}

"اللاجئان" بدمشق بعد سقوط الأسد: أوضاع المنفى والمنفيين السوريين

سمر شمة 29 ديسمبر 2024
مسرح "اللاجئان" بدمشق بعد سقوط الأسد: أوضاع المنفى والمنفيين السوريين
الأخوان ملص (Getty)

"أصابتني حالة من الذهول عندما علمتُ بسقوط نظام الأسد، تكالبت الدنيا علينا لكنّ الشعب السوري العظيم انتصر، سعادتنا كبيرة لأننا في دمشق، شعور استثنائي لا يتكرر، يتوزع على البشرية كلها" - هذا ما صرّح به الأخوان أحمد ومحمد ملص المسرحيان السوريان على خشبة مسرح سينما الخيام بدمشق بعد سقوط النظام البائد بأيام.
لقد استعادت سورية روحها ونبض الحياة فيها وجمالياتها وتاريخها بعد الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، واستعاد الشعب السوري الأمل بحياة كريمة وعزيزة تحترم حقوقه وآماله التي دفع من أجلها أثمانًا باهظة وثقيلة لا تحتمل: "آخر شيء كنت أتخيله أن أعرض مسرحًا في سورية، كنت أتوقع أن لا أعود إلى الشام بعمر الواحد وأربعين عامًا، تخيلت أنني قد أعود بعمر الخمسين".
تغيرت أشياء كثيرة في دمشق والمدن والقرى السورية واستعادت خشبات المسارح بهاءها واستقبلت عرضًا مسرحيًا للأخوين ملص بعنوان "اللاجئان" وسط حضور كبير ومتنوع للجمهور السوري المتعطش للمسرح الحر...
[...] الخارج عن قبضة الأمن والمؤسسات الرقابية وتاريخ طويل من الانهيار، وسط هتافات تنادي بالعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان وأغانٍ لسورية المنهكة المثقلة بعقود من القتل والتدمير الممنهج لكل ضوء فيها. وهو العرض المسرحي الأول بدمشق بعد سقوط النظام.
جاء العرض بعد ثلاثة عشر عامًا من الغياب القسري عن سورية للأخوين ملص بسبب معارضتهما للنظام المخلوع واستمرارهما في العمل بهذا الفن وتقديم العروض المسرحية في مدن عربية وأجنبية: تونس – برلين – فرنسا – بلجيكا – اليابان – العراق والأردن، بأسلوب مبتكر مدافعين عن الإنسان عمومًا والمواطن السوري خصوصًا الذي اضطر قسريًا للجوء والنزوح والتهجير هربًا من القتل والقصف بالطيران الحربي والبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي واستباحة البلاد وشعبها والذل والدمار.
المسرحية مستلهمة من رواية "المهاجران" للكاتب البولندي سلافو مير مروجيك، وأعاد كتابتها الأخوان التوأمان وأخرجاها، وتمّت الصياغة بما يتناسب مع أوضاع المنفى والمنفيين في الداخل والخارج إضافة إلى الصراعات النفسية والعاطفية التي عاشها اللاجئون السوريون وعانوا منها في حياتهم اليومية بعد أن هُجّر الملايين منهم منذ آذار/ مارس 2011.
تبدأ المسرحية بمشهد يظهر فيه محمد ملص وهو يجلس في غرفة صغيرة ممسكًا كتابًا بيد ومشروب المتة الشعبي بيد أخرى، ويستمع لأغانٍ فرنسية للمغني والممثل شارل أزنافور والكاتب الغنائي والمغني البلجيكي جاك بريل، وفجأة يدخل على الغرفة أحمد الشقيّ المليء بالحيوية والنشاط وهو يرتدي سروالًا من الجينز وعلى رأسه ضمادات طبية جراء تعرضه لحادث سير، يبدأ الحديث بينهما عن الممرضة الجميلة التي عالجته في المشفى وعن عجزه على التواصل معها بسبب حاجز اللغة، وحينها يقول بمرارة مختصرًا معاناة السوريين: "اللعنة، الحياة في فرنسا صعبة جدًا جدًا، واللغة الفرنسية صعبة جدًا جدًا"، ثم يراجعان معًا البريد الحكومي الذي يحتوي على إخطار من الدولة بقطع المساعدات الشهرية عنهما، وهذا يعني أنهما لن يستطيعا الحصول حتى على الطعام بعد اليوم.
وفي مشهد آخر يتفحصان خارطة الميترو الباريسي، ويأخذان وقتًا طويلًا لمعرفة كيفية الوصول إلى إحدى الدوائر الحكومية في منطقة "شاتو روج" للاحتجاج على إيقاف المساعدات لهما، ويقول أحدهما للآخر: "الميترو أيضًا صعب جدًا، فرنسا كلها صعبة جدًا، ماذا عسانا نفعل يا الله".


يقول أحمد ملص: "حاولنا من خلال هذا العرض القصير أن نلخّص مشاكل آلاف اللاجئين في فرنسا، أولئك الذين يجدون صعوبة في الاندماج بحياتهم الجديدة، ويواجهون مشاكل ابتداءً من اللغة وانتهاءً بالموظفين العنصريين".
تروي المسرحية حكاية السوريين في بلاد اللجوء والمنفى بين التهكم والحلم، وتتكلم بلسانهم، وتدخل إلى قلب الغربة ومعاناتها، وتشجب التمييز العنصري وعدم احترام الغرباء، ولكنها تعترف على لسان الشخصيتين بفضل فرنسا عليهما: "على الرغم من كل شيء، أنا سعيد جدًا في هذا البلد الذي نعيش فيه بحرية لم نجدها في أوطاننا".
ركّز العرض على انتهاكات النظام الأسدي والجرائم التي ارتكبها بحق السوريين بعد قيام الثورة السورية وتناول الجانب الإنساني العميق عند المهاجر وحنينه الدائم إلى وطنه وأمه وجيرانه مذكرًا بأن اللاجئ ليس إرهابيًا ولا مجرمًا ولا متطرفًا: "أنا قوي، أنا غريب إلا أنني لست مجرمًا". وموجهًا الاتهامات لنظام الأسد القمعي الذي شرد ملايين السوريين وحكم البلاد بالحديد والنار على مدى أكثر من خمسة عقود، وقتل عشرات آلاف السوريين داخل سورية وفي سجونها المرعبة وفي البحار وقوارب الموت والغابات الموحشة، وفضح هذه الجرائم البشعة وعرّى المجرم مطالبًا العالم بحل هذه المأساة الكبرى.
قال أحمد ملص: "الهدف من المسرحية ليس الحديث عن اللاجئين بقدر ما هو تسليط الضوء على المشكلة من أجل إيجاد حل لها".
كان العرض مزيجًا من الدراما والكوميديا السوداء كما حياة الكثير من السوريين في السنوات الماضية، تحدث عن رجلين يعيشان معًا في قبو تحت الأرض، هربًا من بلد يشهد حربًا دموية وجرائم حرب على يد أعتى الأنظمة الشمولية في عصرنا الراهن، يحاولان التأقلم بصعوبة مع الحياة الجديدة حاملين دائمًا حنينًا للوطن ومشاعر الحزن والأسى لما حلّ بالناس هناك من ظلم وقهر وممارسات وحشية. وهو أول عمل عُرض لهما باللغة الفرنسية وجاء ذلك كما ذكر محمد ملص بهدف مخاطبة الفرنسيين بلغتهم الأم، مشيرًا إلى أن للمسرح سحرًا خاصًا عند الأوروبيين يمكنه أن يؤثر فيهم ويُحدث تغييرًا بسيطًا في رؤيتهم لما يجري في سورية وغيرها من الدول التي ترزح تحت الحكم الديكتاتوري العسكري.
اعتمد الممثلان على السخرية الحادة لقلب الأحداث والمواقف، وكانا يتذكران الأهل بين الضحكة والدمعة بحنين مكبوت. العرض مليء بالرسائل العميقة والمشاعر الصادقة، وقد اعتمد فيه صنّاعه على تقنيات حديثة في الإضاءة والصوت، وكان الممثل هو العنصر الرئيس لاستكمال عناصر اللعبة المسرحية بحضوره الجسدي والنفسي، أما الأزياء فكانت بسيطة وعادية وكذلك الديكور.
الأخوان ملص مواليد عام 1983، غادرا دمشق عام 2011 بعد عدة أيام من اعتقالهما على خلفية مشاركتهما بالمظاهرات الحاشدة ضد نظام الأسد بداية الثورة، وكانا قد نقلا نشاطهما المسرحي قبل ذلك إلى منزلهما وقدّما أكثر من 200 عرض مسرحي داخله، وتوجّها بعد الإفراج عنهما إلى لبنان ثم إلى مصر إلى أن استقرّا في فرنسا ليزاولا نشاطهما ونضالهما ضد النظام السوري السابق من خلال المسرح والأفلام القصيرة والدراما، وحصلا على اللجوء السياسي هناك.
تخرّج التوأم محمد وأحمد ملص من معهد أورنينا للتمثيل بدمشق بعد أن تمّ رفضهما في المعهد العالي للفنون المسرحية وأطلقا في سورية تجربة مسرح "الغرفة" عام 2009 وترشّحا لدخول موسوعة غينيس عن فئة أصغر مسرح في العالم.
بعد اندلاع الثورة السورية قدّما مسرحية "الثورة غدًا تؤجل إلى البارحة"، ونشرا عددًا من أعمالهما على موقع يوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي وكان أبرزها "ثورة ضوء" وهي سلسلة تلفزيونية أُنجزت بجهد ذاتي بسيط. دخلا عالم الدراما الفرنسية من خلال حصولهما على دور في مسلسل "ريبيكا" الذي قامت ببطولته الممثلة الفرنسية أنّا ماغيفا، وقد مثّلا فيه دور لاجئين سوريين وصلا حديثًا إلى فرنسا في عدة مشاهد بوليسية وباللغتين العربية والفرنسية، وأنجزا فيلمًا بعنوان "أحدنا غادر الصورة" وهو فيلم قصير عن شخصيتين متشابهتين شكلًا ومتصارعتين فكرًا.
بعد انتهاء العرض احتفى الجمهور بالمعارضين للنظام الذين انتظروا رحيله طويلًا، واحتفوا بالحرية التي يحلمون بها منذ عقود وقد قال عن ذلك محمد ملص: "هذا العرض لن أنساه بحياتي بجمهور رائع وعدد كبير جدًا، سعادتنا كبيرة لأننا في دمشق". بينما قال أحمد: "نحن كسوريين محتاجين لأن نكون يدًا واحدة لنبني البلد، فرصة عظيمة أن ننقذ وطننا، وأنا متفائل جدًا بمستقبل سورية ومستقبل الفن، عندي مخاوف لكني متفائل".
إنها مرحلة جديدة من مراحل المسرح السوري والحياة في سورية، أتى العرض في بدايتها في ذكرى أشخاص غيّبهم الموت قتلًا واعتقالًا وتهجيرًا، ومن هنا من دمشق التي تستعيد مسرحها كما نستعيد وطننا يعلن اللاجئان العودة إلى الوطن بعد أن كانا وإياه مهجّرين.
وكما قالا: "الأخوان بشار وماهر الأسد خارج سورية، والأخوان ملص على مسارح دمشق".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.