على بعد بضعة كيلومترات من القدس، وتحديدًا عن حاجز "حزما" العسكري، كان ثمة توتر من نوع خاص، لا ينفصل عن توتر يومي يتواصل منذ عقود، بسبب سياسات الفصل العنصري المتفاقمة للاحتلال الإسرائيلي على الحواجز العسكرية في الضفة الغربية عامة، وتلك الفاصلة بينها وبين القدس، وبينها وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
كان أي خطأ صغير، أو تصرّف قد يكون اعتياديًا، يمكن أن يكلف كلًا من محمد، أو فاروق، حياتهما، والذرائع جاهزة حال أطلق أي من جنود الاحتلال النار على أحدهما، أو كليهما، بأنها محاولة دهس، أو طعن، فيما لم يعد الأمر، في الخمسة عشر شهرًا الأخيرة، ومنذ السابع من أكتوبر، يحتاج إلى ذرائع للقتل.
ومحمد، شاب فلسطيني يحمل بطاقة هوية بولندية مؤقتة، يحاول المرور عبر حاجز "قلنديا" العسكري الإسرائيلي الفاصل بين رام الله والقدس للقاء والدته الراغبة في زيارة مشتركة إلى يافا، مدينتها التي تهجرت منها. يرفض جنود الاحتلال السماح له بالعبور، لكونه لا يحمل الجنسية البولندية، بل إقامة جعلته يملك هوية مؤقتة.
هنا، يرفض السائقون المتعاقبون توصيله عبر حاحز آخر، هو "حزما"، خشية عواقب ما قد يواجههم حال اكتشاف أمرهم. إلا أن فاروق، سائق التاكسي الذي يتعاطف مع الشاب، من دون معرفته بمحاولة العبور الفاشلة عبر "قلنديا"، يوافق على ذلك، مشددًا على أنه في عجلة من أمره لارتباطه بموعد مع "زبون" دائم يقوم على إيصاله في رحلاته داخل القدس وخارجها باستمرار، لكن يحدث أن يكتشف عنصر في جيش الاحتلال الحقيقة، ما يعني أن الرجلين باتا في إشكالية لا تُعرف نهايتها، نراهما محبوسين في السيارة البيضاء، وهو لون تكسيات القدس التي تحمل اللوحة الإسرائيلية الصفراء عنوة، بانتظار القرار النهائي للاحتلال بالعبور، أو العودة، من عقوبات متوقعة لكل منهما، لنرافق كلاهما في حوارية تقبض عليها الكوميديا السوداء، على مدار 27 دقيقة هي مدة الفيلم الروائي الفلسطيني القصير "برتقالة من يافا".
اختير فيلم "برتقالة من يافا"، وهو من تأليف وإخراج محمد المغني، وإنتاج مشترك فلسطيني بولندي فرنسي، ومن بطولة الفنان كامل الباشا، والفنان سامر بشارات، ضمن القائمة الطويلة لجوائز أوسكار "الفيلم القصير المباشر"، بعد منافسة ضمّت 180 فيلمًا، بحسب موقع الجائزة العالمية الأرفع سينمائيًا.
والفيلم الفائز بعدد من الجوائز في مهرجانات دولية عربية وعالمية، يتناول بذكاء، أكثر من موضوع يكشف عنصرية الاحتلال، من دون شعاراتية، عبر تناوله أكثر من قضية، أبرزها حق العودة، وحق تنقل الفلسطينيين في بلادهم، والحواجز العسكرية الإسرائيلية.
وكان المخرج الفلسطيني محمد المغني، ابن غزة، بدأ بكتابة "برتقالة من يافا"، خلال انتكاسة العالم بأكمله جرّاء "كوفيد ــ 19"، ويتمحور حول حكاية شاب يحمل إقامة في دولة أجنبية، يسعى عبرها إلى مرافقة والدته التي سبقته من معبر آخر، إلى زيارة يافا، التي هُجّر منها أجداده قسرًا إلى قطاع غزة عام 1948، بحيث تمّ تصوير الفيلم في الضفة الغربية عبر طواقم فلسطينية وبولندية تعرضّت للتهديد بالقتل على أيدي المستوطنين ذات يوم من أيام التصوير، علاوة على احتجاز سلطات الاحتلال الإسرائيلي لعدد من المعدّات التي كانت في حوزة الفريق البولندي عند دخوله إلى فلسطين.
ويتميّز الفيلم بتسليطه الضوء على الحياة اليومية للفلسطيني، والتي لا يشاهدها العربي ولا الغربي، وحتى كثير من الفلسطينيين، عبر نشرات الأخبار، منحازًا إلى تفاصيل صغيرة لا يعرفها كثيرٌ ممن لا يعيشون تحديدًا في الضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس، ويعانون من سياسات التنكيل والفصل العنصري على مئات الحواجز العسكرية فيها، الدائمة منها والمؤقتة، التي يصفها أصحاب البلاد الأصلانيون بـ"الطيّارة".
والفيلم يحاكي شيئًا مما يمكن أن يواجهه أي فلسطيني في الضفة الغربية يرغب بزيارة الأراضي المحتلة عام 1948، وفي هذه الحالة يافا، التي تعود أصول الشخصية المحورية فيها إليها، كما والدته، وكلاهما جاء إلى الضفة من غزة، حيث لجأت عائلتهما المهجرة منذ النكبة، ولا يزالون يحملون هويتها، وهو ما يصعّب عليهم عبور الحواجز أكثر وأكثر، وخاصة بعد السابع من أكتوبر 2023، بحيث يمكن ترحيلهم من قبل قوات الاحتلال إلى غزة فورًا، في حال اكتشاف أي من الجنود عنوانهم في الهوية الخضراء، أما فلسطينيو الضفة الغربية فيحتاجون إلى تصاريح خاصة من الإدارة المدنية التي تتبع الاحتلال الإسرائيلي لدخول القدس، أو أي من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية المحتلة في عام 1948، وبات مستحيلًا منذ حرب الإبادة، التي تفاقمت معها سياسات الفصل العنصري في الضفة، والجرائم التي يمارسها الاحتلال ومستوطنوه فيها، حدّ القتل، في حين حتى حملة الجنسيات الأجنبية لم يعد أمر عبورهم سهلًا، مع الحرب الإسرائيلية المعلنة على النشطاء من المتضامنين مع القضية الفلسطينية، والرافضين لحرب الإبادة في غزة، فما بالنا مع من يحمل مجرد هوية إقامة مؤقتة في دولة أوروبية كحال الشاب محمد في الفيلم.
ويمكن القول إن الصدى الموضوعي للفيلم لا لبس فيه، فهو يتعمق بلا خجل، أو مواربة، في موضوعات التمييز العنصري والتحيز التي تسيطر على المشهد الإسرائيلي في تعامله مع أصحاب الأرض الأصلانيين من الفلسطينيين، عبر التجسيد الدقيق المبني على رسم مشهدي بارع، وسرد قصصي إبداعي، يسلط المغني، عبره، الضوء على المخاوف والشكوك السائدة التي تحدّد الوجود الفلسطيني في قادم الأيام.
نجح هذا الفيلم القصير، على المستوى المضاميني، في تلخيص التعقيدات العميقة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحيث يقدم إدانة لجانب من مظلوميّات الفلسطينيين اليومية بفعل الاحتلال، في عمل مثير للإعجاب على المستوى الفني أيضًا، علاوة على كونه مثيرًا للأعصاب، ومثيرًا للتفكير والتأمل أيضًا، كما يمكن اعتباره بمثابة شهادة على قوة السينما في تسليط الضوء على التكلفة البشرية للاحتلال، فـ"برتقالة من يافا" ليس مجرد فيلم، بل دعوة واضحة وصريحة للالتفات إلى التفاصيل المهملة التي تعكس انتهاكات صارخة لإنسانيّتهم قد لا تشكل ما نسبته 1% مما يحدث في حرب الإبادة المتواصلة على غزة، لكنه يعكس جوانب مخفية عن كثيرين في ما يجري من انتهاكات في الضفة الغربية، التي هي هدف الصهيونية الأول للسيطرة والضم، لافتًا، من دون صراخ، أو عويل، إلى أن التضييق الذي يمارسه الاحتلال على الأرض، وفي الفيلم، يهدف إلى لف حبل المشنقة حول أعناق أهل الضفة الغربية وسكانها، فيرحل منهم من يرحل، ويستسلم منهم من يستسلم لدولة الاستيطان التي تقام بوتيرة متسارعة على أراضيهم، في محاولة لمواصلة محو الذاكرات، من بيارات يافا، إلى حقول زيتون نابلس، وغيرها.
الفيلم، الذي ينتهي بانتصار رمزي يعكس ما يجب أن تكون عليه الحال من تضامن فلسطيني، حيث يتقاسم محمد وفاروق برتقالة من يافا، بأجيالهما المتباينة، كما بأفكارهما، وإن كان يجمعهما الوطن، خاصة مع زوال يافا بنكهتها العربية، وكيف بات برتقال بيّارتها يدمغ بالعبرية، ويكشف كيف بات المستعمرون يقررون المكان الذي يمكن للفلسطيني التحرك فيه.
كان ثمة لمسة من الكوميديا، أو الفكاهة، جعلت من هذه الدراما السينمائية أكثر إنسانية، وقرّبت المشاهد من حيوات الفلسطينيين وطبائعهم غير العنيفة، والمحبة للحياة بهدوء وسلام، من دون استسلام، في دقائق قد تبدو مُحبطة، لكنها محمّلة بالرسائل والأمل المخفي، في حين أن من شعر ببطء ما في الوتيرة، فإنه انعكاس للبطء الذي يعيشه الفلسطيني وهو ينتظر العودة إلى يافا، أو حتى عبور الحاجز، أو تحقيق حلم طال بتحرر منشود.
وكان لافتًا أن ثمة تقاطعًا ما بين حكاية المخرج والشخصية المحورية التي تحمل اسمه محمد، ويحمل إقامة في بولندا لا جنسيتها، وهي الدولة التي تخرج فيها المغني، وكونهما كانا يقيمان في غزة، كما هي حال الأم الغزية المقيمة في الضفة الغربية، وهي حال والدة مخرج "برتقالة من يافا" أيضًا ووالده.
لم تكن ظروف التصوير سهلة، خاصة مع عدم الحصول على التصاريح التي عادة لا يمنحها الاحتلال لتصوير فيلم فلسطيني، فكان إنجاز الفيلم الفلسطيني البولندي الفرنسي عبارة عن مغامرة، بل مقامرة خطيرة، حيث كان يمكن أن ينتهي كل شيء في لحظة، وتكون عواقبه كارثية، فقد تم بناء حاجز عسكري بشكل يمكن وصفه بالسري، وما زاد الطين بلة أن الفيلم بات ينافس على أوسكار "الفيلم القصير المباشر".
الفنان الفلسطيني كامل الباشا قدم دورًا مهمًا ومكثفًا، أكد فيه سطوته كفنّان ذي قدرات استثنائية كرّسته عربيًا وعالميًا باستحقاق، هو الذي تم تكريمه مؤخرًا في مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير، حيث فاز "برتقالة من يافا" بجائزة "البرج الذهبي" لأفضل فيلم في المهرجان، وهو تجسيد قدّم عمقًا إضافيًّا للسرد الفيلمي، حيث عكس بمخاوفه، وعبر مشاهد ذات مشاعر مختلطة عبّر عنها بمغناطيسية عالية وآسرة، رغم تناقضها، عن المخاوف الأوسع الكامنة في الحياة اليومية للفلسطيني في ظل الاحتلال.
وكان الباشا أعرب عن سعادته بتمثيل فيلم "برتقالة من يافا" فلسطين في قائمة الخمسة عشر فيلمًا لأوسكار "الفيلم القصير المباشر"، مؤكدًا أن الاحتلال صعّب تصويره كثيرًا، كاشفًا أنه وفريق العمل واجهوا صعوبات في أثناء تصوير الفيلم، فعلى الرغم من أن موقع التصوير لا يبعد عن بيته أكثر من عشرين دقيقة، إلا أنه كان يفضل عدم العودة إلى منزله خوفًا من حدوث أي أزمات، مثل إغلاق القرية التي يسكن فيها، أو طلب الاحتلال تصاريح التصوير وهم لا يملكونها، مؤكدًا أن الاحتلال بشكل عام يؤرقهم في كل مظاهر حياتهم، وطيلة الوقت هنالك تهديد يطاردهم بالسجن، أو الضرب، أو إيقاف التصوير.
والفيلم، أيضًا، كان بمثابة اكتشاف لإمكانات الفنان الشاب سامر بشارات، في تجسيده لدور محمد، حيث المشاعر غير المبالغ فيها، وحيث الأداء المقتدر في تجسيد مُحكم للخوف الواضح، وفي الوقت ذاته لتصميم لرجل بات في مرمى رغباته الوطنية، وفي مرمى نيران متوقعة لجنود تتغلغل العنصرية في دواخلهم.
وأضفى التصوير السينمائي لماسيج إيدلمان جودة تبدو كوشم في جسد الفيلم، حيث يضع المتلقي، وبشكل مباشر، داخل الحدود الضيقة لسيارة الأجرة، خاصة مع تصاعد التوترات، فيما يؤكد أسلوبه البسيط على مدى إلحاح محنة كل من محمد وفاروق، وكأنه يدعو المشاهد إلى المشاركة في الرحلة المحفوفة بالمخاطر، أو الفيلم الذي يمكن إدراجه من دون تردد في إطار توصيف "السينما الآسرة".
جدير بالذكر أن محمد المغني هو مخرج وكاتب سيناريو ومصور سينمائي من مواليد غزة عام 1993. درس الإخراج السينمائي في مدرسة السينما في "لودج" البولندية، وله عدد من الأفلام الوثائقية والروائية الناجحة، من بينها "حَلّوان" (2012)، و"ماريا" (2015)، وفي العام نفسه "شجاعية" الحاصل على عدد من جوائز المهرجانات السينمائية العالمية، إضافة إلى "أين الحمار"، و"فلافالا"، وكلاهما من إنتاج عام 2018، وأخيرًا فيلمه "برتقالة من يافا" (2023).