في معالجة غنيّة بيّنت نظرة كلّ شخصيّة للمجتمع ونوعيّة العلاقة مع الآخر القريب والبعيد. ومن خلال محاولاتهما التآلف، ويمكن القول التآمر معًا لتحقيق هدفهما، يعمل الفيلم زمنيًّا، خلال فترةٍ محدّدةٍ بالوقت القصير الذي يمكن معه إبقاء ميّت راقدًا في بيته بانتظار الدفن (الأب). إنّه إذًا زمن محسوب على الشخصيّات لاستغلاله بالكامل. فيما تعدّدت الأمكنة (بيوت، شوارع المدينة، المصرف، مكان عمل) التي يجب تبرير التحرّك ضمنها على نحوٍ لا تبدو معه مُقحمة أو هي هنا لمجرّد التنويع.
في بناء تنجزه المخرجة بفعاليّة ذكيّة ورهافة إحساس، تعبّر مريم الأخت الكبرى المتزوّجة بدقّةٍ عن كثير من ربّات البيوت في العالم العربيّ، في عصبيّة كامنة وظاهرة، في توتّر علاقة مع زوج وأولاد، في إنهاكٍ مبعثه واجبات منزليّة لا تنتهي ولا تثير التفات أحد ولا تعاطفه (في العالم العربيّ خاصّة)، في إهمالٍ مبرّر من الزوج (من قِبَله طبعًا) يمنح شعورًا بإحباط. إنّها شخصيّة حقيقيّة، رُسمت بأمانة، ويأتي التعاطف معها من صدقها وشعور بتجسيدها حالات واقعيّة.
إنْ الفيلم، الذي صوّر في رام الله قبل الحرب، يتناول قضيّة اجتماعيّة حسّاسة ولم يتمّ ذلك بدون مرور عابر وفعّال على وضع الفلسطينيّين في إسرائيل والضفّة (بين نهب سلطة وتنكيد إسرائيل كما تقول نورا)، ويبدي الضغوط التي تخضع لها النساء عازبات كنّ أم متزوّجات، كلّ هذا في أسلوب سرديّ مقتصد ومكثّف يعتمد إيحاءً وتخمينًا لا سيّما عن حال امرأة كانت يومًا جميلة وذكيّة ومحبّة ومحبوبة وباتت تقريبًا على عكس ما كانت عليه. إنّ تطوّر شخصيّة مريم مع تقدّم السرد يتيح تصوير لوحة متكاملة عن عائلة من الطبقة المتوسّطة، من اختلاف أسلوب تربية بين أب حازم أحيانًا ولا مبالٍ معظم الأحيان وأمّ عاطفيّة، إلى تعب زوجة تهمل نفسها وزوج باحث عن علاقة خارجيّة مُبَرَّرَة بالنسبة له بالطبع. عن أخت ساخرة، متمرّدة، مستقلّة ربّما بأكثر ممّا يمكن أن يرضى عنه مجتمعها المحيط، عن شكل عائلة يتغيّر ويغيب عنه التضامن والتوافق والتسامح... والأهمّ أنّه يحكي عن الفلسطينيّين كما هم في مجتمعهم، يعطي لهم المساحة الكاملة للظهور والتعبير لكن بدون أن ينسى الاحتلال كخلفيّة في لقطات لمظاهرات احتجاجيّة. إنّه فيلم نسائيّ عن الحياة اليوميّة وضرورة التغيير، وهو مليء بالتوتّر والذكاء ومشبع بالطرافة والمشاعر الرقيقة ضمن قيود النظام الأبويّ والوضع السياسيّ في فلسطين بنبرة مثيرة للاهتمام وعناصر فكاهيّة غير متوقّعة؛ كأن يبيّن ارتباط حياة الفلسطينيّين بالوضع الفلسطينيّ حتى فيما يتعلّق بشأن حياتيّ خاصّ، يتمثّل هذا عبر ما تقوله مريم بعد اعتراض عائليّ على قرار بالطلاق اعتُبر في غير وقته: "هل عليّ أن أنتظر تحرير فلسطين حتى أتطلّق؟!".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.