}

عن "الخدعة" في الواقع والسينما

أحمد طمليه 24 ديسمبر 2024
سينما عن "الخدعة" في الواقع والسينما
لبلبة وأحمد زكي في فيلم "معالي الوزير"


تعني "الخدعة" من ضمن ما تعنيه، باطل مختلق ليبدو كما الحقيقة. وإذا أمعنا النظر في هذا المعنى نجد أننا نعيش في عالم قائم على الخداع. فـ"إسرائيل" التي تقدّم نفسها للعالم باعتبارها واحة الديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط، هي خدعة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهي محتل عنصري غاشم لم يشهد العالم له مثيلًا. والأهم أنها كيان دكتاتوري، يضع حساباته السياسية على حساب مصالح مستوطنيه، وما إشاحة النظر عن مظاهرات الإسرائيليين لوقف الحرب على غزة إلا دليل فاضح على ذلك.

والولايات المتحدة الأميركية التي تقدّم نفسها باعتبارها وسيطًا في الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، هي شريك في إبادة الشعب الفلسطيني، وعدم الاعتراف بحقوقه.

والمجتمع الدولي الذي يقدّم نفسه صاحب "ذمة وضمير" تلجأ إليه الدول المقهورة ليتدخل من أجل أن ينصفها، هو مجتمع معني بالدرجة الأولى بمصالحه، وليس معنيًا بأحد خارج إطار تلك المصالح. ومؤسسات حقوق الإنسان الدولية، هي، في الواقع، مجرّد حبر على ورق، ورؤيتها لحقوق الإنسان في العالم فيها قدر كبير من التشويه.

وقريبًا منا، النظام السوري الذي حاول أن يقدّم نفسه عبر عقود أنه مهيمن، وقادر على كتم أنفاس شعبه، هو نظام هزيل، فارغ من الداخل، وما سقوطه على النحو الذي سقط به إلا دليل على "خدعة" مارسها هذا النظام بالقوة والإرهاب.

العالم بمعظمه قائم على الخداع، لهذا نجده عالمًا مضطربًا، عبثًا ينشد السكينة والطمأنينة. الأمر الوحيد الذي ليس خدعة هو مقاومة الشعب الفلسطيني، فهي مقاومة تنشد الحرية، والخلاص من المحتل، وهذه مسألة لا يشوبها أدنى شك.

من المهم الإشارة هنا إلى أن المخادع الذي يلجأ إلى الخداع بحثًا عن أمن واستقرار، يعيش صراعات داخلية مخيفة. تخيلوا: الإحتلال الإسرائيلي يسلح شعبه بالسلاح والعتاد، أين هي الدولة الديمقراطية والمدنية من هذا؟

في السينما، وبحثًا عن خداع السلطة، وكيف يبدو حال المخادع، يبرز فيلم "معالي الوزير"، الذي عرض أول مرة قبل عقدين تقريبًا، وحسب تقرير نشر، مؤخرًا، في "اليوم السابع" المصرية، فإن هذا الفيلم ما زال يلقى اهتمامًا من المشاهدين.

في هذا الفيلم يقدّم الفنان أحمد زكي ومعه المؤلف وحيد حامد، والمخرج سمير سيف، فيلمًا عن خداع السلطة على نحو جديد ومختلف لم تعهده السينما المصرية من قبل، فلم نر في الفيلم مسؤولًا فاسدًا يمعن في التطاول على العباد ثم يقع في شرّ أعماله على طريقة الأفلام التقليدية، بل رأينا مسؤولًا يئن تحت وطأة إحساسه بالفساد، فلا يجد جنبًا يريحه، ولا عينًا تغمض له.

نبدأ مع الفيلم من نهايته حيث يختتم بعبارة تشير إلى أن أحداث الفيلم لا علاقة لها بأشخاص حقيقيين على أرض الواقع، وتشير العبارة إلى القول "وإذا كان ثمة تشابه فإنها مشكلة معاليه".

وعلى الرغم من أن مثل هذه العبارات توضع عادة في نهايات الأفلام لاعتبارات احتراسية، خشية إثارة حفيظة أحد، إلا أنها على النحو الذي ظهرت به في الفيلم أخذت معنى مختلفًا لا علاقة له بأي اعتبار احتراسي، بل إنه يزيد الطين بلة فيما يتصل بدرجة السخرية بأصحاب المعالي، ذلك أن الفيلم لم يقدّم إدانة أو انتقادات، بقدر ما قدّم هلوسات بطلها معالي الوزير، بأسلوب فانتازي يتداخل به المعقول بـ اللامعقول، لدرجة أنك في نهاية الفيلم لا بد وأن تسأل نفسك: هل ما أشاهده حلمًا أم أمرًا واقعًا؟

أحمد زكي وعمر الحريري في مشهد من الفيلم


يبدأ الفيلم على نحو طبيعي وسلس، إذ يظهر المشهد الأول أصدقاء يتناولون طعام العشاء في بيت رأفت رستم (أحمد زكي) وحرمه، فيما ينقل التلفزيون أخبار تشكيل وزاري جديد، ولا أحد يعلم، حتى هذه اللحظة، ولا في وقت لاحق حتى، من هو رأفت رستم هذا وماذا يعمل، وما هو موقعه من الإعراب؟ في مشهد آخر ومواكب للمشهد الأول، نرى رئيـس الوزراء (عمر الحريري) يخفق في إقناع أحد المرشحين للوزارة بالموافقة على تسلّم حقيبة لأسباب صحية، فيطلب رئيس الوزراء من معاونه أن يتحدّث إلى المرشح الأخير وهو رأفت رستم، الأستاذ في جامعة القاهرة، وليس الذي يتناول طعام العشاء في بيته مع أصدقائه، غير أن المعاون يخطئ التقدير ويطلب رأفت رستم الآخر، الذي يتلقى المكالمة بدوره بكثير من الود والامتنان والشكر الجزيل ويعلن موافقته المطلقة بحفاوة بالغة ودون قيد أو شرط.
في صباح اليوم التالي يفاجأ رئيس الوزراء وقبل دقائق من إعلان القسم أمام رئيس الدولة أن رأفت رستم الموجود ليس هو المقصود، ولكن الوقت ضيق ولا مجال لتلافي هذا الخطأ، فيقرر اعتماده في التشكيلة الوزارية الجديدة على أن يتم تلافي هذا الخطأ في أقرب تعديل وزاري، غير أن رأفت رستم يثبت حضوره، ويصبح واحدًا من أهم الوزراء بالحكومة، وتتجدّد به الثقة في وزارة جديدة مع رئيس وزراء جديد، ويصبح واحدًا من رجال الدولة ممن يُحسب لهم ألف حساب.

كل ما عرضناه حتى الآن من مجريات الفيلم جاء في الدقائق التي سبقت عرض عناوين الفيلم، بما يوحي وكأن القصة لم تبدأ بعد، حيث يبدأ الفيلم صباح اليوم التالي بمشهد لرجال المخابرات وهم في منزل معالي الوزير بعد أن ترد لهم مخالفات فساد، يتأكدون بعد التفتيش من صحتها، فيحال معالي الوزير إلى التحقيق، وبعد عدة جلسات تحكم المحكمة بحبسه عشر سنوات مع الأشغال الشاقة. في هذه اللحظة، يتراءى للمشاهد أننا أمام حبكة درامية ألّفتها السينما المصرية في الكثير من أفلامها، لكن يتّضح عكس ذلك تمامًا، فما جرى مجرد حلم، أو كابوس بالأحرى، أقلق منام معالي الوزير، فاستيقظ وهو يستعيذ بالله من الشيطان.

يعدّ هذا المشهد بمثابة مقدّمة لحبكة مختلفة عمّا قد يتصوره المشاهد، فنحن أمام معالي وزير لا ينام، وإذا نام فإنه يحلم بكوابيس مرعبة تقض مضجعه، بدون أن يقدّم الفيلم إدانات محدّدة تدين الوزير، فالرجل لم يفعل شيئًا بما يعطي فساده بعدًا افتراضيًا، ولعل هذا ما أراد الفيلم أن يقوله بالضبط ألا وهو: كيف يمكن أن تشعر إذا كنت مسؤولًا فاسدًا، مخادعًا، وكيف يمكن أن تروق لك الحياة إذا كنت قد أسهمت في إفساد حياة الآخرين؟

تتجلى مشكلة معالي الوزير، كما أشرنا، بأنه لا ينام، وإذا نام فإنه يحلم بكوابيس، تدور في أجواء الفساد الذي يقترفه بحق الناس، وفي تربّص من حوله للنيل منه، بمن في ذلك زوجته (لبلبة) وابنه وابنته. نراه في أحد الكوابيس وهو يعترف لأفراد أسرته بأن لديه ملايين في بنوك خارج البلد، ونراه في كابوس آخر وقد انزلق في الحمام ومات، وشيّعت له جنازة فوجئ، وهو ميت، أن لا أحد مشى فيها إلا قلّة قليلة، فيقوم من كفنه ويعرب عن اعتراضه، غير أن زوجته ترغمه على مواصلة الموت.
يصل الأمر بمعالي الوزير لأن يصارح أقرب معاونيه بمشكلته، فينصحه المعاون بأن يتناول الحشيش للمساعدة على النوم. وفي مسعى حصولهما على الحشيش يتورطان مع الشرطة وينامان في "النظارة" بعد أن يجهل أفراد الأمن هويته الرسمية، ويكتشف معالي الوزير في اليوم الذي يلي أنه نام نومًا عميقًا في الحجز. وفي مشهد آخر وحين تنقطع بهما السبل أثناء الليل يقرر النوم في أحد المساجد، ويفاجأ معالي الوزير أنه نام في المسجد نومًا عميقًا، وكأنه في الحالتين يواجه دعوة نحو التوبة أو تلقي العقاب.

يتأزم الموقف، إلى أن ينصح المعاون معاليه أن يعرض نفسه على طبيب نفسي، غير أن منصب صاحب المعالي يمنعه من ذلك فيقرر أن يذهب المعاون إلى الطبيب النفسي بعد أن يبوح له معالي الوزير بكافة تفاصيل حياته ومعاناته. وفي يوم الموعد مع الطبيب يتوفى المعاون في ظروف غامضة ويثار جدل حول وفاته إن كانت قتلًا أم انتحارًا، وينتهي الفيلم على هذا النحو تاركًا المشاهد حائرًا إذا كان ما يشاهده تتمة لتفاصيل الفيلم، بمعنى أن معالي الوزير قام بقتل المعاون قبل ذهابه إلى الطبيب النفسي خشية أن يكشف سره ويفضح أمره، أم أن المسألة لا تعدو أن تكون كابوسًا جديدًا من كوابيس معاليه.

الخلاصة: نحن نعيش في عالم مخادع، والمقاومة الفلسطينية هي الحقيقة الوحيدة السائدة اليوم. ولا أملك إزاء هذه الخلاصة إلا القول إن حبال الكذب قصيرة مهما طال الزمن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.