ولإيماننا بأنّ الفنّ - الشاهد على أهوال حرب الإبادة الجماعيّة الصهيونيّة المستمرّة ضدّ غزّة، منذ أكثر من 450 يومًا- هو اِشتباك وفعل مقاومة، توجّهنا إلى عدد من الفنّانات والفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين لسؤالهم/نّ: كيف يبدو لهم/نّ الفنّ فعلًا مقاومًا في خضمّ حرب الإبادة؟ وما هي انعكاسات هذه الحرب الوحشيّة على إنتاجهم/نّ البصريّ الإبداعيّ في زمن الإبادة؟ وإلى أيّ درجة يشعرون أنّ المنجز الفنّيّ الفلسطينيّ مُشتبك وفعّال في مواجهة التوحّش الصهيونيّ؟ وأخيرًا، هل يكون الفنّ فعلًا عزاءً وخلاصًا لهم/نّ؟ فكان هذا التحقيق.
وديع خالد: واجبٌ يشعُ منه الأمل
من المغلق من البئر الأولى من داخل مخيّمنا الأصغر، إلى فلسطين ككلّ، هذه الكلمة (مخيّم) اللاحقة والمتعلّقة بذكرى مؤلمة على شعبنا الفلسطينيّ (النكبة) بل وأصبحت الحاضرة بكلّ مشهدها منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023. هذه الرسالة التي كانت همًّا كبيرًا على أكتاف رواد الحركة التشكيليّة، كإسماعيل شموط وتمام الأكحل، لكن كانت المعوّقات كبيرة كإنهاء وبتر أصحاب الرسائل المفصليّة (ناجي العلي)، بالإضافة لقلّة عدد الفنّانين آنذاك، حتّى وفي إحدى الفترات الزمنيّة القريبة بداية عام 2000 اتّخذت بعض الجماعات أو المؤسّسات التي تعنى بالفنّ منحنى آخر كان اهتمامه بالذات ورومانسيّتها والعديد من المفاهيم العامّة، وفق ما هو مطلوب من بعض الدول المانحة في محاولة لطمس القضيّة الأولى، كلّ ذلك كان عابرًا، ونسيانه كان أسرع أمام حرب الإبادة الصهيونيّة ضدّ قطاع غزّة، والتي أعادت وحدة الرسالة والهدف لدى الفنّان التشكيليّ، فكان أن تحمّل واجبه أمام العالم معتبرًا فنّه أداة مقاومة واجبة، غيّرت العديد من آراء بعض المجتمعات، وعرّفت أخرى بمفصل قضيّتنا، ومنها ما كانت بمثابة دفع معنويّ لمجتمعنا الفلسطينيّ، في الداخل وفي الشتات.
كفنّان تشكيليّ منذ أن بدأت إلى الآن لا تزال قضيّتي هي القضية الفلسطينيّة ببعدها السياسيّ والاجتماعيّ. وما هي كلّ تلك الانعكاسات الوحشيّة إلّا إصرارًا وتأكيدًا على التشبّث والتعمّق في محتوى أرضنا وتاريخها وموروثها الأزليّ، وفي النهاية نقدّم ما علينا كواجب تجاه بلادنا وإرثنا، ونسعى أن يكون ملامسًا لقلوب الأجيال القادمة. ومن هذا الواجب يشع الأمل.
رانيا عامودي: حماية الوجود
الفنّ في ظلّ الظروف الصعبة ما هو إلّا تعبير وتوثيق عن مدى الفظاعة والبشاعة التي تمرّ بها الإنسانيّة، وهو أداة لنقل مشاهد وصدمات الحرب وإخراجها من الداخل وتجسيدها بصريًّا، وهو أيضًا أداة لإيصال الصوت باحتجاج وانتقاد لما يجري.
كما لا يمكن الحزم بأنّ الإنتاج البصريّ أخذ شكلًا محدّدًا لأنّ العدوان لا يزال قائمًا حتّى اللحظة، والناس في حالة من الصدمة، وهذا ما يجعل الفنّ يتمثّل بالحالة عند الفنّان أوّلًا، حيث أنّ الأحداث وتفاعل الفنّان معها بصريًّا سواء بالشكل أو اللون أو الخطّ أو المواضيع المطروحة، التي ستتناول أحداث الحرب والعدوان وما بعدها من تداعيات سياسيّة واجتماعيّة ومشاعر إنسانيّة هي ما سنشهده لاحقًا بالحركة الفنّيّة القادمة التي ستأخذ منعطفًا مختلفًا في المستقبل لم يكتمل تشكيله بعد.
العمل الفنّيّ بالحقيقة يتمثّل في حماية الوجود، وهو تجسيد لعلاقتنا بالعالم، هذا العالم الذي أصبح جحيمًا على أرض الواقع، والذي يتمّ تطويعه داخل اللوحة لاحتضان الألم وإعادة صياغته بأدوات أخرى، تجعل من هذا الألم الذي يتمثّل بالموت ولادة جديدة في عمل فنّيّ جديد، وهو ما يمثّل مفهوم الموت والولادة معًا. من هنا يلامس الفنّ الأبعاد النفسيّة الباطنيّة داخل الفنّان، وداخل المتلقّي ممّا يشكّل عزاءً للطرفين.
العزيز عاطف: مقاومة بلا فنّ هي "قطع طرق"
كلّ إنتاج فنّيّ في مزاحمة المأساة ـ ليس يبدو- بل هو نوع من أنواع الخلاص الفرديّ والهرب من هول حساسيّات الفنّان المفرطة التي لولا إفراطها في دواخله لما أنتجته الطبيعة فنّانًا؛ وإذ اتّفقنا ويجب أن نتّفق أنّه لا يكفي الحديث عن المشتغل الفنّيّ بصفته "فنّانًا" ومن صفته ننطلق. بل إنّ لكلّ ممارس فنّيّ صفاته الشخصيّة ودرجات انتمائه لمجتمعه وقضاياه. كلّ إنسان/ فنّان يدفع في المأساة من قلبه ثمن انتمائه. فالقصف الجسديّ يهطل بالتمزيق والتلهيب والترطيم على الفلسطينيّ في غزّة، وذات العمليّة ينهش بها نفسيّة وقلب الفلسطينيّ والإنسان الذي يشاهد ذلك. لا تقدر اللوحة الفنّيّة على مواجهة الـ D9، وقماشة الكانفس لو حملت على سطحها رسمة لمكعب فولاذيّ ببعدٍ يُقرأ على أنّ عرضه ألف كيلومتر ستفقأها الرصاصة. وهذه القماشة لا تقي البرد ولا يمكن لها أن تكون خيمة.
الفنّ ألين وأخف وأرق من أن يقاوم، إلّا أنّ مقاومة بلا فنّ هي "قطع طرق"، وشعب بمأساة وبلا فنّ شعب يصرخ من أنفه.
إذًا؛ الفنّ هو أحد صرخاتنا، وأقلام تأريخنا لمأساتنا، وبوابة من بوابات صناعتنا لهُويّتنا. والفنّ لعب على رصيف الموت، وضحك في برك الدم والدموع، وابتسامة من خلف ذخيرة الـF16.
من ادّعاء ضخم بالتماهي النفسيّ والشعوريّ والانتمائيّ مع المجزرة التي تستهدفنا بالإبادات أصبح إنتاجي مترنّحًا بين الإشادة بالمقاومة؛ ودور الفنّ والثقافة في تقويّة الحاضنة، وبين البكاء والكآبة فنحن الحاضنة أيضًا. وصرت منتجًا للصور الشبحيّة السرياليّة التي ولأوّل مرّة تعجز عن مبارزة صور الواقع الحقيقيّة.
مرام حسن: اللوحة أداة ترسّخ الحقّ الفلسطينيّ
ظهر الرسم والتصوير بمعناه الأوروبيّ في فلسطين في مطلع القرن العشرين، تأثّرًا بالفنّ الاستشراقيّ الأوروبيّ الذي تعرّف عليه الفنّانون الفلسطينيّون من خلال الفنّانين الأوروبيّين المقيمين في فلسطين. وتركّز اهتمام الفنّانين في تلك الفترة على رسم الشخصيّات، أيّ فنّ البورتريه، والطبيعة الصامتة وظهر العديد من الفنّانين أمثال داوود زلاطيمو ونقولا الصايغ وغيرهما... ورغم أنّ النكبة كانت الحدث التاريخيّ الأكثر تأثيرًا على مسيرة الفنّ التشكيليّ منذ خمسينات القرن الماضي، إلّا أنّ الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة المعاصرة تعتبر امتدادًا لمسيرة طويلة من الاشتغال البصريّ في مجال الفنون التطبيقيّة خاصّة، في فلسطين والمنطقة المحيطة بها، إضافة إلى بوادر اشتغال في الفنّ الحديث ظهرت خلال النصف الأوّل من القرن العشرين.
كفلسطينيّة حملت الوطن بالغربة وتنقلت به بعيدًا عن ترابه، سكنتني بلادي في غربتي وشغلتني بمشاعري وتنفّست فيها عبر فنّيّ، وأرى أنّ الفنّ التشكيليّ وسيلة تعبيريّة هامّة للدفاع عن الحقّ الفلسطينيّ، وقد كان الفنّان دائمًا عنصرا متفاعلا مع الأحدث يتأثّر ويعبّر ويؤثّر بالمجتمع، وحين أتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، نهضت واتّقدت في داخلي شعلة الثورة وتعزّز إحساسي في الفنّ كأداة مقاومة، رغم أنّني كنت أكرّس أعمالي لرسم الوطن بطبيعته الجميلة؛ أرضه وبحره وسهوله وزيتونه، ولم أكن أبدًا أحبّ مناظر الدمار والخراب والقتل والدم.
فنّيّ خلاصة مشاعري وإحساسي الإنسانيّ الخاصّ بي بين الحب والدفء والخوف والسلام، ودائمًا كنت أسعى للتعبير عن الوطن برموز وشخوص تحاكي المكان والزمان، أمّا بعد "طوفان الأقصى" ومع الأحداث المتتالية بين حالات النصر أحيانًا وحالات الانتكاس أحيانًا أخرى، كانت المشاعر مختلطة بين الفرح والألم، إلى أن طغى الألم أكثر، فتوجّهت للتعبير عن حالات إنسانيّة فرديّة ناقلة هذه المشاعر بين الحياة والموت برسم الكثير من الوجوه التي تَظهر فيها المعاناة، كما رسمت وجوه الشهداء من أطفال وسيدات وشباب وقادة...
لقد آمنت بأنّ الألوان والريشة والقماش هي أسلحتي للتعبير عمّا يختلج في النفس من مشاعر حزن وغضب، وأنّ وسيلتي لتوثيق حقّي المسلوب هو الرسم للوصول إلى العالم، فاللوحة أداة ترسّخ الحقّ الفلسطينيّ بين الفكرة والموضوع والألوان والأسلوب عندما تتنقل بين المدائن لتعرّف العالم عمّا يحدث في أرضنا التي تشهد إبادة جماعيّة لم يعرف التاريخ المعاصر مثيلًا لها، فالاحتلال يسعى لطمس هويّتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا... لكنّنا كفنّانات وفنّانين فلسطينيّين حافظنا بمنجزنا البصريّ على هويّتنا وتراثنا وثقافتنا، وأصبح للفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ سماته الخاصّة به، وقد برز منذ النكبة عام 1948 العديد من الفنّانات والفنّانين الذين اشتغلوا بالقضية الفلسطينيّة، وما زلنا إلى الآن كفنّانات وفنّانين نسعى لتوثيق حقّنا وإرثنا وهويّتنا عبر أعمالنا الفنّيّة.
يوسف كتلو: انعكاس قوّة الروح الإنسانيّة
الفنّ، في خضمّ حرب إبادة جماعيّة شاملة، يصبح أداة مقاومة قويّة. من موقع الفنّان التشكيليّ، يمكن القول إنّ الفنّ ليس مجرّد وسيلة للتعبير عن الألم والمعاناة، بل هو أيضًا وسيلة لتوثيق الأحداث ونقل الرسائل إلى العالم. في ظلّ العدوان الوحشيّ، يصبح الفنّ نافذة للأمل والعزاء، ويعكس قوّة الروح الإنسانيّة في مواجهة الظلم.
العدوان الوحشيّ يؤثّر بشكلٍ كبير على الإنتاج البصريّ الإبداعيّ. الفنّان يجد نفسه مضطّرًا للتعامل مع مشاعر الغضب والحزن واليأس، وهذه المشاعر تنعكس في أعماله. يمكن أن تكون اللوحات أكثر قتامة، والألوان أكثر حدّة، والمواضيع أكثر تعقيدًا. الفنّ يصبح وسيلة للتنفيس عن المشاعر المكبوتة وللتعبير عن الصمود والمقاومة.
المنجز الفنّيّ الفلسطينيّ يلعب دورًا فعّالًا في مواجهة التوحّش الصهيونيّ. من خلال الفنّ، يمكن للفنّانين نقل قصصهم وتجاربهم إلى العالم، وتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطينيّ. الفنّ يصبح وسيلة للتواصل مع الآخرين، ولإثارة الوعي بالقضيّة الفلسطينيّة، ولتعزيز التضامن الدوليّ.
أخيرًا، الفنّ يمكن أن يكون عزاءً وخلاصًا في أوقات الأزمات، إذ يمكن للفنّ أن يقدّم للناس لحظات من الجمال والأمل، وأن يذكّرهم بأنّ هناك دائمًا نورًا في نهاية النفق. الفنّ يمكن أن يكون وسيلة للشفاء والتعافي، ولإعادة بناء الروح الإنسانيّة بعد الصدمات.
في النهاية، الفنّ هو أكثر من مجرّد وسيلة للتعبير؛ هو أداة للمقاومة، ووسيلة للتواصل، ومصدر للأمل والعزاء.
هيثم شملوني: ولدت تجربتي في المعتقل
تتنوّع مناحي واتّجاهات الفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين. منها ما هو لأسباب شخصيّة مختلفة ومنها ما تفرضه الجغرافيا والجغرافيا السياسية عليهم... لكنّي هنا أودّ أن أتحدّث بإيجاز عن الفنّ الفلسطينيّ المقاوم، والذي تجلّى مع ولادة الثورة الفلسطينيّة المعاصرة في عام 1965، والذي كان له فاعليّة كبيرة- وخاصّة الملصق الثوريّ- مع الشعر والأغنية الثوريّة، وفيما بعد الرواية والقصّة بأنواعها، مع المستوى العالي لصوت البندقيّة الثوريّة المندمجة مع تنامي وصعود الثورات العالميّة في أكثر من مكان في العالم.
أمّا عن تجربتي الشخصيّة، فقد ولدت أساسًا في مناخ ثوريّ، حيث اكتشفت موهبتي في أحد معتقلات نظام الأسد البائد. فكانت تلك المحاولات المبكرة- خاصّة أنّي كنت حدث السن؛ في السابعة عشرة من عمري- تمثّل حالة من التحصين الداخليّ والذاتيّ لمواجهة القمع الكبير الذي تعرّضت له مع الآلاف من المعتقلين المناضلين في تلك الأقبية... وهذا ما كرّسني فنّانًا تشكيليًّا ولدت تجربته في المعتقل لتواصل مسيرتها وتعدّد مناحيها في إطار الثورة، تمجيدًا ومواكبةً للحدث السياسيّ. حتّى في أكثر مراحل النضال الفلسطينيّ حلكة. إيمانًا مني بأنّ الإيمان بحتميّة النصر هو نصف الطريق إلى النصر الكبير.
ولم تكن المجازر التي قامت وتقوم بها اليوم في غزّة عصابات الإجرام الصهيونيّة ومن خلفها الولايات المتّحدة، وبعض دول العار في الغرب والعالم ومنها العالم العربيّ للأسف، هي الأولى بالإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطينيّ. فمفهوم الإبادة الجماعيّة ولد حتّى قبل تأسيس الحركة الصهيونيّة، وذلك عبر تكريس الكراهية من خلال آليّات التفكير للكثير من المفكّرين والنخب الغربيّة تحت مسميّات كثيرة، أبرزها العقائد الدينيّة المختلفة. لكنّ الحقيقة أنّنا كشعب فلسطينيّ ننتمي إلى قلب العالم، مركز الديانات الثلاث السماويّة... لكنّ الأهمّ هو اكتشاف الثروات الباطنيّة حول فلسطين وقربها من أهمّ ممرّ مائيّ في العالم- قناة السويس- وهذا ما سارع في إيجاد كيان يعتبر مشروعًا استعماريًّا إمبرياليًّا متقدّمًا لنهب الثروات ولإعاقة أيّ حالة نهضويّة في هذا العالم الممتدّ من الخليج العربيّ إلى المحيط الأطلسيّ والذي له امتدادات أوسع بكثير بحكم الرابط الدينيّ والتاريخيّ الطويل، لذا أتت أفكار القوميّة العربيّة والتقدّميّة المناهضة والكاشفة لأبعاد إيجاد المشروع الصهيونيّ في فلسطين، لتجعل شكل المواجهة أكثر وعيًا وعنفًا وتتصدره العناوين الوجوديّة - إمّا نحن أو هم- ويكون لسان حال الشعب الفلسطينيّ- إمّا نحن أو نحن- و- إمّا فلسطين وإمّا النار جيلًا بعد جيل-. وبما أنّ العدو الصهيونيّ ومن خلفه يملكون كلّ عناصر الإجرام والقوّة لذا عملوا على كسر إرادة الشعب الفلسطينيّ وطرده من وطنه وأرضه عبر مراحل مختلفة من التاريخ المعاصر، معتمدين على الإبادة الجماعيّة منهجًا في أيّ مكان يمكن أن يصلوا إليه. وربّما الآن تعتبر غزّة هي الجرح الأكثر نزفًا. لكنّهم لم يتردّدوا لا في الضفّة الغربيّة ولا في لبنان ولا حتّى في النقب وغيرها من الداخل المحتلّ.
ختامًا أستعير مقولة للرئيس الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات (رحمه الله): "عظمة هذه الثورة في أنّها نبض شاعر وريشة فنّان وقلم كاتب ومبضع جراح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائيّيها وزوجها"... لذا أتت الكثير من أعمالي فاضحة لممارسات الاحتلال ومن يواليه في الإجرام، وتمجيدًا للمقاومة وللعمق الحضاريّ والإنسانيّ والتاريخيّ للشعب الفلسطينيّ. وذلك إيمانًا باستمراريّة دور الفنون والثقافة والآداب كمشاريع مقاومة ونهضويّة لعبت وتلعب دورها الحضاريّ والإنسانيّ والتاريخيّ لهذا الشعب. من هنا كان دوري من ضمن الكثيرين من النخب، وتحديدًا في الغرب الذي نعيش فيه قسريًّا، من خلال لعب الأدوار الكاشفة والفاضحة للدعاية الصهيونيّة وداعميها في السياسة والإعلام الغربيّ، وتعرية هذه الطغمة وفضحها أمام شعوبها. وأتت الأحداث بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، لتظهر حجم الأكاذيب والانحطاط الأخلاقيّ والقيميّ. وكمية التضليل من قبل هذه العصابات. لذا رأينا هذا الكمّ الكبير من المتضامنين في العالم وبشكلٍ خاصّ في الغرب، ومنها الولايات المتّحدة وبريطانيا، وخروج عشرات آلاف اليهود في هذه المظاهرات والاعتصامات رفضًا للدعاية الصهيونيّة، التي تحتلّ وتغتصب الدين اليهوديّ كما تحتلّ وتغتصب فلسطين، ولسان حالهم يقول: "لا تمارسوا المجازر والإبادة الجماعيّة باسمنا".
هنادي بدر: الفن يعبر عن الواقع
مرّ عام قاسٍ حزين، بعد أكثر من خمسة وسبعين عامًا من التهجير والقمع والاحتلال والإحلال بمستوطن لا يعرف الرحمة والإنسانيّة، ففلسطين كانت دائمًا في صراع ومعاناة مستمرّة، أرض وهِبت في القرن الماضي لغريب ظلّ يسرق الأرض ويغتصب كلّ يوم المزيد والمزيد من وطن لشعب موجود وقائم بتراث عميق مترسّخ بهذه بالأرض، شعب محبّ لكلّ ما في هذه البقعة المباركة من عالمنا المتخاذل الهش، شعب لا يبيع ولا يساوم، يشرّد، يقتّل ويهجّر أبناءه كلّ يوم من قِبَل الآخر الصهيونيّ الذي لا يبحث عن سلام وإن إدّعى، وغزّة كانت دائمًا عصيّة على هذا المحتلّ وكان لها النصيب الأكبر من التضييق والحصار المستمرّ الذي اشتدّ ووصل ذروته قبل عشرين عامًا لتصبح غزّة أكبر سجن على هذه الأرض، لكنّ أهلها يحبّون الحياة ويطلبون الحرّيّة والكرامة وهذا يزعج المحتلّ الذي تذرّع بأحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، لتكون حجّته لمزيدٍ من التنكيل والقتل والدمار، التي تعجز ريشة الفنّان عن رسم صور ذلك التنكيل والقتل والدمار وما خلّفه من بشاعة ومآسي حرب الإبادة، لكنّنا نحاول، فالفنّ التشكيليّ لغة عالميّة تنطق دون حرف وتنقل صورة بدون عدسة أو كاميرا، نحاول بألواننا شدّ المشاهد، وبخطوط لوحتنا الإشارة لحدث جديد طارئ، علّنا نساهم في نشر الوعي لشعوب العالم التي تحرّكها أحيانًا فكرة أو رمز من رموز لوحة، للتساؤل ومحاولة معرفة الحقيقة، وهنا تروي ريشة الفنّان تفاصيل وتنقل ألمًا أو تبثّ أملًا بغدٍ أفضل، تمامًا كما ترشد قصيدة شاعر مشاعر مستمعٍ لنصٍّ يحكي حكاية النكبة المستمرّة، فيتفاعل المستمع ويتوسّع وعيه ومعرفته بحقيقة ما يحدث. مدينة كاملة تمّ تدمير بيوتها، ومدارسها، ومستشفياتها، وكنائسها وجوامعها، لا حدود للشر والانتقام الذي طاول الأطفال والنساء والشيوخ، وكلّ ما هو ومن هو فلسطينيّ هو هدف لهذا المحتلّ.
عندما درسنا تعريفات الفنّ كان أحد تلك التعريفات أنّ الفنّ أكثر تعبيرًا عن الحقيقة من الواقع، لكنّ ما يحدث في غزّة هو الأصدق والأكثر تعبيرًا عن الواقع والحقيقة المؤلمة، وقفت لوحتي دائمًا إلى جانب فلسطين الوطن فرسمت جمال أرضها وسمائها وأهلها، أقصاها وزهر الحنون (شقائق النعمان)، أثواب نسائها الصامدات، زيتونها المتجذّر بالأرض، وعنب جبالها الشامخة، واليوم أرسم رغم الألم ابتسامة الأطفال الفرحين بنجاة دمية أو حيوان أليف من نار الحرب، وأرسم صرخة طفل يهرب من صوت القذائف، وأم تبكي فراق زوج أو ولد...
أعيش اليوم في كندا، أرسم لوحاتي وأسير بها في شوارع المدن أرفعها عاليًا، أهتف مع المحتجّين ضدّ حرب الإبادة، هذه رسالتي وهذا ما أستطيع فعله لنفسي أوّلًا لأنصف إنسانيّتي التي ترفض أن تكون متفرجًا وساكتًا عن الحقّ، وأجد تفاعلًا واسعًا من كلّ الجنسيات وتشجيعًا على الاستمرار وتتمّ دعوتي باستمرار للمشاركة في الفعاليّات الداعمة والمساندة لشعبي الفلسطينيّ، أتنقل بين المدن الكنديّة وأحمل معي رسالة وقضيّة وأعلم أنّ الكثير من الفنّانين لا يقصرون بأعمالهم ويساهمون بنشر الوعي من خلال أعمالهم، التي تُنشر باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعيّ وفي معارض جماعيّة مشتركة، هذه رسالتنا وهذا دورنا، وأتمنى أن نرسم نحن الفنّانون التشكيليّون قريبًا لوحات النصر والتحرير.