تتميز الفنانة البصرية الفلسطينية رنا بشارة بأكثر من جانب، من بينها أنها من روّاد ومجدّدي ما يعرف بالفن المفاهيمي أو المفهومي، علاوة على أنها حوّلت نبتة "الصبّار" التي تعبّر عن حالة الصمود والإصرار والتواجد الفلسطيني إلى ثيمة دائمة في جلّ أعمالها الفنية، حتى يمكن وصفها بـ"فنّانة الصبّر"، بما يحمله اسم هذه الفاكهة من دلالات، علاوة على كونها فنانة مشتبكة بالمعنى الحقيقي، فتجدها بين الأسرى، وفي مسيرات العودة، وفي الميدان، من حيث لا تتوقع، بأعمال فنية تدمج التجريب بالأدائي، ما جعلها تتعرّض للاعتقال على أيدي جنود الاحتلال مؤخرًا، وللضرب أكثر من مرة، فابنة ترشيحا في الداخل الفلسطيني المحتل، والتي تؤكد أنها تعلمت الكثير من والدها، لا تزال تؤرق الاحتلال.
وتقدّم بشارة مقاربات سياسية نضالية عبر أعمالها التركيبية، ما يجعل منها حالة فنية تقدّم رؤية متجدّدة لعلاقة الفن بالهوية والذاكرة والمكان.
بدأت بشارة حواريّتها مع الشاعر والأكاديمي الفلسطيني إيهاب بسيسو، ضمن سلسلة حواريّات "تأريخ الفن"، في مكتبة رام الله العامة، مؤخرًا، بعرض فيديو يوثق لزيارتها إلى قطاع غزة، قبل ربع قرن، وحواريّاتها مع العامة، هناك، وتنظيمها لمعرض في قرية الحرف والفنون، التي تلاشت بفعل صواريخ وقذائف الاحتلال في حرب الإبادة المتواصلة منذ ما يزيد عن أربعة عشر شهرًا، ما يعكس حالة من الارتباط العضوي مع غزة، وأهلها المحاصرين منذ سبعة عشر عامًا، والذين تعرّضوا ويتعرّضون لإبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
في الفيديو رافقها الطفل شادي، مشيرة، وهي غير قادرة على حبس دموعها، إلى أنها على تواصل معه منذ عام 1999، أي منذ زيارتها الأولى إلى غزة في إطار مشاريع فنيّة مبنية على فكرة ياسر عرفات المتعلقة بسفينة العودة، وقد التقت بالطفل شادي بينما كانت تجمع التراب من شاطئ غزة لتصنع سفينة كانت تدرك بوعي الفنانة أن أول موجة بحر ستدمرها. وشادي بات نازحًا لأكثر من مرة رفقة زوجته وطفليه، بعد نجاتهم من موت محقق لأكثر من عشر مرات... "مع المحرقة المتواصلة اليوم، والمزيد من النزوح واللجوء داخل غزة، والتي أتمنى ألا تكون هجرة منسية كحال اللاجئين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، أي خارج قراهم التي هُجرّوا منها، ولكن في داخل الجغرافيا المحيطة، أدركتُ أنني كنت محقة فيما يتعلق بسفينة العودة الهشّة".
وفي معرضها بغزة، حينذاك، كان الصبّار الذي لا يزال ثيمة أعمالها المحورية، صاحب الحضور الطاغي، ومن بين الأعمال كان "الصبّر المخلّل"، والذي يندرج في إطار الفن المفاهيمي أو المفهومي، وهنا استذكرت حادثة جمعتها مع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في مركز خليل السكاكيني بمدينة رام الله، حيث كان مكتبه:
"أتذكر شاعرنا الكبير محمود درويش كان قادمًا إلى مكتبه في السكاكيني، وكنت منشغلة بمعرض شخصي... يبدو أنه صُدم حين شاهدني وأنا جالسة على الأرض، وأقطّع الصبّرات... واضح أن المشهد استفزه حدّ أنه سألني بنبرة حادّة بعض الشيء ماذا تفعلين بالصبّار، وبتلقائيتي تركت ما في يدي وأخذت أحدّثه عن مشروعي، وأنني أريد صناعة مخلّل منه كعمل، فاطمأن، قبل أن أهديه عملًا مبنيًا على نصه الشهير ‘أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي‘، حيث كان الرغيف في إطار اللوحة، التي بقيت معلقة في مكتبه، حتى تم اجتياحه وسرقة عديد محتوياته وتخريب أخرى في عام 2002".
ومرطبان "الصبّر المخلّل" بالنسبة لرنا بشارة كما القنبلة الموقوتة، فمع الوقت وبسبب طبيعة المرطبان الضاغطة، يبدأ الصبّار بالتحلّل، لكن يحافظ على هيكله وشوكه، وكأنه تعبير عن الشعب الفلسطيني عامة، وعن الفلسطينيين الصامدين على أرضهم، رغم كل القوانين والممارسات العنصرية الإسرائيلية بحقهم، منذ عام 1948، وما قبله.
وكشفت بشارة أنها من عائلة فنية، فوالدها كان فنانًا صائغًا يصنع مشغولات ذهبية وصفتها بالأعمال الفنية، وكان له تأثير إيجابي كبير في مشوارها الفني، متجهة إلى الصبّار، قبل أن تكتشف "الذهب الذي بداخله"، وتعني أليافه، وباتت تكوينًا محوريًا في عديد أعمالها ومشاريعها الفنية، حيث كان يصحبها في صباحات بلدتهما ترشيحا، وهي طفلة في الخامسة أو السادسة، ليقومان سويًا بجمع ثمار الصبر، ومن ثم يقوم الأب بتقشيرها، وهي بالتقاطها من بين غلافها الشائك إلى الوعاء، قبل الاستمتاع بطعمها الذي "لا يتكرر"، خاصة أن ترشيحا محاطة بالمستوطنات، وما تبقى من أرض عائلتها لا تزال تحتفظ بمخزونها من الصبّار والزيتون. ولم تغفل بشارة الإشارة إلى دور جدّتيها كما والدها (وجميعهم تم تهجيرهم من بلداتهم الأصلية عام 1948) في تشكيل وعيها السياسي، كما الظروف التي عايشتها طفلة ويافعة في بلاد لم تعد بلادها، وباتت "مواطنة" دون مواطنة، أو بدرجة دنيا في أفضل الحالات، مع أنها من أصحاب البلاد الأصلانيّين.
وكانت انتفاضة الحجارة عام 1987 وانعكاساتها مباشرة على تشكيل الوعي الوطني والفني لبشارة، التي كانت لا تزال طفلة، في السادسة عشرة من عمرها، مستذكرة حين كانت عند شقيقتها في "بيت حنينا" بالقدس، وسمعت عن طفل اعتقله جيش الاحتلال، بينما كانت والدته تقلي الفلافل، فغطوا يده بالزيت المغلي، وكأن هذا الزيت المغلي لا يزال يعتمل في دواخلها، ويخرج أعمالها في كل واحد منها انتفاضة ويزيد.
وأشارت إلى أن من بين الحكايات المؤسّسة في مشوارها، حين توجهت وهي طالبة في جامعة حيفا، إلى حي "الحليصة" العربي الفلسطيني المهمش هناك، بحيث توجهت رفقة أحد الطلاب إلى ما تبقّى من الحي، وأخذا يجمعان "الصبّر". ومنذ ذلك الوقت، كانت بداية أخرى مع هذه النبتة، فبعد فترة ليست ببعيدة، نقلت مائة لوح من النبتة الشوكية المرتبط تواجدها بتواجد الفلسطيني، من طيرة حيفا، وقامت بتعليقها رفقة الحجر العربي الأصيل على بقايا جدران بناية عربية ناجية من عملية هدم صادمة بالنسبة لها بعد سنوات من الغياب عن المدينة، فكان عملها الفني الميداني "صرخة الوادي" على جدران البناية في حي "وادي النسناس"، وكانت المفاجأة أن "صبرات جدد" نبتت على ما تبقى من جدار فلسطيني.
ولم تقتصر علاقة أعمالها الفنية بغزّة على هذا المعرض، فكان بعد سنوات عملها الذي كان عبارة عن رضّاعة الأطفال المليئة بالدبابيس، والتي تم إدخالها إلى القطاع بطريقة ما، وبمساعدة الفنان باسل المقوسي، ابن غزة، تم تعليق نسخ مكبّرة منها على بنايات كبيرة هناك، باتت الآن رُكامًا، وكذلك "صليب الصّبر"، وغيرها من الأعمال التي باتت أيقونات كبيرة كعمل "خريطة الطريق" مثلًا، والذي يصلح لأن يكون عملًا فنيًّا تعريفيًا ومبهرًا في آن بالقضية الفلسطينية، كما الكثير من أعمالها حول قضايا بعينها كقضية الأسرى، وقضية النكبة، وقضية الاستيطان، وقضية الشهداء، وغيرها، وعن حالات بعينها، أو أخرى مناسباتية، كما عملها الذي شاركت فيه بجنازة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، أو عملها عن الروائي الذي استشهد في زنازين الاحتلال وليد دقة.
أمّا عملها الفني الميداني حول الفنان الشهيد ناجي العلي، وإعادة استنساخ قبره، ونقله بطريقة ما إلى حيث بلدته الأصلية "الشجرة" في الداخل المحتل عام 1948، بمشاركة من تبقى من أهل البلدة، فهذه حكاية بحدّ ذاتها، حالها حال عملها المتكرر "المناولة بالزيت والزعتر والخبز"، والمستوحى من طقس مسيحي للتعبير عن جسد ودم فلسطين، أو عملها الفني "تاريخ معصوب العينين"، وغيرها، وصولًا، إلى الخبز المخيّط المحشو بالكفن، في محاكاة للموت جوعًا أو في طوابير الباحثين عن أرغفة خبز في أنحاء قطاع غزة، في أيامنا هذه.
والفن المفاهيمي (Conceptual Art) يعتمد في جوهره على الفكرة أو المفهوم كعنصر أساسي يقوم عليه العمل الفني، ويكون لها أو له، أي الفكرة أو المفهوم، الأسبقية في التمثيل على أي عناصر جمالية أخرى للعمل، فالأولى بالطرح والمناقشة هي الفكرة، ولكن ما تميّزت به بشارة في هذا السياق هو عدم إهمالها للجماليات، التي تتخذ طابعًا مفاهميميًا مغايرًا أيضًا للجماليات بمعانيها المجرّدة، فهي على عكس المفاهيميّين من فناني العالم لم تتنازل عن المحتوى الجمالي لا طواعية ولا قسرًا، وإن بقي فنّها يشكّل تمثيلًا صريحًا ودقيقًا لعناصره المنحازة لقضية شعبها بالاتّكاء على منتج فكري، فشكّلت مشاريعها وأعمالها، الحقل الذي من خلاله ربطت الفن بالوطن واقعًا وذاكرة ومفهومًا وفلسفة، لكونها تنحاز في المقام الأول إلى الحياة، والإنسان، وقضاياه الوجودية، التي هي قضاياها في ذات الوقت.
واتّسمت مفاهيمية رنا بشارة باستخدام أقل عدد ممكن من العناصر لإيصال الفكرة، فاعتمدت التبسيط، بحيث باتت من روّاد ما بات يعرف بـ"التصغيرية" (Minimalism)، أي التعبير عن الفكرة باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات والأدوات في العمل الفني، ولكن في إطار الفن المفاهيمي ذاته، بحيث لم تكن رائدة للتصغيريّة في فلسطين، بل للتصغيريّة الفاحصة، القائمة على التفكيك، حيث التخلص مِن ثقل العناصر في الأعمال الفنية للتعبير عن أثقل التساؤلات، بزهد وتقشف لكن بدون هشاشة، وكأنها تحاكي النص المفاهيمي الدرويشي بأن: "لي حكمة المحكومِ بالإعدام: لا أشياء أملكها لتملكني".
ومما يميّز أعمال بشارة أيضًا هي تلك المفارقات التي تولد الدهشة، والفن دهشة أيضًا، وتعكس حالة من التوتر الإيجابي، إن جاز التعبير، والنابع من كونها ليست فقط فنانة مشتبكة، بل ملتحمة بقضايا وهموم شعبها، على كامل الجغرافيا الفلسطينية، وفي المهاجر والمنافي أيضًا، وصادقة بعمق، وبرؤية تبدو بسيطة ومباشرة، وهي كذلك، ولكن فيما وراء العمل ثمة فلسفة غير عابرة، وهي ليست "فلسفة" بالمعنى الدارج المبني على الفوقية لدى العامة.
إنها وببساطة فنانة حقيقية في زمن العديد من السرابيّين، تعلنها ولو ضمنيًا أنها ضد الشكل، وضد تعقيداته وغموضه أو نظامه السياقي أو تتابعه الزمني، وأنها منحازة للرؤى المتعددة، وللهامش، ما يؤكد أن ضميرها لا يزال ينبض بالحياة، وأنها لا تزال على قيد التواضع الذي يرفعها فنيًّا ويزيد من منسوب محبة الناس العاديّين لها، وتقدير كبار نقاد الفن لما تقدّم كفنانة تعي الحالة التي تعيشها كما أبناء شعبها، وتصرخ عبر فنها بتعبير لا تسطيح فيه، ولا نخبوية زائفة، فالفن لديها ليس ترفًا، بل تعبيرًا عن إنسانيتها كفنانة عضوية وكفلسطينية، تقاوم عبره ومنه وفيه عنصرية الاحتلال، ومحاولات تحويل اللاعادي إلى عادي، أو محاولات تزييف الوعي والمحو وتعميم اليأس بصرخات من دواخلها، تخرج على شكل مشاريع وأعمال فنيّة، وتواصل الاشتباك على طريقتها في فلسطين وخارجها.