تلتقي الواقعيّة السحريّة بملحمة عائليّة عظيمة في "بيدرو بارامو"، أوّل ظهور إخراجيّ للمصوّر السينمائيّ رودريجو برييتو. يطوّع برييتو عينه السينمائيّة الثاقبة في واحدة من أكثر روايات المكسيك تأثيرًا والتي تغوص في حكايات الأشباح والذكريات التي تتسلّل عبر الزمن، ليتبع سيناريو ماتيو جيل بنية نصّ خوان رولفو، وهو الأمر الذي أثار النقاش حول الفروق بين النصّ الأدبيّ الأصليّ والعمل السينمائيّ المقتبس، والفروقات بين الرواية والفيلم، مع التركيز على التحوّلات التي تطرأ عند نقل عمل أدبيّ كلاسيكيّ إلى الشاشة.
انقسمت الآراء بين من أشادوا بالعمل ومن انتقدوه. رأى بعض النقّاد أنّ الفيلم قدّم تجربة بصريّة مميّزة تستحقّ المشاهدة، بينما شعر آخرون بأنّه خان روح الرواية الأصليّة من خلال تبسيط الحبكة والابتعاد عن الرمزيّة العميقة. على الجانب الآخر، استطاع الفيلم أن يُعيد تسليط الضوء على الرواية وجذب جيل جديد من القرّاء الذين ربّما لم يكونوا على دراية بهذا العمل الأدبيّ العظيم.
الواقعيّة السحريّة والعمق النفسيّ
لا تعتبر رواية "بيدرو بارامو" فقط، حكايةً بسيطةً عن البحث عن الأب، بل هي تجربة أدبيّة فريدة تمزج بين الواقعيّة السحريّة والغوص في النفس البشريّة. تدور القصّة حول خوان بريثيادو الذي يعود إلى قرية كومالا النائية بناءً على وصيّة والدته للبحث عن والده (بيدرو بارامو). لكن عند وصوله، يكتشف أنّ القرية ليست كما تخيّل؛ إنّها مدينة أشباح يسكنها الموتى الذين يروون قصصهم، وينقلون القارئ إلى عالم موازٍ حيث تختلط الحقيقة بالخرافة.
تُستخدم الواقعيّة السحريّة في الرواية لتصوير مشاعر الفقد والوحدة والتقاطع بين الحياة والموت. من خلال أصوات الشخصيّات التي تتحدّث من العالم الآخر، ينسج خوان رولفو نسيجًا متداخلًا من الحكايات التي تعكس الفساد، والحبّ، والخيانة، والفقر، والطمع، الأمر الذي جعل الرواية عملًا مفتوحًا على العديد من التأويلات. فكلّ العناصر السابقة تؤدّي إلى "المأساة الشكسبيريّة" التي تدور حول رجل ضائع في الطموح الأنانيّ والرغبة الشخصيّة، وهي قوى الجشع والحبّ التي تتصادم وتؤلم روحه في كثير من الأحيان. من الصعب ألّا تضيع في فيلم "بيدرو بارامو" حتى مع ضياع الفيلم في حدّ ذاته في النهاية، حيث يتّخذ شكلًا سينمائيًّا أكثر كلاسيكيّة لا ينجح تمامًا. ولحسن الحظّ، فإنّ جاذبيّته السرياليّة - المدعومة بإحساس بالشوق المأساويّ - قويّة بما يكفي لتتردّد صداها في نفس المشاهد طوال فترة العرض.
الوفاء للنصّ
عندما قرّرت (نتفليكس) تحويل "بيدرو بارامو" إلى فيلم، كان التحدّي الأكبر هو كيفيّة نقل هذه الأجواء الفريدة إلى الشاشة. فالواقعيّة السحريّة، بما تحمله من غموض وتعقيد، تُعدّ واحدة من أصعب الأساليب الأدبيّة ترجمة إلى السينما.
وكذلك مع التركيز على الجانب البصريّ والرمزيّ للعمل، محاولًا إعادة خلق الأجواء السحريّة للقرية عبر الصورة السينمائيّة. فمع كلّ قصّة عن والد خوان، ينتقل الفيلم بسلاسة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - في بعض الأحيان في نفس اللقطة. تتحرّك الكاميرا بين الغرف التي تبدو وكأنّها تتكشّف فيها عقود مختلفة، حيث تنبض شوارع كومالا الميّتة وجدرانها الكئيبة بالحياة بألوان زاهية، وتبرز المساحات الخضراء المحيطة.
فبينما تعتمد الرواية على بنية سرديّة غير خطّيّة، حيث تتنقّل الأحداث بين الماضي والحاضر، وبين الحياة والموت، بأسلوب قد يبدو مشتّتًا - ولكنّه يخدم فكرة العمل- التي تهدف إلى تشويش الحدود بين الواقع والخيال، في المقابل، يسعى الفيلم إلى تبسيط الحبكة لتناسب المشاهد العاديّ. الترتيب الزمنيّ للأحداث تمّ تعديله ليصبح أكثر وضوحًا، مما جعل الفيلم يفقد بعضًا من غموض الرواية.
في الرواية أيضًا، الشخصيّات ليست مجرّد أدوات سرديّة بقدر ما هي رموز تعكس صراعات اجتماعيّة ونفسيّة. بيدرو بارامو نفسه شخصيّة معقّدة تجمع بين القسوة والضعف، رمز للسلطة الفاسدة التي تدمّر كلّ ما حولها. ولكنّ الفيلم، رغم محاولته تقديم أداء قويّ من أبطاله، لم يستطع الغوص بنفس العمق في تعقيد الشخصيّات، ربّما بسبب محدوديّة الزمن السينمائيّ. فظهرت شخصيّة خوان بريثيادو على سبيل المثال في الفيلم بشكل أكثر سطحيّة مقارنة بالرواية، وتحوّلت من شخصيّة تأمّليّة "أدبيًّا" إلى دور أكثر وظيفيّة لتسيير الحبكة سينمائيًّا.
النصّ مقابل الصورة
إحدى أبرز نقاط القوّة في الرواية هي الأجواء الموحية التي خلقها رولفو باستخدام اللغة. القرية الميّتة، أصوات الأرواح، والظلال التي تتحرّك بين الحياة والموت هي عناصر تجعل القارئ يشعر بأنّه عالق في عالم متداخل بين الواقع والخيال. لتحمل الأحداث طابعًا رمزيًّا يعكس صراعات اجتماعيّة وسياسيّة في المكسيك، مثل الفساد والسلطة والقمع.
حاول الفيلم ترجمة هذه الأجواء بصريًّا من خلال التصوير والإضاءة والموسيقى. كانت المشاهد التي تظهر كومالا كقرية خالية تعكس الخراب والصمت مؤثّرة للغاية، لكنّ البعض رأوا أنّ الفيلم افتقر إلى "الحسّ الشعريّ" الذي ميّز الرواية. وركّز بشكل أكبر على الجانب الإنسانيّ للعلاقات بين الشخصيّات، مما أدّى إلى تقليل التركيز على الرمزيّة الأوسع التي تميّز الرواية.
ولكون السينما وسيلة تعبير مختلفة عن الأدب، وتعتمد بشكل أكبر على الصورة والإيقاع البصريّ، هذا أدّى إلى ضرورة حذف أو تعديل بعض المشاهد والحوارات في الرواية. أبرزها المشاهد التي تتضمّن أصوات الأرواح وكانت بارزة في الرواية، لكنّها في الفيلم اعتمدت على المؤثّرات الصوتيّة والبصريّة، وهو ما جعلها تفقد بعضًا من تأثيرها الروحيّ على المتلقّي.
تظلّ رواية "بيدرو بارامو" عملًا أدبيًّا خالدًا يصعب تكراره أو محاكاته، لكنّ الفيلم قدّم رؤية جديدة للعمل تناسب الجمهور المعاصر. بالنسبة للبعض فإنّ الاختلاف بين الرواية والفيلم ليس عيبًا بقدر ما هو انعكاس لاختلاف الوسيطين الفنّيّين: الأدب والسينما.
وبينما يظلّ القارئ أسيرًا لسحر الكلمات في الرواية، يمكن للمشاهد أن يجد في الفيلم تجربة بصريّة تستحقّ الاهتمام، ليبقى السؤال المطروح: هل يمكن لأيّ عمل سينمائيّ أن يوازي التعقيد والجمال الموجود في النصوص الأدبيّة؟ ربّما تظلّ الإجابة معقّدة مثل "بيدرو بارامو" نفسها.