}

"تعويذة بابا": الأسرة حصن الإنسان في زمن الحرب

ضفة ثالثة ـ خاص 23 ديسمبر 2024
سينما "تعويذة بابا": الأسرة حصن الإنسان في زمن الحرب
المخرجة الأوكرانية ليسيا دياك
تقديم وترجمة: سمير رمان

عرض الفيلم الوثائقي "تعويذة بابا/ Daddys Lullaby" للمخرجة الأوكرانية ليسيا دياك (Lesia diak) في عدد من المهرجانات السينمائية الأوروبية. وكان العرض العالمي الأول للفيلم في آب/ أغسطس في مهرجان ساراييفو.
بعد ثلاث سنواتٍ قضاها في جبهات القتال، يعود سيرغي زينتشوك، المحارب المخضرم، إلى بيته، حيث كانت زوجته وأبناؤه في انتظاره. يستمع المشاهد إلى حوارات سيرغي الصريحة حول الحرب وعن تأملاته حول الحياة. غير أنّ نهاية الفيلم جاءت مخيبة للآمال، إذ ترك سيرغي بيته وعائلته بعد ولادة ابنته.
وكانت دياك قد أخرجت الفيلم القصير "تحت جنح الليل" عام 2023، الذي يدور حول ابنةٍ صغيرة تلتقي بوالدها الجندي بعد أشهرٍ عديدة من الغياب. في فيلمها الروائي الطويل الأول، تواصل دياك استكشاف موضوع الأسرة والحرب، وتتطرق إلى قصص عن محاولات الجنود الأوكرانيين، الذي لم يروا زوجاتهم وأطفالهم منذ سنوات، العودة إلى الحياة الطبيعية. فهل من الممكن حقًّا أن تعود حياة الجنود طبيعية بعد كلّ ما مرّوا به على جبهات القتال.
هنا ترجمة لحوار أجرته إذاعة راديو سفوبودا مع المخرجة ليسيا دياك:

لقطة من فيلم "تعويذة بابا"


(*) كيف تعرفت على سيرغي؟ وما الذي جاء أولًا، القصّة التي أردت تقديمها، أم البطل؟
أثناء عملي على مدونةٍ مخصصة لصديقات وزوجات العسكريين والمحاربين القدامى، قررت في مرحلة ما صنع فيلم وثائقي بالاعتماد على نصٍّ متعمق في هذا الموضوع. وكنت على استعدادٍ لتكريس بضع سنوات من حياتي لمثل هذه البحث. وأثناء استقصاءاتي، كنت أبحث عن أبطال الحرب من خلال المنظمة العالمية "مركز تشغيل الأحرار". أولًا، وعندما كان سيرغي لا يزال في الخدمة، وجدت زوجته، وعملت بالتعاون معها طيلة ستة أشهرٍ على فيلم بحثي حول عائلتها. لكنّ الفيلم الحقيقي بدأ مع عودة سيرغي. أوضحت له أنّ قصّته هي في الوقت نفسه قصتي الشخصية المشابهة جزئيًا لقصّته. لذلك أجد من المهمّ أن أرويها. بطبيعة الحال، وجدت صعوبة في انتزاع موافقته للمشاركة في الفيلم، فهو لم يكن بالشخص السهل أبدًا. لذا كان عليّ البدء ببناء علاقة معه عبر عملية طويلة جدًا، وتمكنت في نهاية الأمر، بعد أن شرحت له مهمتي، من انتزاع موافقته.

(*) من المفترض أن يكون الحبّ موضوع الفيلم، في حين يجده كثيرون فيلمًا عن الاستبداد. هل كان سيرغي يرى نفسه دكتاتورًا في أسرته؟
بصراحةٍ، ليس لدي إجابة عن سؤالك. ومع ذلك، فهم سيرغي وضعه جيدًا، وشعر في لحظةٍ ما أنّ زوجته بدأت تبتعد عنه، وتوقف الأطفال عن الإصغاء إليه. أخذ سيرغي الأمر على محمل الجدّ، ولكنه لم يتقبّله ببساطة، وكان يجد صعوبة في الحديث عن هذه الأمور. أحاول دائمًا أن أكون حذرةً قدر الإمكان، فالعلاقات العائلية أمر معقّد وصعب ومربك للغاية. من ناحيةٍ أُخرى، تمثّل الأسرة للفرد مهدًا ينمو فيه، ويحاول اكتساب المهارات الأساسية حول كيفية التواصل مع الآخرين. ولكنّ بالنسبة لأسرة سيرغي، فقد دمرت الظروف التي فرضتها الحرب هذه القاعدة. أدرك سيرغي أخطاءه الأبوية، وفهم أنّ طريقته في التعامل مع الأطفال لم تكن جيدة دائمًا. يتمتع الجندي العائد من الحرب بالقوة الأخلاقية، ولكن في نهاية المطاف طغى دور الطاغية على سلوكه. لا بدّ أن صراعًا داخليًّا قويًّا كان يدور في داخل سيرغي، إذ لم يستطع أن يسامح نفسه لتركه عائلته، ولم يستطع أيضًا أن يغفر لنفسه أنّ الجنود الذين تلقوا تعليماته لم يعودوا من الحرب. غير أنّ الاستبداد في الأسرة موضوع مختلفٌ.

(*) في الفيلم، يُنصح سيرغي بمراجعة طبيبٍ نفسيّ. ألم تجد نصائح الطبيب نفعًا معه؟
لم يستشر سيرغي أيّ طبيبٍ نفسيّ أبدًا. لقد كانت لديه أحكامٌ مسبقة عن الطبّ النفسي تكونت عبر تجارب مرّ بها رفاقه. كان أحد اصدقائه مدمنًا على الكحول، فذهب إلى طبيب نفسي، وأنهى حياته أثناء فترة العلاج. لم يثق سيرغي يومًا بعلماء النفس، ولا بالأطباء النفسيين، ولم يتمّ تشخيص أيٍّ من اضطرابات صدمة ما بعد الحرب لدى سيرغي، ولهذا تجنبت الحديث عن التشخيص في الفيلم، وتطرقت فقط إلى الصدمات النفسية التي تسبّبها الحروب. ولهذا لم أُدرج ذلك الجزء المعيّن من الحوار الذي يقول فيه إنّه يشكّ في قدرة طبيبٍ نفسيّ على مساعدته. العلاج من صدمات ما بعد الحرب عملية مؤلمة نوعًا ما، لأنّها تنبش تجاربنا المؤلمة، بما في ذلك نشأتنا، تربيتنا، ولهذا يجد بعض الأشخاص صعوبةً كبيرة في الخضوع للعلاج. لقد أردت إثارة هذه القضية لأنّني شعرت بالمسؤولية، ولأنني كنت صديقة العائلة، وشهدت عن كثبٍ بتطور الخلافات بين أفرادها. كلّ ما أردت قوله له: اغتنم هذه الفرصة، واذهب إلى طبيبٍ نفسيّ.


(*) صورت الفيلم بنفسك في شقّةٍ صغيرة في العاصمة كييف... فهل كنت تشعرين بالراحة أثناء وقوفك خلف الكاميرا؟
إطلاقًا. كنت ألتقط الصور بنفسي. أولًا، الشقّة صغيرة جدًا لدرجة أنّه كان من غير المريح إحضار طاقم تصوير إليها. وثانيًا، تشاركنا معًا هذه التجربة. ربما تكون لقطاتي ليست مثالية، لكن فيها كثيرًا من الأصالة. وبما أنني لست مصورةً محترفة، فقد تبعت بوصلتي الداخلية.
لم يكن الأمر مخيفًا. حتى أنني كنت أشعر بشيء من الارتياح وأنا خلف الكاميرا، لأنني كنت أصور أشخاصًا واجهوا صعوباتٍ مخيفة لفترةٍ طويلة. انفصل سيرغي عن عائلته، ورأيت أنّه كان يبدو مُحرجًا في بعض الأحيان والكاميرا موجهة إليه. كاد يبدو أنّه على وشك بالبكاء، ويجد صعوبة في التحدث... كان الأمر أسهل مع الأطفال، فقد كانوا يبدون كثيرًا من الفضول.




كانت المعضلة تتعلق بكيفية التعامل أخلاقيًّا مع الطفل. لم أسأل الأطفال أيّ شيءٍ قد يسبّب لهم صدمة نفسية. لهذه الأسباب قررت أن أجعل سيرغي محور الفيلم كلّه. في بداية الفيلم، كان سيرغي يقول: "لقد تقيّأنا دمًا مما رأيناه هناك". لقد كانت التجربة صدمةً للنفس الإنسانيّة، خاصّة أنّه تحدث كيف اضطر إلى جمع رفات رفاقه في دلوٍ مغطّى بالدم.

(*) فيلمك القصير "تحت جنح الليل" يتحدّث أيضًا عن العائلة، فلماذا ينصبّ اهتمامك على موضوع العائلة في زمن الحرب؟
يبدو لي أنّ الأسرة تمثّل الدعم الأكبر للإنسان وقت الحرب. وإذا لم يكن لدى الإنسان عائلة، فمن الصعب عليه أن يتجاوز مآسي الحرب. لقد غادرت أوكرانيا في تسعينيات القرن العشرين، وتركت تجربة العيش هناك آثارها على شخصيتي. في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، غادرت أمّي البلاد للعمل في الخارج وأنا في الخامسة عشرة. كان عليّ أن أواجه تحديات ذلك الوقت، ولكنّ الأمر كان بالغ الصعوبة للأسرة، خاصّة بالنسبة لوالدي. أعتقد أنّ مرارة الواقع الذي عشناه شكّل مصدر إلهامٍ بالنسبة لي. في فيلم Daddys Lullaby، ركّزت على التجربة الذكورية، لأنني عايشت لفترةٍ طويلة أبًا لا يجيد التواصل مع أبنائه، ويعاني كثيرًا بسبب هذا، ومع ذلك كان يبذل قصارى جهده في سبيل الأسرة. معظم الآباء في أوكرانيا يكونون بعيدين عن أسرهم، ولذلك نجد الأب أبعد عن أطفاله من الأمّ، ويجد صعوبةً في التحدث مع أطفاله عن المشاعر. إنّها مواضيع معقّدة، لذلك أردت استكشافها والتعمّق فيها. أنا أحبّ فعلًا الأفلام التي تحتوي على أبطالٍ معقدين، وأحبّ الأسئلة التي ليس لها إجابات، لكنني أفضّل دومًا التعامل مع عددٍ قليلٍ من الأبطال. على سبيل المثال، في فيلم "صورة جيسون" لشيرلي كلارك، ليس هنالك سوى بطل واحد. وعلى الرغم من أنّنا نرى شخصيّة في المشهد، اقتصرّ حضورها بالصوت فقط، بالإضافة إلى إيماءاتها، وظلال الشخص المعقّد، والقصص والسياق الاجتماعي. كلّ ذلك يزيد من تكثيف الواقع الدرامي، بحيث يصبح من المستحيل أن تنتزع نفسك من هذا الفيلم.
أيضًا، أعجبني مشهد من فيلم Honeyland، حيث تتحدث الشخصية الرئيسية مع والدتها المسنّة في الظلام. إنّه مشهد قويّ جدًا بالفعل. أحبّ عندما يستخدم صنّاع الأفلام الوثائقية الضوء، أو عندما يستغنون عنه، لتكثيف الأجواء المحيطة، ولبناء أجواءٍ سينمائية. وأحبّ عملهم عندما يتعاملون بالصوت، وعندما يستخدمون الأصوات المنزلية المعتادة، وأصوات المحادثة، ونبرات الأصوات، حيث كلّ شيءٍ يتشابك في نسيج جمالي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.