قد يكون معرض "مئوية السوريالية في مركز بومبيدو" من أبرز معارض الحداثة والمعاصرة التشكيلية في مونوبول باريس في النصف الأول من القرن العشرين، علمًا بأنه سيطر على نظيره التوأم "الدادائية" منذ ظهوره الموازي والمتزامن عام 1920م.
ابتدأ المعرض الحاشد منذ أوائل أيلول/ سبتمبر من العام الراهن مستمرًا حتى أواخر كانون الثاني/ يناير من العام المقبل 2025م وبإقبال جماهيري منقطع النظير، خاصة وأن الكتاب المخصّص للمعرض بالغ العناية التوثيقية الملونة.
يعتبر هذا المعرض أكبر معرض بانورامي يمثل أبرز تيارات الحداثة والمعاصرة في عشرينيات القرن العشرين، والمتفوق في شيوعه على نظيره الدادائي، مع متابعة نجم الشعر الفرنسي في تلك المرحلة التحويلية وهو أندريه بروتون الذي تخلَّى عن الدادائية ليعمّق الفكر الإبداعي للسوريالية المستقى أصلًا من المختبر البسيكولوجي لسيغموند فرويد ويونغ، ابتداءً من منعكسات أحلام اليقظة وانتهاءً باستدعاء صور الأحلام والكوابيس وتداعياتها ضمن آلية تتمفصل مع الذاكرة اللاشعورية. حصل هذا الانقلاب عام 1938 حيث جمع رواد الفن في تلك الفترة، وعلى رأسهم كل من ماكس إرنست، وسلفادور دالي، ورينيه ماغريت، إضافة إلى بابلو بيكاسو، وبول كلي، والشاعر جاك بريڤير، والفنان الإيطالي جورجيو شيريكو وهو المدعوّ من روما إلى باريس ولكنه رفض الالتزام بمعارض المجموعة لتمسكه بالظلال الليلية الميتافيزيقية الحادّة سليلة مسرح سوفوكليس اليوناني وديكوراته ونواظم إضاءاته. هي الحساسية التي غلبت على لوحات المعرض الأول عام 1925 م. ويبتدئ استقطاب شاعرنا لمركزية المجموعة من تحريره للبيان الإبداعي السوريالي الأول بطابعه الأدبي الغالب.
لعل أبلغ مبالغ الإثارة في المعرض طريقة تركيبه حيث نسقت جحافل الثلاثمائة وخمسين عملًا فنيًا بسينوغرافية سوريالية متاهية حلزونية تستعرض السياق التاريخي للمعارض السوريالية منذ بدايتها عام 1925 م وحتى ختامها عام 1939 مع اشتداد أتون الحرب العالمية الثانية ونزوح روادها إلى الشتات والمنفى الأميركي.
من الضروري استدراك أن وصول تأثيرهم على مدرسة نيويورك كان أسبق من هذا التاريخ، فالمعرض الأول في نيويورك يرجع إلى عام 1932 م، ثم إنه من الملاحظ أن شتى هذه المعارض تتتالى خلال هذا التاريخ في مونوبولية باريس قبل أن تنتزع مركزيتها الحداثية نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية في الخمسينيات والستينيات.
ثمة معرض أحادي شذّ عن هذه المونوبولية أقيم في طوكيو عام 1973 م. ومن الجدير بالذكر أن جماعة السوريالية أسسوا صالة عرض خاصة عرضت لكبار الفنانين من أمثال بابلو بيكاسو وجوان ميرو تدعى باسمهم. لعل واحدة من أشهر المعروضات تمثّلها لوحة سلفادور دالي الرمزية "إصرار الذاكرة" حيث الساعات متهدّلة زمنيًا (هو التيار الممتد على مساحة زمانية تتجاوز الأربعين عامًا). والمعرض لا يقتصر على إعادة تمثيل هذا العرض التاريخي، وإنما يكشف تفاصيل سياق هذا التطور المفصلي، تداخله مع تيارين في نيويورك بعد تسلله إلى مدرستها وهما الدادائية المحدثة التي أعاد تأسيسها الأميركي روشنبرغ ووصلت باريس من جديد، وكذلك تيار البوب آرت، وتسمح طريقة العرض باكتشاف هذا التداخل الأصيل.
***
من الموضوعات الأثيرة الشائعة على ذائقة السوريالية هي العلاقات الجنسية بشتى مستوياتها، ابتداءً من الإثارة الجسدية وانتهاءً بالمحرَّمة أو المنهي عنها إجتماعيًا (على غرار عقدة أوديب التي عالجها شكسبير)، أو العشق حتى الجنون، أو ممثلًا بعناصر الخصوبة مثل الأعضاء التناسلية سواءً في عالم النبات أم الإنسان أو الأجناس الحية الأُخرى.
هذا ما يفسّر انضمام بعض الفنانين المعروفين إلى هذا التيار رغم عدم تطابقهم النظري أو المخبري تمامًا مع السوريالية، من أمثال ملك الخصوبة ومؤسس التعبيرية التجريدية في نيويورك الفنان الأرمني الأميركي أرشيل غوركي. وتتحالف مع آليته الحلمية رسوم أندريه ماسون، وأنثوية وليام دوكويننغ، وألغاز رينيه ماغريت الحلمية والاحتلامية، ومثلها إلماحات جان كوكتو الجنسية.
من اليمين: "الطاولة السوريالية" (1933)، ألبرتو جياكوميتي - "ملاك المنزل" (1937)، ماكس إرنست - "من مجموعة قوس قزح" من 1941 حتى 1959، جوان ميرو |
علينا الاعتراف بأن السوريالية، مثلها مثل الدادائية، خرجت من أهداب ثورة العشرينيات ورفضها لمُسلّمات القرن التاسع عشر العقلانية المدرسية الجامدة المتجسّدة فنيًا بالكلاسيكية الثانية والباروك والاستشراق والأكاديمية. إذًا هي ثورة على آلية المهارات الديكتاتورية والإفلات من الرقابة الذهنية العقيمة، بل إننا نعثر على نماذج شعرية مبكرة من جيله تدعو إلى سطوة الحدس واللاوعي مثل بيير جانيه، منذ نهاية القرن التاسع عشر، الذي يدعو إلى التحول الجذري إلى المختبر الفرويدي وتحليل الأحلام وتداعي الصور اللاشعورية، وقد ترسخت أكثر مع تقدّم صورية الفن التشكيلي والسينما وتقنية المونوتيب والملصقات كما هي لدى ماكس إرنست.
وبالنتيجة يطالب أندريه بروتون، المؤسّس المركزي للسوريالية وبيانها، بطرد سلفادور دالي لأنه يجامل العين التجارية، ودعم ماكس إرنست الذي يبحث عن تشكيلية سوريالية بدون أدنى محاباة شعرية أو أدبية.
***
إذا كان عيب "الدادائية" يقع في الخلط بين العبثية الوجودية الأصيلة والمجانية المعادية لتراكم الخبرات الفنية، فإن السوريالية تقع على النقيض الأخلاقي، وقد تحالفت مع الثورة ابتداءً من عام 1930م، وغلب بعد عام على مواقف أعضائها الالتزام السياسي، على غرار المعاداة الصريحة للمعرض الاستعماري الشامل ومقاطعته ومقاومته معتبرين أن الاستعمار جريمة عبودية، وترسخت مثل هذه المواقف بعد نزوح العديد منهم بسبب الحرب.