ورغم سقوط نظام بشار الأسد، ما تزال كتابات الجيل الجديد تأتي باعتبارها خلاصًا من تاريخ قمعي، ما يزال مُترسّبًا في بنية الوعي الجمعي السوري. إذْ تُظهر كتابات ما بعد مرحلة بشار الأسد أنّ السكين ما يزال موجودًا في أضلع الجسد وأنّ الراهن السوري ليس إلاّ استعادة لمتاهات الماضي، وذلك لأنّنا أمام شكل من الكتابة النوسطالجية التي تغوص في الواقع المتردّي وتحاول عبر جسد الكاتب إعادة تخييل هذا الواقع.
أليست الكتابة في ماهيتها، مهما ارتفع في منسوبها التجريد، تبقى عبارة عن شهادة واقعيّة عن أحوال الكائن داخل فُسحة وجوده؟
من ضمن التحوّلات الكبيرة التي عرفها المختبر السوري تلك التي تتمثّل بشكل أقوى في التشكيل. لقد فرضت العديد من الأسماء السورية مثل عادل داوود وأسعد عرابي وريم يسوف وثائر هلال وإبراهيم الحسون، على سبيل المثال لا الحصر، مواقفها الفكريّة داخل اللوحة ومُتخيّلها الفنّي. إذْ رغم آلام الغربة وقهر الواقع، فرض هؤلاء الفنانون أعمالهم داخل الساحة العربية، بحيث تُعتبر التجربة التشكيلية السورية من التجارب العربية الرائدة اليوم. وذلك لأنّها مبنية على أصالة التجريب الذي يقود المحترف السوري إلى ابتكار مفردات جديدة وآليات تعبير مغايرة، سواء عن طريق المادة أو اللون. إنّ اللوحة عند ريم يسوف (أنظر مثلًا لوحتها أعلاه) ليست مجرّد فُسحة للترفيه، بقدر ما تُمثّل أفقًا للتفكير في الضياع السوري وأسئلة الوجود ومصائب التاريخ. أيْ أنّ سند اللوحة يتجاوز كونه مجرّد وسيط تعبيري مادي لملامسة أحراش الجسد، بل يأتي كمُختبر فكريّ يحاول أنْ يعطي موقعًا جادًا للتراجيديا السورية ويوميّاتها المتحوّلة داخل النظام الرمزي للوحة.
على هذا الأساس، يُسقط عادل داوود الدلالات المعرفية المتعارف عليها أكاديميًا على مستوى اللون وتمثلاته في تاريخ الفنّ، حيث يُصبح عبارة عن تمثل بصري شخصي لما يراه الفنّان في واقعه وجسده وليس العكس. هذا التركيب البصري في إعادة صياغة مفردات جديدة للممارسة التشكيلية السورية تكشف عنه سلسلة من اللوحات الفنّية التي عُرضت على مدار سنوات خارج سورية. برعت ريم يسوف في تصوير حياة اللاجئين السوريين وتصوير مشاهد كثيرة من حياة الأطفال داخل سورية وخارجها. إنّ أعمالها بسيطة من ناحية الشكل والمواد، لكنّها عميقة في بُعدها البصري (أنظر لوحتها أدناه)، ذلك أنّ الرهان على أسئلة اللجوء والواقع والتاريخ والجسد، أعطى لأعمالها دلالات خاصّة في التجربة الجمعية السورية. فكلّما وجدتني أمام لوحة لها أشعر كأنّها تزداد يومًا بعد يوم تجذّرًا في الطفولة وليس العكس.
إنّها تُصوّر بخفّة من دون أنْ تترك المادة واللون يطغيان على الرسم، كما أنّ اللون عندها بارد وخفيف ولا يُريد أنْ يظهر بمظر التباهي والافتتان. إنّ اللون في تجربتها كائنٌ حيّ يرنو إلى الصمت وإلى السكينة وأحيانًا إلى الضياع نفسه. في حين تبقى شخصياتها زئبقية في الزمان والمكان وهائمة في اللونين الأبيض والرمادي. وجوهٌ ليست كالوجوه. لا هي أشباح ولا أجساد ولا أشكال. إنّها بقايا أجساد ممسوخة وهائمة في وحدتها، أحيانًا تبدو وكأنّها تطلب النجدة، وأحيانًا أخرى لا تريد تضامنًا أو شعورًا بالألم تجاهها في المناطق اليباب من العالم، لكنّها بلا ريب عبارة عن لوحات صارخة تطرح أسئلة فكرية عميقة حول الجسد واللجوء، وحول التاريخ والواقع.