لمحة عن السينما الهندية
أسباب التقصير، من حيث الكتابة أو الترجمة أو العرض، متعددة جدًا. للإنصاف، ترجع جزئيًا لأسباب متعلقة بطبيعة الإنتاج الهندي نفسه، ليس فقط فيما يخص الانتشار والتوزيع وتعدد اللغات، بل للأمر علاقة أيضًا بغزارة الإنتاج السينمائي الهندي ذاته، وصعوبات الإلمام به إجمالا أو حتى ترجمته. إذ المعروف عالميًا عن السينما الهندية غزارتها الإنتاجية التي تفوق غزارة "هوليوود". وهذا بصرف النظر عن أن الإنتاج بالأساس يتوجه أو يستهدف الجمهور المحلي في الداخل. في النهاية، نحن بصدد إجمالي إنتاج سنوي يتراوح بين 1500 إلى 2000 فيلم في مختلف الأنواع، بأكثر من 20 لغة، وليس لهجة، في مختلف أنحاء الهند، وفقًا لأحدث الإحصائيات الرسمية.
على سبيل المثال، ثمة ما يعرف بسينما "الشمال الشرقي"، وهي من أهم روافد صناعة السينما الهندية. المقصود بها سينما الجزء الشمالي الشرقي من الهند، بلغاته المُختلفة وعاداته وتقاليده وثقافاته وقومياته وأعراقه، وما إلى ذلك، من تنوع وثراء وفقر وتراث على قدر كبير من الخصوبة والغرابة والحيرة. إقليم يعج بصعوبات ونزاعات ومشاكل وتفاوتات وتباينات مختلفة. ومع هذا، وربما لهذه الأسباب، أفرز عدة أنواع من السينمات، مثل السينما "المانيبورية"، و"الأسامية"، و"المالايالامية"، و"الماراتية"، ولكل منها مُقوماتها، وصُنَّاعِها، وتاريخها، وأفلامها. هذا يُعيدنا إلى مسألة التعدد اللغوي في السينما الهندية عمومًا، وصعوبات الترجمة، وخطأ معاملتنا لجميع الأفلام والنجوم لعقود طويلة كسينما هندية إجمالا أو كناطقة باللغة الهندية فقط. في حين أنه ليس ثمة هند واحدة ولا لغة موحدة، إذ وبصرف النظر عن اللهجات واللكنات، ثمة لغات عديدة، منها: هندية، وبنغالية، وتاميلية، وأوردية، وأوردو/ هندية (كما في أفلام ساتياجيت راي)، وتيلوجوية، ومالايالامية، وتاميلية/ هندية، وماراتية، وجوجاراتية، وأسامية. وعبر اللغة الأخيرة، صنع العديد من الأفلام التي تعتبر من بين أهم وأبرز الأعمال الهندية.
طبعًا، ليس معنى هذا الركون أو التقاعس عن مُتابعة ما يتيسر من الإنتاجات الحديثة، بل دعوة لفتح الأبواب ومُحاولة مُواكبة الجزء الأكبر مما تنتجه هذه السينما الضخمة العريقة، على تفاوت مُستوياتها، وصولا للأفلام الجادة أو المُستقلة، الآخذة في النهوض مُؤخرًا على أيدي جيل جديد من المُخرجين والمُخرجات المُوهوبين فعلا، الذين يُقدمون بمُنتهى الصدق والإخلاص إبداعات مغايرة تمامًا ومهارات لافتة في مختلف جوانب الصناعة. بعيدًا عن "بوليوود" وغيرها من الأعمال الترفيهية أو التجارية الرخيصة، ذات الحبكات المطروقة التي أكل الدهر عليها وشرب. إذ، في السينما غير التجارية، ثمة موضوعات جادة ورصينة فعلا، تُسَلِّطُ الأضواء على الواقع الهندي الحديث أو المُعاصر بُكل تعقيداته ومُشكلاته المُمتدة على مساحة جُغرافية شاسعة، مليارية التِعداد، مُتعددة الأديان، مُتنوعة اللغات، متباينة اللهجات، مُتشعبة المُعتقدات، مُتفاوتة الطبقات والطوائف. والملاحظ موخرًا، أن ثمة دماء جديدة أفلحت حقًا في إعادة السينما الهندية إلى الواجهة مُجددًا، وأسهمت في انتشارها بعض الشيء، ونيلها خلال السنوات الأخيرة بعض التقدير والتتويج بالجوائز الدولية الكبرى المرموقة.
"أوسكار" و"كانّ" وغيرهما
في عام 2023، وفي الـ"أوسكار" الخامسة والتسعين، ترشحت الهند لـ3 جوائز دفعة واحدة. لجائزة "أفضل أغنية أصلية"، عن "Naatu Naatu"، وهي أغنية راقصة ناجحة من فيلم "RRR" للمخرج إس. إس. راجامولي. ويدور حول حياة اثنين من الثوار الأسطوريين في عشرينيات القرن الماضي. وترشحت عن فيلم "كل ما يتنفس" للمخرج شوناك سين لجائزة "أفضل وثائقي". وتنطلق أحداثه من دافع ديني وبيئي أيضًا يكرس فيه الشقيقان سعود ونديم شهزاد حياتهما لإنقاذ الطيور المصابة وعلاجها، جراء تحليقها في سماء نيودلهي الملوثة. وترشح فيلم "هامسو الأفيال" للمخرجة كارتيكي جونسالفيس، لجائزة "أفضل وثائقي قصير"، ويستكشف الرابطة غير القابلة للكسر بين فيل واثنين من القائمين على رعايته. وبفضل الفيلمين "RRR" و"هامسو الأفيال"، حصلت الهند على جائزتي "أوسكار". "أفضل أغنية"، و"أفضل وثائقي قصير" دفعة واحدة لأول مرة في تاريخها.
أما العام الماضي فقد فاجأت الهند الجميع وترشحت للعام الثاني على التوالي لجائزة "أحسن وثائقي"، عن فيلم "أن تقتل نمرًا" لنيشا باهوجا، والتي لم يفز بها رغم ترشحه وحصده لجوائز عديدة. وهو عن مزارع هندي يخوض معركة حياته دعمًا ومطالبة بالعدالة لابنته المراهقة، التي وقعت ضحية لحادثة اغتصاب جماعية وحشية. ورغم فوز الهنود بجوائز "أوسكار" من قبل، في مجال الملابس والصوت والموسيقى والأغنية، وأخرى تكريمية للمخرج ساتيجيت راي عام 1992، لكن لم يكن قد فاز بها أي فيلم هندي روائي طويل أو قصير أو وثائقي. في حين أن الأغنية هي الثانية في الحصول على تلك الجائزة، بعدما سبقتها إليها أغنية "جاي هو" من فيلم "مليونير العشوائيات" عام 2009.
المفارقة المثيرة للسخرية هذا العام، أن فيلم "كل ما نتخيله كضوء" للهندية بايال كاباديا لم يمثل الهند في "أوسكار"، نظرًا لأن الهند لم تختره لكونه فيلمًا أوروبيًا تدور أحداثه في الهند وليس فيلمًا هنديًا خالصًا على حد قول لجنة الاختيار. ما أخرج الفيلم من منافسة كان سيحقق فيها جائزة واحدة على الأقل. وذلك بعد فوز الواعدة بايال كاباديا، عن أول فيلم روائي طويل لها، "كل ما نتخيله كضوء"، بـ"الجائزة الكبرى" في "المُسابقة الرئيسية" لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي" في الدورة الـ77 (14 - 25 مايو/ أيار، 2024)، بعد اختيار فيلمها في "المُسابقة الرئيسية"، التي عادت إليها الهند بفضل بايال كاباديا بعد غياب ثلاثة عقود. كما يُعتبر الفيلم هو الأول لمخرجة هندية في المُسابقة. وفوق هذا، كانت كاباديا أول هندية تنال "الجائزة الكُبرى" أو أية جوائز كُبرى بالمهرجان، وأيضًا، إحدى المُخرجات القلائل اللاتي فُزن بهذه الجائزة تحديدًا في تاريخ المهرجان. كما ترشح الفيلم لجائزتي "جولدن جلوب". المثير في الأمر أكثر أن الهند لم تختر أيضًا الفيلم الرائع، الهندي الصرف، "سانتوش"، واختارته بريطانيا لتمثيلها في الـ"أوسكار".
الأهم والأبرز
لسنوات طويلة، غابت السينما الهندية الفنية الرفيعة أو المستقلّة عن المحافل السينمائية الدولية، وظلّ حضورها نادرًا في المهرجانات الكبرى، أو غير لافت للانتباه، رغم التاريخ العريق والأسماء اللامعة في هذا النوع تحديدًا. لكن في العامين الماضيين، وتحديدًا العام الماضي، شهدا حضورًا قويًّا بأكثر من روائي طويل، إضافة إلى أفلامٍ قصيرة ووثائقية وتحريك، اتّسمت موضوعاتها بجرأة تناول وعمق معالجة وجدية طرح، وتوفّرت على جماليات فنية ملحوظة فعلا.
وكان أبرزها فيلم "كل ما نتخيله كضوء"، المعروض في "المسابقة الرئيسية" في "مهرجان كانّ"، وطرحت فيه المخرجة، من بين موضوعات أخرى، قضية الحرية والقمع، والكثير من المسكوت عنه، سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا، في المجتمع الهندي، عبر توليفة منحت مساحة لمن رأت أن لا صوت لهم في بلدها. لذا، اختارت المخرجة ثلاث نساء تحديدًا، من أعمار وبيئات وسلوكيات مختلفة. وبالمهارة نفسها، والمزج الفني البارع، والطرح السياسي والاجتماعي والإنساني والحسي والديني الجريء ضد سياسات وتصرّفات وأوضاع بلد وحكومة وقوانين وسلوكيات بشر، نسجت بهدوء وإقناع وفنّية أحداث فيلمها الجديد.
في "كل ما نتخيّله كضوء"، نجحت بايال كاباديا في مزج الأنثوي بالإنساني، ضمن إطار اجتماعي وسياسي وديني، مُغَلَّف برومانسية مُفتَقَدة، وحِسِّيَة منشودة، في خليطٍ بالغ الرهافة والحساسية والحزن والصدق، من دون أي افتعال. وبِرقَّة، نَسَجَت حبكة هادئة وإيقاعًا مُتمهّلا، يصل إلى حدّ البطء أحيانًا، من دون ميلودرامية، كاشفة بعمق عن نماذج لنساء هنديات مُتباينات، يكابدن مشاق حياة ومجتمع وقوانين جائرة وصعوبة ومتناقضة، إضافة إلى صراعات داخلية متنوعة مُتراكمة داخلهن، تعكس حتمًا مشاكل مجتمع ضاغط، وسُلطة قاهرة، وبلد مُنقسم على نفسه، لغويًا ودينيًا وطائفيًا وطبقيًا وعرقيًا.
وفي الدورة نفسها بذات المهرجان، جَذَبَ فيلم "سانتوش" لسانديا سُوري الانتباه في قسم "نظرة ما". ما أهله للمشاركة في مهرجانات أخرى وحصد بعض الجوائز. ورغم أنه أول فيلم لمخرجته، إلا أنه أثبت مدى تمكّنها من الكتابة، واختيار مواقع التصوير، وإدارة الممثلين، وجوانب إخراجية مختلفة. ما يؤكّد، إجمالا، على موهبتها وحِرفيّتها ومُستقبلها الواعد.
من ناحية الموضوع، لم يحد "سانتوش" كثيرًا عن سمات أغلب الإنتاجات الهندية الفنية أو المستقلة الأخيرة. حيث الابتعاد المُتعمّد عن النمط "البوليوودي" والميلودرامات الهندية المعتادة، وجرأة تناول الموضوعات بالغة الحساسية في المجتمع الهندي، كالفقر والتفاوت الطبقي والطائفية والفساد والتمييز الديني ومشاكل المرأة. وهذا بوعي وفنّيات وجماليات ابتعدت عن المُباشرة والتسطيح والإثارة المجانية، للتركيز أساسًا على الفساد عامة، والتخاذل والتواطؤ في جهاز الشرطة، لا سيما في الأرياف والمناطق الفقيرة النائية. أما اللافت في الفيلم فهو خروجه عن المُعتاد، بفضحه الصريح لأفراد الشرطة، خاصة العناصر النسائية فيها.
استغلالًا لثغرة في القانون، تضطرّ الأرملة الشابة سانتوش (شاهانا غوسوامي)، لضغط متطلّبات عيش وصعوبات حياة، إلى أن ترث مهنة زوجها الراحل. فجأة، من دون استعداد، تقبل أن تَحلّ محلّه بين عناصر الشرطة المحلية، في منطقة ريفية شمالي الهند. سريعًا، تجد نفسها وسط عالم تحاول في البداية التعرّف إليه، ثم تحتاط وتكون حذرة ومتحفّظة، كي لا تغرق في مستنقعه. لكنّ هذا العالم يجذبها إليه تدريجيًا بقوّته الرهيبة، التي تستحيل مقاومتها. وهذا يُتيح للمخرجة فرصة استعراض خبايا هذا العالم المغلق، وسلوكياته الشائنة والمُدانة، من دون افتعال، وبمصداقية شديدة تلامس أحوال الشرطة وسلوكياتها في الهند، وفي العالم.
من بين أفلام عديدة لافتة جدًا فيما يُمكن أن نطلق عليه السينما الرفيعة الترفيهية، المائلة أكثر للنمط "البوليوودي" الرصين، منه إلى التسلية الرخيصة الفجة أو للسينما الفنية أو المستقلة، يمكن اعتبار فيلم "المفقودتان" للمخرجة كيران راو مثاليًا من حيث انطباق المعايير السابقة عليه. وربما لهذه الأسباب، وأخرى غيرها لها علاقة بالتمويل مثلا، اختارته الهند كمرشح لها في جوائز "أوسكار". كان واضحًا من مستوى الفيلم أنه لن يصمد، وسيخرج سريعًا من السباق، مقارنة بغيره من الأفلام الهندية المتوفرة هذا العام والمؤهلة للمنافسة والفوز.
ضمن سياق لا يحيد كثيرًا عن نقد المجتمع والعادات والتقاليد والتخلف والفقر وفساد الشرطة، والتركيز على المرأة كضحية أو عرضة دائمًا للأقدار الظالمة، وإن بوتيرة أخف وبصورة كوميدية شبه بوليوودية دون فجاجة، تدور أحداث فيلم "المفقودتان". لكن ضمن حبكة يعوزها الكثير من الإقناع. وإن كانت غير مُستبعدة بالمرة، خاصة في الهند وتلك المجتمعات الريفية المنغلقة. نرى فيها جايا (براتيبها رانتا) وفوول (نيتانشي جويل)، وهما شابتان، تزوجتا حديثًا، لا تعرفان الكثير عن الحياة خارج حدود قريتهما، ولا حتى أين ستقيمان بعد الزواج. في طريقهما إلى عش الزوجية، يحدث تبادل غير مقصود بينهما بسبب الزحام الرهيب في القطار، وتشابه الملبس وغطاء الوجه، ما يؤدي لاصطحاب كل زوج لعروس الآخر. بعدها، تحاول الشابتان استكشاف محيطهما، والشروع في رحلة للتعرف على الحياة، ومعرفة الذات.
حضور نسائي لافت
بعيدًا عن المستوى الفني الرفيع وجرأة التناول والجوائز، من اللافت جدًا أن الجيل الجديد في السينما الهندية الفنية والمستقلة يتسم بحضور قوي للنساء. سواء على مستوى الإخراج مثل بايال كاباديا، وسانديا سوري، وكيران راو، أو في مجال التمثيل، الذي برزت فيه وبشدة العام الماضي كاني كوسروتي، التي ظهرت في بطولة فيلمي "كل ما نتخيله كضوء"، والفيلم الرائع "الفتيات سيبقين فتيات"، أيضًا لمخرجة شابة بانتظارها مستقبل واعد، هي سوتشي تالاتي، عن مشكلة التواصل الجيلي، والتنمر المدرسي، والنضج والمراهقة والحب العذري، وعلاقة الأبناء بالأهل.
كان دورا كاني كوسروتي لافتين للانتباه فعلا، وإلى تنوع موهبتها وقدراتها على التجسيد الاحترافي لأدوار مختلفة. وهي تجمع بين العمل في السينما البوليوودية التقليدية والأفلام الفنية أو المستقلة. وكوسروتي، المولودة في ولاية "كيرالا"، ليست ممثلة فحسب، بل هي عارضة أزياء أيضًا. اكتسبت شهرتها لأول مرة عام 2009 من خلال فيلم "مقهى كيرالا". وهي تنتمي إلى عائلة من النشطاء الاجتماعيين والمفكرين والسياسيين. ولذا، لم يكن مستغربًا قط أن تخطو كاني على السجادة الحمراء في مهرجان "كانّ" الماضي، حاملة حقيبة يد على هيئة نصف بطيخة، في تضامن واضح وصريح مع ما يحدث في غزة وفلسطين، وضد ما يجري من مذابح وإبادة وتطهير عرقي. وذلك رغم كل القيود والتحذيرات والتحريمات المفروضة مسبقًا من إدارة المهرجان.