إرهاصاتُ فرادتِه
في (حَشْرَةٍ) لا تزيد على 40 مترًا مربعًا (بيتُه الاضطراري و18 (نفرًا) هم كل أسرته التي بقيت في البلاد، بعد سرقة بيتهم الأصليّ الواسع الكبير) كبُرَ وليد لِيَعي منذ كان صغيرًا أن في الأمر خللًا ما... أن الحريةَ هي ليست ما يراه حولَه... وأن الأرضَ أرضُهُ ولكن مع كثيرٍ من الجَوْرِ والخِذلانِ وبشاعة التمييزِ القائمِ على العرقِ والبعد القوميّ والانتقائيةِ الديمقراطيةِ المخادِعة.
كل هذه الظروف القاسية لم تمنعهُ من حبِّ عكّا، لا بل عشْقها، فهو، في غرفِ روحِه البعيدةِ، يعلم، أولًا، أنّه منها وأنّها موئلُ جذورِه البعيدةَ الضاربةَ في الأرضِ والذّاكرة، وأنها، ثانيًا، مثلُه، مظلومة، مجبورةً على تقمّص هويّة لا تُشبهها؛ يقول حول عشقه لعكّا ذاتَ مقابلةٍ تلفزيونية: "جذوري عكّاويةٌ أبًّا عن جِد... حبّي لِعكّا وأقواسِها الحَنُونة ومختلفِ تفاصيلِها، حتى رطوبتِها، شكّل بمجموعهِ لغتي الفنيّة التشكيليّة، ووجّه دروبَ ألْواني، ومنح منحوتاتي بُعدًا وجدانيًا انْتمائيًّا لِلمكان والزمان. حبّي لَها رسّخ في أعماقي حُبَّ الفن".
كبُرَ في ظلِّ أحكامٍ عُرفيةٍ، وطوارئَ عسكريةٍ، ومنْعِ تجوّلٍ يخصُّ مكوّنًا واحدًا من مكوّنات المدنِ حولَه، فيما الباقون (اللصوص) يصولُون ويجولُون في عرضِ بلادِ أجدادِهِ وطولِها. 13 عامًا عاشَها وليد قشّاش مقهورًا مكبّلًا (من عام 1957 تاريخ ولادتِه) كانت كافيةً ليحدّد الفتى وجهاتِه...
وهي أعوام تصادف أنه كان يساعد فيها كلَّ من كان يرسم في عكّا كلَّ هذا القهر... يقول حول هذه التفصيلةِ في فيلمٍ عنهُ أنتجه تلفزيون "ألوان" من إخراج ومونتاج وتصوير الفنان الفلسطيني رائف حجازي: "ولِدَتْ موهبتي الفنيّة مع ولادتي، وكبرُت وترعْرعت هنا في عكّا، ونَمَتْ مع كلِّ دلْوِ ماء جلبتُهُ لِفنانٍ جاء يتعلّم الرسم مِن وحي عكّا، أو جاء يبثّ همومَه لِأقواسِ عكّا ورطوبةِ رملِها".
وسط كل هذه الظروف القاهِرة عشقَ قشّاش اللونَ... الأزرقُ بحرُ عكّا (عكّا التي تخصّ فلسطينيّته لا عكّا المنتزعةُ من سياقِها التاريخيّ والوجدانيّ والهويّاتيّ)... الأصفرُ قمحُ جنين... الأخضرُ مَرْجُ ابنِ عامِر... البرتقاليُّ برتقالُ مدن الساحلِ جميعُها، وخصوصًا، بالطّبع، يافا... الأحمرُ دحنونُ البريّة الفلسطينيةُ الأبيّة... الداكنُ ليلُه والفاتحُ نهارُه... يقول حول أشكالِ تعاملِهِ مع اللونِ: "أتعامل مع الألوانِ بإحساسي حتى لا أقول بِفطرتي، رغم معرفتي بأصولِ العُلاقات اللونيّة في الفن التشكيلي".
بهذا القطْعِ المنهجيِّ السياسيِّ الحاسمِ مع سيرورةِ الاحتلالِ، تعاملَ الفنّانُ النحّاتُ الإنشائيُّ مع اللون، وهكذا صارت أعمالُهُ سياسيةً بغضِّ النظر إن كان هو سياسيًا أم لا. يقول حول ذلك ذات حوار: "لا يوجد فنّانٌ سياسيٌ بل لوحةٌ سياسية".
حَوَّلَ كل خامةٍ حولَه (من خشبٍ وحديدٍ وورقٍ وقماشٍ وحجرٍ وشجرٍ وبلاطٍ) إلى مادةِ إنشاءٍ إبداعيٍّ فريدٍ قائمٍ على التضادِ بينَ ما هو قائم وما هو مأمول. ومنذ عام 2000، باتت إرهاصاتُهُ أكثرَ وضوحًا وتعبيرًا عن جوّانيّاتِهِ. كان وقتَها في عمرِ 43 عامًا، حيث عقلُ النّضوج ارتكزَ على كلِّ ما يحتاجهُ من خبرةٍ ووجهةِ نظرٍ وثِقَلِ موقفٍ ورجاحةِ فِكْرٍ... حيث جرح فلسطين يكبرهُ بتسعةِ أعوامٍ وقد تجاوزَ هذا الجرحُ وقتها الخمسينَ من عُمْرِ الأَنين.
الصالةُ العكّاويّة
في ذلك العام (2000) قرّر وليد قشّاش أن يحوّل كلَّ عكّا إلى صالةِ عرضٍ دائمةٍ على مدارِ العام والأيامِ والسّاعات والدقائقِ؛ يقول: "تحويلُ ممرّ عكّا (السِّباط) الذي يوصل الميناء بالمناطق الغربِيةِ من عكّا إلى صالة عرضٍ ضاربةَ الجذورِ راسخةَ الوجود، يتجلّى بوصفهِ مشروعَ حياتي، وبوصلةَ فنّي. وبالاعتمادِ على المدرسة "الدادائيّة" بِالفن، التي نشأتْ بعد الحرب العالمية الأولى، بدأتُ أكوّن من الخشب والحديد وأيِّ مواد متوفّرة بين يديّ أفكارًا فنيّة صارت وجْهَ السْباط الجديد".
لم يتوقّف قشّاش عند "الدادائيّة" وكَفى... بل هو لم يتوقّف عند مدرسةٍ فنيّة بعينِها ويحصرَ نفسَه داخل حدودِها... مازِجًا بينَها جميعَها ليوصلَ رسالتَه التي يصفُها في غير مناسبةٍ بأنها رسالةٌ حضاريةٌ قبلَ أن تكونَ فنيّة، وليخلصَ إلى نتائجَ تشكيليةٍ تحمل سماتَه هو، وتعبّر عن أسلوبيّتِه لا أسلوبيّات غيرِه.
يقول قشّاش الذي يُعرّف على نفسِهِ عادةً، بأنه "فنانٌ عربيٌ فلسطينيّ"، حول ارتباط فنّه بقضيّتِه: "أبحث عن نفسي... عن هويتي... عن تاريخي... عن عكّاويتي من خلال رسوماتي ومنْحوتاتي".
لا ينشدُ عبر أعمالِهِ التعاطُف، بل فَرْضَ مرادِهِ ورسائِلِه... يواجهُ بِعنادٍ محاولات تهويدِ عكّا... أعاد للشوارعِ والحاراتِ أسماءها العربية الفلسطينية... فعادَت "حارة الشيخ عبد الله" إلى اسمها القديم الأصيل... وكذا "ظهر العكّي" و"حارة المعاليق"... وهكذا دواليْك مرورًا على حارات عكّا الـ 29.
بصماتٌ لافِتة
رغم تواضعهُ المُتماهي مع ثقةٍ عاليةٍ، ورغم تكرارِهِ في غيرِ مناسبةٍ الجُملة الآتية: "لست سلفادر دالي ولا بيكاسو ولا غيرهما... أعلّم نفسي... أتعلّم من سباط عكّا... من صبيٍّ قد يُبدي ملاحظة خلال إنجازي عملًا جديدًا، آخذ بِها، وأعدّل بحسبِ ما اقترحه الفتى... من "نوّةٍ" غاضبةٍ لِبحر عكّا... التواضع منهجي... والإصرارُ عقيدتي"، إلا أن الفنان الذي حوّل شقّته في حيّ الفاخورة العكّاويّ إلى لوحةٍ تشكيليةٍ تركيبيةٍ بنائيّةٍ بديعة الجمال، ترك بصماتٍ لافتةٍ في غير بلد أوروبيّ، رافضًا، في سياق ذلك، إنجاز أعمالٍ مشتركة فلسطينيةً يهودية: "لا أريد دخلاءَ على روحِ إبْداعي وحجارةِ مدينَتي وبلاطِها"... بصمةٌ في أمستردام، وثانيةٌ في بروكسل... وثالثةٌ هنا، ورابعةٌ هناك... ناشِدًا عالميةً يريد أن يحقّقها عبر مشروعهِ الانتمائيّ الفلسطينيّ الواضحِ السّمات والوجْهات. ومن المُفارقاتِ أن مشروعَهُ المشتركَ مع جهةٍ هولنديّةٍ يأتي من خلال رابطةٍ تطلقُ على نفسِها اسم "رابطة الفنانين غير المُنتمين"، وهيَ مفارقةٌ تفرضُ سؤالًا يصعدُ من الحَلْقِ إلى الخَلْق: هل فعلًا هي حكرٌ على غيرِ المُنتمين فقط؟ أم أن الانتماء إلى فلسطين من فنانٍ يحمل جواز سفر من يحتلّون فلسطين، يُعَدُ في سياقاتٍ بعيدةٍ وقريبةٍ، عجيبةٍ وغريبة، عدمَ انتماء؛ فلا هو فوقَ أرضٍ ولا تحتَ سماء؟ على كل حال وليد فرض نفسَه بعصاميةٍ بَتول، فهو، كما يؤكّد في كلِّ مرّة، لم يَتلقَ دعمًا من أحدٍ أو مؤسسةٍ أو جِهة.
من بصماتِهِ الحادّة إنشاؤه عملًا يحمل عنوان: "(مِرحاضُ) أميركا"... بصمةٌ أُخرى مهمّةٌ وشجاعةٌ تتجلّى بإنشائِهِ نفقًا من جماجِم ضحايا التطهير العرقيّ الذي لولا اعتماده (القتل أو الطرد) لَما قامَ كيانٌ مكانَ وطن... إنها "جداريةُ الجماجِم" التي لا يخفيها، ولا يخشى من رشقِها بوجهِ كل زائرٍ لأعمالِه... معنيٍّ بتجربتِه... متابعٍ لِمشروعِه.
وحين يسألهُ سائلٌ لماذا لم يرسم عكّا بشكلٍ كلاسيكيٍّ واقعيّ، يجيب: "عكا موجودةٌ في كلِّ عملٍ من أعمالي". ثم يضيف قائلًا: "أنا برسالتي الفنيّة التي أوصلها للعالَم ابن عكا... ابن طمرة... ابن النقب... ابن القدس... ابن رام الله... ابن غزّة... وابن كل بقعة من أرض فلسطين... رسالتي حضارية... المرأة في أعمالي فلسطينيةٌ أصيلةٌ مثقفةٌ تنتمي، كما أنتمي، لِجذورها".
ما لونُ عكّا...
يقول وليد قشّاش "إن الشعب الفلسطينيَّ مبدعٌ بمعظمِهِ... لا بل هو أُس الإبداع الإنسانيّ، فبحسب إحصائية عالمية فإن هناك مبدعًا واحدًا من بين كل 20 ألف إنسان على امتداد الكوكب، وفي عكا ألف مبدع فلسطيني من بين الـ 20 ألف فلسطيني الذين صمدوا فيها ولم يغادروها". يقول ذلك، فيُنادي عليهِ الشاعر المغربي محمد ميلود الغرافي سائلًا:
"ما لونُ عَكّا
يا وليد؟
ما لونُ غِرنيكا؟".
والواضح في بقية القصيدة، أن وجع الغرافي هو وجع غزّة، ولكنه يسأل (أبو غسّان) لعلّ جوابًا يأتيهِ من هناك، من أسوارٍ هزمت نابليون. وجعهُ غزّة التي كانت وحيدة، التي ما تزال وحيدة:
"كُنْتِ وحيدةً
حَطّوا عليكِ الصَّخْرَ
جابوا السماءَ بقَصْفٍ أبابيلَ
فكُّوا القِلادةَ
مَرَّغوا نهْديْكِ
في أدرانِهمْ
هدَّموا الأسْوارَ
صرْتِ وحيدةً
وجاءَكِ إخْوةٌ
كُلٌّ بِيوسُفَ مُؤمِنٌ
حَطّوا عليْكِ شِعارَهُمْ
وتَفَرّقوا
وسقَطْتِ وحيدةً".