}

"الكونت دي مونت كريستو" بفيلم جديد: الآثار المدمرة للانتقام

سمير رمان سمير رمان 20 يناير 2025
سينما "الكونت دي مونت كريستو" بفيلم جديد: الآثار المدمرة للانتقام
لقطة من فيلم "مونت كريستو"

قبل مئتي عام، نشر الروائي الفرنسي ألكسندر دوما الأب روايته الشهيرة "الكونت دي مونت كريستو"، فحظيت بإقبال شديد من القراء لا يزال مستمرًا حتى اليوم. وبعد مئة عامٍ على نشر الرواية، دخلت السينما عالم الفنّ، لتلتقط الرواية وتحولها مراتٍ ومرات إلى أفلام على الشاشة البيضاء. تتناول الرواية، وكذلك الأفلام التي اقتبست منها، موضوع الثأر والانتقام، الذي يلقى على الدوام شعبية واسعة في أوساط الجماهير.
يؤكّد علماء النفس أنّ جذور فكرة الانتقام تكمن في المشاعر السلبية التي تعشش في عقل الإنسان، وتبقى طويلًا في ذاكرته جراء تعرضه في وقتٍ ما إلى الإهانة، الظلم، أو الإذلال. ولا يستطيع من تعرّض لها أن يتخلّص من هذه الأحاسيس إلا عندما يرى من أساء إليه يعاني ويتعذّب. ومهما حاول المرء إقناع من حوله عكس ذلك، فإنّه يشعر، في حقيقة الأمر، بالارتياح الشديد لحظة علمه أنّ الجاني يعاني.
تبيّن الدراسات والأبحاث أنّ الانتقام، أو الثأر، يبعث في أنفسنا الرضى على المستوى البيولوجي. ولاحظت تلك الأبحاث أنشطةً معينة في مناطق من دماغ الإنسان الذي يمارس الأعمالٍ الانتقامية ردًا على ما تعرض له من عدوان، فتبدو تلك الأنشطة الدماغية وكأنّها مرتبطة بمكافأة وفّرها له الانتقام.
يعتقد أنصار نظرية التطور أنّ الرغبة في الانتقام ترقى إلى سعي أسلافنا وجهودهم المنصبّة على دعم النظام القائم. باختصارٍ، إنهم يردون على العدوان بالعدوان، كي يحصنوا أنفسهم مستقبلًا من اعتداءات أكبر. وبهذا تتحقق عدالة متوازنة في صورتها البدائية.

الانتقام والقانون
بغضّ النظر عن المبدأ القديم "العين بالعين، والسنّ بالسنّ، واليد باليد"، الذي تشكّل منذ القدم، فإنّنا لا نجرؤ في أيامنا على الانتقام ممّن أساء إلينا. فالانتقام عمومًا عمل مخالف للقانون، وعندما يكون المرء مستعدًّا لارتكاب الجريمة، فإنّه نادرًا ما يكون على علمٍ بنتائج عمله المحتملة.
تؤكّد الإحصاءات الحقيقة التي تقول بأنّ الرغبة في الانتقام هي ما يدفع المرء إلى ارتكاب جريمة: على سبيل المثال، تكمن أسباب 20 ــ 60% من الجرائم التي يرتكبها بعض التلاميذ في مدارسهم، وقيامهم بإطلاق النار على معلميهم وزملائهم، في الرغبة في الانتقام. أمّا في السينما، فدائمًا ما يكون تقمّص شخصية المنتقِم أكثر سهولة، وأكثر عقلانية، من ارتكاب فعل الجريمة فعليًا. ولهذا بالذات، تحظى قصة "الكونت دي مونت كريستو" بالشعبية في أوساط صناع السينما، فهي بحقّ قصةّ مثالية عن الانتقام.
الكونت دي مونت كريستو نفسه هو بطل يستمتع المشاهد العاقل حتى بارتداء معطفه وتقمصّ دوره. إنّه رجلٌ فاحش الثراء، يمنحه المال سلطةً هائلة، وإمكانيات لا حصر لها، ليس فقط للانتقام، ولكن أيضًا لتثقيف نفسه واكتشاف العالم، والقيام في الوقت نفسه بأعمالٍ الخير. وككلّ الأبطال الرومانسيين، يبدو دي مونت كريستو فعالًا للغاية، ويتمكن من تحقيق أهدافه.
على عكس بقية المجرمين الآخرين، يستسهل المشاهد، أو القارئ، مقارنة نفسه بالمنتقم، لأنّ المنتقمين يكونون ببساطة أناسًا طيبين في جوهرهم، ولكنّهم وجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بعملٍ قذر، خاصّةً عندما يقف القانون عاجزًا عن أخذ حقّهم.




يطلعنا ألكسندر دوما أيضًا على معاناة بطل روايته. ها هم "أصدقاؤه" يخونونه بدافع الحسد. أمّا السلطات فتدينه ظلمًا، إمّا لأنّها سلطة جبانة، أو لاعتباراتها السياسية. بعد حرمان لا يحتمل في سجنه الانفرادي، يرى القارئ أنّ الذي فقد كلّ شيء له كلّ الحقّ في الانتقام.
في الوقت نفسه، يصرّ ألكسندر دوما، الذي يهتمّ عادةَ بأدقّ التفاصيل، على أن يجعل انتقام البطل قاسيًا للغاية. يلقى أحد "أصدقائه" القدامى، من الذين غدروا به، حتفه نتيجة جشعه. أمّا عدوّه الرئيس فيتركه طليقًا، بل ويمنحه مبلغًا كبيرًا. في نهاية الأمر، يفكّر دي مونت كريستو في تصرفاته، ويصل إلى قناعةٍ بأنّه يساهم بتساهله هذا في تفاقم الشرّ.
وهكذا، فإنّ ألكسندر دوما، الذي لم يكن في حياته الفعلية يلتزم بأيّة مبادئ، أظهر نفسه من خلال روايته الشهيرة رجلًا ذا أخلاق. وعلى الرغم من ذلك، استطاع ان يظهر نفسه كاتبًا ذا إحساسٍ أدبيّ فريد، مما أهلّه ليبدع نموذج بطلٍ يحرّك خيال القارئ لمئتي عامٍ.
عندما رقّي البحّار إدموند دانتيس (الممثل بيير نينيه) إلى رتبة قبطان، ظنّ أنّ الحظّ قد ابتسم له: فبفضل وضعه الجديد أصبح في إمكان الفتى دخول المجتمع الراقي، والتقدّم لخطبة حبيبته مرسيدس (الممثلة أنايس ديموستيه)، الفتاة الأرستقراطية. قبل الزفاف، تملأ السعادة قلبه، ويحدوه الأمل بمستقبلٍ لامع: إنّه واثق ٌ من حبّه لمرسيدس، ويشعر بالسعادة الغامرة قبل العرس، وينشر الفرح حوله. غير أنّ القدر كان له بالمرصاد: معاناة لا يتصورها العقل، لم يكن الشابّ السعيد يتوقعها البتّة. بدافع الحسد، ونتيجة مخططات شريرة، يظهر أعداء لإدموند من كلّ حدبٍ وصوب، يتفقون في ما بينهم، لدوافع مختلفة، على الإيقاع به، ويدّعون أنّه متآمرٌ بونابرتيّ، فيعتقل الشاب ويزجّ في غياهب سجن قلعة (إيف) الرهيب، حيث تنتظره آلام وعذابات لا تحتمل. هكذا، وبكلّ بساطة، انهارت أحلام إدموند الوردية، وانهارت جميع مخططاته للمستقبل. في سجنه المظلم، يضطر إدموند للنضال في سبيل البقاء على قيد الحياة، في حين يواصل المتآمرون نسج مؤامراتهم في الخفاء. تتأجج نار الانتقام في صدره، وتحرقه الرغبة بالعودة إلى حبيبته ليثبت لها براءته من التهم أمام الجميع.
على الرغم من قسوة ما عاشه في السجن، لم يحرم القدر إدموند من بعض الشفقة، فقد قيّض له بعد سنواتٍ مرعبة أمضاها في السجن الخروج أخيرًا إلى الحريّة، وهدفه الآن الانتقام من الخونة.
النسخة الجديدة من الفيلم هي للمخرجين ألكسندر دو لا باتيليير، وماثيو ديلابورت. وكان الفيلم قد عرض لأول مرّة في مهرجان كان السينمائي عام 2024. وهذه لم تكن المرة الأولى التي يتصدّى فيها المخرجان الطموحان لإخراج فيلمٍ مأخوذ عن روايات ألكسندر دوما الأب، فقد سبق لهما وكتبا سيناريو الجزء الثاني من فيلم عن رواية "الفرسان الثلاثة".
رواية "الكونت دي مونت كريستو" جرى تناولها سينمائيًا أقلّ مما حظيت به رواية "الفرسان الثلاثة". وكانت أول ثلاثة أفلامٍ عنها قد صدرت في الولايات المتحدة الأميركية، وإيطاليا، وفرنسا. منذ ذلك الحين، نادرًا ما كان الزمن الفاصل بين نسخة وأُخرى من الرواية المعدّلة يزيد عن بضع سنوات، وهذا لا يشمل بالطبع الأفلام والمسلسلات التي استخدمت فقط حبكة الرواية، وأعادت تسمية الشخصيات، ونقلت الحدث بلباسٍ عصريّ حديث. وهذا النهج بالذات هو الذي اختاره القائمون على المسلسل الإسباني "Montecristo"، الذي عرض العام الماضي، ويعرض الآن عبر سينما الإنترنت "Amediateka".
قرّر ألكسندر دو لا باتيليير، وماثيو ديلابورت، اللذان كتبا معًا سيناريو الفيلم، ألا يتلاعبا بالحداثة. كما في الفيلم الأصلي، تبدأ أحداث الفيلم عام 1815، فتمتلئ مساحة الشاشة بالمعاطف الطويلة والقبّعات العالية ومسدسات المبارزة، فضلًا عن القصور الفاخرة والقلاع والسفن والمناظر الطبيعية الخلّابة. على الجانب الآخر، بدا فيلم " مونت كريستو"، الذي أصبح أغلى فيلمٍ فرنسيّ هذا العام، مهيبًا وشاملًا، مليئًا بالتعديلات المعتادة التي تميّز الأفلام الكلاسيكيّة.
ومع ذلك، قام المخرجان بمراجعة بعض تفاصيل الرواية، التي قد تتسبّب في إرباك المشاهد المعاصر. وربما، ولكي يصبح الفيلم أقرب إلى مفاهيم جيل الشباب الجديد، حوّل صانعو الفيلم مقرّ إقامة دي مونت كريستو إلى ما يشبه عرين باتمان، الذي يضمّ غرفًا سريّة، ومكتبًا خاصًّا للتفكير وإعداد خطط الانتقام. يغيّر الكونت مظهره وأقنعته، كما فعل في الرواية، ولكنّ كلّ هذا لا ينطبق على رواية ألكسندر دوما، فهو أقرب إلى سلسلة أفلام "المهمّة المستحيلة".
غالبية التعديلات التي أجراها المخرجان على النصّ الأصلي مفهومة تمامًا في إطار تقليص حجم نصّ الرواية الضخم، وخفض عدد الشخصيات وتقليل الأحداث. على الرغم من كلّ هذه الجهود، بقي الفيلم من العيار الثقيل. بيد أنّ بعض التعديلات الأُخرى بقيت أقلّ وضوحًا: على سبيل المثال، أصبح الآن لدى فيليفورت أخت (إديل سينفال)، بدلًا من الأب البونابرتي القديم نوبرتييه.
وعلى الرغم من كلّ التعديلات، يبقى الفيلم وفيًّا لروح الرواية، ولفكرتها الأساسية حول الآثار المدمرة التي يخلّفها الانتقام. وقبل كلّ شيء على المنتقم نفسه. إنّ هوس الكونت مونت كريستو بمعاقبة فيليفورت، ودانجلار (باتريك ميليت)، وفيرناند مورسيف (باستيان بوبوم) يدمّر حياة أقرب الناس إليه، ولا يجلب له السعادة، أو الرضى، بل يضيف خسائر جديدة إلى القائمة الطويلة أصلًا من الخسائر التي مني بها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.