}

حين يرافق الموت صناعة أفلام من غزة زمن الحرب!

يوسف الشايب 12 أغسطس 2024
سينما حين يرافق الموت صناعة أفلام من غزة زمن الحرب!
لقطة من فيلم "لا" أحد أفلام "من المسافة صفر"

"منحنا صانعي الأفلام فرصة لعرض أعمالهم وإخبار العالم بقصص من غزة... الأفلام متنوعة للغاية... تركنا المخرجين يصنعون أفلامهم بأنفسهم، وبعضهم روى تجربته الخاصة، لأنه موجود في الأحداث... إنهم الحدث نفسه"، بهذه الكلمات تحدث المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي عن المشروع السينمائي "من المسافة صفر"، الذي أنتج من خلاله وأشرف على إنتاج اثنين وعشرين فيلمًا قصيرًا ما بين روائي، ووثائقي، وتحريك (أنيميشن)، أو مزيج بين نوعين، أو أكثر، لاثنين وعشرين فنانة وفنانًا من قطاع غزة، نفذوها من حيث يعيشون النزوح، والجوع، والعطش، ويحيط بهم الموت من كل جانب، خلال حرب الإبادة الإسرائيلية، التي تجاوزت شهرها العاشر.

لقطة من فيلم "ليس للبيع" 


جميع الأفلام تمت كتابتها وإخراجها وتصويرها وتحريرها في ظل الظروف المعقدة لحرب الإبادة الإسرائيلية الشاملة على غزة، لذا فقد واجهت تحديات لوجستية نجح كثيرون في التغلب عليها، وحالت دون عرض أفلام كانت قاب قوسين أو أدنى من إنجازها، بسبب استهداف منازل صانعيها، وتدمير أجهزة الحاسوب، أو الكاميرات التي تحتوي على المشاهد المُصوّرة، كما أن بعض صناع الأفلام كانوا يفقدون أقارب لهم في أثناء التصوير، أو التحضير، وفي أثناء مرحلة الكتابة، ما أبعدهم عن المشروع، وهو ما أجبر اعتماد وشاح على الخروج قبل نهاية فيلمها الروائي القصير "تاكسي ونيسة"، مشيرة إلى أنها لم تستطع إكمال الفيلم بسبب استشهاد شقيقها وعددٍ من أفراد أسرتها في قصف استهدف منزلهم، متحدثة عن النهاية المرسومة لـ"ونيسة"، وهي الاسم الذي اختاره سكّان مخيم النزوح للبغل الذي يجرّ عربة "الكارو"، وينقل البشر والبضائع والماء، فنجا صاحب العربة من مصيره المرسوم بالسيناريو شهيدًا، ولكن العربة لم تعد رفقة "أنيسة" وحده إلى حيث خيمة عائلته في مخيم النزوح.

 لقطة من فيلم "خارج الإطار"




وتعرض بعضهم، خلال التصوير، لخطر حقيقي في الوصول إلى مكان متصل بالإنترنت لإرسال المواد التي قاموا بتصويرها، لكنهم فعلوها، وهو ما برز بوضوح في عديد الأفلام، التي احتضنت قاعة المسرح البلدي في رام الله عروضها الأولى في الضفة الغربية، أخيرًا.
وكان لافتًا حضور الفنون في الأفلام، وبحث الفنانين أنفسهم عن مآلاتهم وأعمالهم الفنيّة ما بعد الحرب المتواصلة، أو تسليط آخرين الضوء على تجارب إبداعية أخرى، بعضها معروف عربيًا وإقليميًا ودوليًا، وبعضها لم تنتشر إبداعاته خارج قطاع غزة.
ومن بين هذه الأفلام، فيلم "لا" الوثائقي القصير للمخرجة هناء عليوة، التي نجحت في مغادرة القطاع إلى مصر، بعد أن أنجزت فيلمها الذي صوّرته مع فريق "صول" الموسيقي الشهير في داخل خيامهم، بل كان الفيلم الوحيد الذي اشتمل على أغنية من بين مجموعة أفلام "من المسافة صفر" بجزأيها، فقد حرصت على إرسال اللقطات إلى القائمين على الإنتاج في أسرع وقت، كي ينجو فيلمها في حال لم تنجُ هي بنفسها.

لقطة من فيلم "جنة الجحيم"


تبدأ عليوة في الفيلم بحكاية قصتها خلال رحلة البحث عن موضوع الفيلم الذي تريد إنتاجه، على أن يكون الفرح والأمل محورين أساسيين له... تسير عليوة ومصورا فيلمها، أحمد الدنف، ويوسف مشهراوي، عبر أنقاض غزة، في محاولة للعثور على لحظة بهيجة لالتقاطها. وفي نهاية المطاف، وجدوا مجموعة من الأطفال يغنون، ما وجدوا فيها علامة على الحياة وسط الدمار، فتوجهوا إلى حيث هم، ليجدوا أن القائمين على بث روح الأمل والفرح هم أعضاء فريق "صول" الموسيقي الشهير، بل ويقومون بتدريبهم ما بين خيام مخيم النزوح، حيث هم، على الغناء والعزف ورقص الدبكة.
وفي فيلمه "عذرًا سينما" لأحمد حسونة، يتحدث صاحب الفيلم الشهير "استروبيا" الحاصل على عدد من الجوائز العالمية، من دون أن يتمكن من مغادرة قطاع غزة، لتسلم ولو واحدة منها، أو التشارك مع الجمهور خارج القطاع في عرض في أحد المهرجانات التي قدّمته باحتفاء نقدي وجماهيري كبيرين بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، عن تأثير الحرب المتواصلة عليه وعلى أحلامه التي تهشمت تحت الركام، وواقعه المعاش الذي حوّله من مخرج سينمائي إلى باحث عن مكان آمن غير متوفر، وعمّا يقيته وأسرته، ويروي عطشهم، كما هو فريق فيلمه، وكل الغزيّين في خضم حرب الإبادة المتواصلة من دون هوادة.

لقطة من فيلم "تكسي ونيسة"




ويروي الفنان التشكيلي باسل المقوسي في فيلم "شظايا"، أو "فتات"، الذي أخرجه بنفسه، يوميّاته في الحرب، وتوثيقها بالرسم، في حين تتلبّس آلاء أيوب في فيلمها "مُثقلة" شخصية "رقيّة" في رواية "الطنطورية" للكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، وعلاقتها بمكتبتها التي اضطرت إلى أن تتركها لقنابل طائرات الاحتلال، في مقاربة ذكية لما يحدث من نكبة في غزة الآن، وما كان في نكبة فلسطين عام 1948، بينما تمحور فيلم "خارج الإطار" لنداء أبو حسنة حول ما تبقى من شظايا أعمال الفنانة البصرية رنين الزريعي، في ما كان مرسمًا قبل الحرب.

لقطة من فيلم "تعويذة"


وثمة أفلام لا يمكن تجاوزها لروعتها وتميّزها، سواء لجهة الفكرة والمضمون، أو الإخراج والرؤية السينمائية، أو كليهما، ومن أبرزها فيلم "تعويذة"، أو "سِحر"، لبشار البلبيسي، مُقدمًا مشهدية آسرة، وقادرة على انتزاع الإعجاب والدهشة بمفهومها الإيجابي في آن، غير بعيد عن عوالم "الفنون" بالاتكاء على ذاكرة طفلة، وذلك المزج ما بين واقع تهرب فيه من واقعها إلى البحر، وإلى حيث ذاكرتها، والمركز الثقافي، حيث كان تتدرب على الدبكة، وباتت تجيدها، مسترجعة وجوه ورقصات المبدعات والمبدعين من مدربيها ورفيقاتها ورفاقها، في أمكنة باتت أثرًا بعد عين، وشخوص لا تعرف عنهم شيئًا، وفي إطار فيلم روائي قصير يحكي بلغة الجسد، والتقنيات السينمائية، فيلم صامت، لكنه يقول كثيرًا!
فيلم الديكودراما "جنة الجحيم" لكريم ستوم لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، حيث نشاهد أمامنا كفنًا أبيضَ يلف جسدًا، قبل أن يخرج من ذلك التكوين الأقرب إلى حقيبة النوم، وإن كانت حقيبة موتى، رجل يدعى "كريم"... يستفيق أو يخال أنه يستفيق مذعورًا، متسائلًا عن الحدث الذي أقحمه في الكفن، قبل أن يعود بنا إلى ذاكرة الأربع وعشرين ساعة الماضية، حين كان قريبًا من مخيم اللاجئين في "دير البلح"، محاولًا جمع أجزاء من ذاكرته المتشرذمة، قبل أن تُومض أمام عينيه صور الليلة الماضية، أو قبل الماضية، التي كانت شديدة البرودة على أرضية اللاخيمة، حيث لم يتمكن من النوم، فيحط في مشفى قريب، ويظهر في كفن بعد طول مفاوضات، لعله "يستفيد منه حيًّا لا شهيدًا"، وهو ما كان، حيث بث في جسده عند المبيت، مؤقتًا كان أم دائمًا، دفئًا كان يفتقده، فبات الكفن بالنسبة له "جنة الجحيم".
الأفلام المتوزعة على جزأين عرضت جميعها أمام جمهور فلسطيني بعضه من غزة داخل المسرح البلدي لدار بلدية رام الله، وتروي حكايات مجهولة، حتى للغزّيين أنفسهم، عن حرب الإبادة. وهو ما انعكس، عند عرضها أخيرًا على يومين، نهاية الشهر الماضي، مكونة من أفلام مهرجان القدس الدولي للسينما بدورته الاستثنائية، حيث كانت الشاشة جدار منزل مدمّر على مقربة من حفرة قد تكون مقبرة جماعية، بجوار مخيم للنازحين في دير البلح، بعد عرضها في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي داخل "خيمة"، في إشارة إلى حال صنّاعها، وحال سكان غزة ونزوحهم المستمر في الحرب، وفي تحدٍ لإدارة المهرجان التي حالت دون عرضها بشكل رسمي.
تأرجحت الأفلام بين قليل من الفرح، وكثير من الحزن والخوف والرعب والقلق، لتنقل إلى العالم ما يلامس، وبتلقائية، ومن دون تكلف، تلك المشاعر الإنسانية لمن كانت دولهم، وبعضها لا يزال يدعم جيش الاحتلال في حربه على العُزَّل في غزة، كما في الضفة، وكل فلسطين، متماهين مع فكرة كون الفلسطينيين عامة، وفي غزة خاصة، "محض حيوانات بشرية"، كما كرّر يوآف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، أكثر من مرّة، وانعكس في ممارسات جيشه غير المسبوقة بشاعة وقبحًا وعنصرية ولا إنسانية في التاريخ الحديث.
ولكن، ورغم كل شيء، تمكن اثنان وعشرون من مناضلي السينما في قطاع غزة من الخروج بأفلام "من المسافة صفر"، وكأن لسان حالهم يقول: "نحن صانعي أفلام... نقدم أفلامنا هذه من غزة التي تعيش الموت في اليوم ألف مرّة... نريد أن يصل صوتنا، وصوت من صنعنا أفلامنا عنهم، أو لأجلهم، وأن نجد من يسمعنا، ببساطة لأننا بشر، ولأننا موجودون"...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.