}

عن عروض عراقية أصيلة في مهرجان ڤيينا

أسعد عرابي 23 يناير 2025
تشكيل عن عروض عراقية أصيلة في مهرجان ڤيينا
"هامش المدن"، كريم سعدون

 

حظيت منذ أكثر من شهر بدعوة مع زوجتي إلى ڤيينا، وذلك للمشاركة في مهرجان الخريف الفني- الموسيقي والنمساوي العربي العريق، والذي حمل عنوان: "الفن من أجل الحرية"، مبادرة من فنان سوري تعبيري معروف ومهاجر منذ سنوات مديدة هو إبراهيم برغود، كان أغلب المدعوين أوروبيين بمستوى عال من الاحتراف (على مثال الثنائي الغنائي البلغاري إلى جانب عازفي العود والقانون والنمساوي وآلة الساكسيفون)، وقلة من كبار المصورين العرب المهاجرين من العراق وسورية والمغرب. من الجدير بالذكر أن أغلب المعروضات كان تبرعًا (لتسهيل إقامة النازحين) ذلك أنه نشاط عار عن أي دعم مادي خارجي ما عدا المعونات المتواضعة النمساوية الرسمية.

الحضور الفني العراقي 

كان ضمن العروض العربية الحضور العراقي طاغيًا على غرار لوحتَيْ المعلم الكبير علي النجار (أبرز تلاميذ فائق حسن) من الرواد الذين عانوا خاصةً من الحرب الأخيرة وأشعة الراديو. تصوّر لوحتاه المعروضتان ذاكرة مستشفى وسرير بغدادي لعملية استئصال سرطان المثانة في جسده، أخبرني عن أربع سيدات (فهمت أنهن أخواته) أصيبوا بالسرطان أيضًا. يحضرني هنا موت أبرز النحاتين في تلك الفترة العصيبة وهو فتاح الترك نتيجة إصابته بالسرطان وسببه أشعة الراديوم رغم رعاية الشيخ الفنان حسن آل ثاني له وتخصيص محترف عملاق لنحته، وكان قد اقتنى ضمن مجموعته للفن العربي المعاصر للعديد منهم خاصةً ضياء العزاوي وعلي طالب الذي قدم أجمل أعمال المجموعة دون منازع. وقد كان فائق حسن من الرعيل الأول ولم ينج من هذه المشكلة وهو لاجئ إلى باريس وبسبب ضيق أحواله المادية مع عائلته أوصى أن يحرق جثمانه بعد وفاته وهكذا كان، وأُرسل رماده في زجاجة إلى متحفه الخاص عند افتتاحه  المتأخر في بغداد قبل أن تسرق لوحاته وزجاجة رماده.

"العائلة"، يونس العزاوي/ "حكاية لا تُحكى"، كريم سعدون


تغلب على الاتجاهات الفنية العراقية مأساوية التعبيرية المحلية المتناسلة عبر ثلاثة أجيال ابتداءً من المؤسس التراثي الأكبر جواد سليم ثم فائق حسن، ترسّخ هذا الاتجاه مع الجيل المتوسط الذي تجمع عام 1969 م "الرؤيا الجديدة" بقيادة وبيان ضياء العزاوي (جماعة متزامنة مع نظيرتها السورية "جماعة العشرة" وعلى علاقة ودية بينهما). 

انفجرت أصالة هذا الاتجاه مع ختام المهرجان الفني وبمعرض ثنائي استثنائي أقيم في نفس الصالة للمعلم يونس العزاوي (مدرس في بوزار برلين إثر وفاة مروان قصاب باشي) والفنان كريم سعدون تعبيري ما بعد الحداثة واكتشفت عمق أصالته بهذه المناسبة، وهو مقيم مع عائلته في السويد مترددًا بسبب حنينه إلى المشرق على إسطنبول بين الفينة والأُخرى.

تحضرني في هذه المناسبة لوحة مؤثرة من بدائع علي طالب تعتبر رمزًا للمحنة العراقية المتتالية من تمثال رأس جلجامش حُفر من عينيه لأسفل لحيته أخدودان دامعان. فإذا كان العارض الأول يونس العزاوي وهو الأكبر عمرًا يملك مع زميله نفس حساسية ما بعد المِحنة العراقية فإنه لا يخلو من المهارة الأكاديمية في التشريح، أما كريم سعدون فيتجه أسلوبه إلى مستقبل التعبيرية المحدثة التي نظّر لها جورج بازليتز مقدِّمًا المرحلة التالية. ناهيك عن نشاط كريم سعدون الكتابي المحترف والمديد في علم الجمال، (نتشابه في هذه الازدواجية المخبرية - النقدية).

قدمت خصائص الاثنين مرتجلًا نصًا جماليًا مختزلًا خلال سهرة الافتتاح.

هأنذا من جديد أُثبّت مجهري التحليلي على لوحات الفنان كريم سعدون لأكشف ما خفي على القارئ لأنها أشد غموضًا من بقية المهرجان.

أسرني المستوى المتفوق للمعرض الثنائي فاستعدت الميكروفون وقدمتهما بطريقة مختزلة ولكنها بليغة التشخيص باحثًا عن وحدتهما بدلًا من تباعدهما الأسلوبي مما اضطرني لمراجعة خصائص التعبيرية التراجيدية والعدمية العراقية منذ جواد سليم وقد يكون ميراث النزعة الوجودية في منحوتات الرافدين.

رافق مداخلتي الترجمة المباشرة من الزميل السوري صفوان الشوقي المستقر في ڤيينا منذ عشر سنوات. 

كريم سعدون مع الفنانة مونيكا موريسون إلى جانب اللوحة التي اقتنتها من المعرض


كريم سعدون والزمان الرافدي
 

هو من مواليد بغداد عام 1959م درس التصوير في كلية الفنون ثم مدرسة أكاديمية الكرافيك (وهي صفة مشتركة خلف التفوق الكرافيكي للمحترف العراقي وتوليفه مع اللوحة التعبيرية من حفر وطباعة حجرية).

حضر ثلاث حروب واستقر قبل الأخيرة في السويد منذ عام 2002 م لكنه كان خلالها أسيرًا لقلقه على عائلته حتى انتهت الحرب، ولحقوا به إلى عاصمة الثقافة السويدية مدينة كوتيبورغ. ثم أصبح يتردد كزائر عاشق إلى إسطنبول بنفس الوقت.

تتميز شخوص كريم بالطابع الأركيولوجي الأثري الرافدي، من سومر وآكاد وحتى آشور وبابل وجلجامش وآنكيدو، وذلك بسبب تدربه الطوعي على استعادة هيئاتهم عن الأصل في المتحف والطبيعة وتأمل خفايا الأختام الميثولوجية كما كان يفعل بابلو بيكاسو في مجموعته الثرية بالأسود والأبيض (بالأحبار الصينية) تحت عنوان الرسام والموديل. يعتمد كريم على التبصيم المتلاشي زمانيًا.

يملك كريم أسلوبًا وآلية مغايرة تمامًا لأنه يعتمد على تبصيم (أقرب إلى الشبحية الطباعية لليتوغراف) تضع الشكل في حالة هشة شافة على تضاريس الأرضية فتبدو هيأته منخورة ذات رفيف ما بعد حداثي قريب من الإعدام والعدمية والكتابة العبثية المشبعة بالضوء، يحضرني في هذا التناحر بين الأسود والأبيض (ينطبق هذا بدوره على أشباح الحروب والأرقام الجيولوجية) بمساعي ألبرتو جياكوميتي الأولى التي استقى أسلوبه المتناحر والمتآكل بين الوجود والعدم من نسخ تماثيل كوديا في متحف اللوفر وتمثال حمورابي ووصاياه. شخوص طوطمية سحرية ميتافيزيقية روحانية بدليل أن المادة النحتية السوداء التي صنعت منها هذه النصب الكهنوتية كانت تُجلب من محاجر تقع جغرافيًا بين الكويت والإمارات، وحاليًا تُدعى "ميلوتين"؛ طيعة النحت ذات بريق فني جذاب استقى من طبيعتها ألبرتو جياكوميتي هذا التناحر بين النيغاتيف والبوزيتيف وتكوينات لبورتريهات وأجساد وجودية (على طريقة جان بول سارتر)، تنازع الوجود والعدم بحيث يبدو تكوين المنحوتة الجياكوميتية أشبه بفراغ بين كتلتين وهميتين وبطاوية محدثة. إذا كانت عدميات تماثيل ورسوم جياكوميتي مرآة الحرب العالمية الثانية فإن أعمال كريم سعدون تعكس قهر الإنسان بتلاشيه المكاني أو الجغرافي الذي يشف عن تضاريسه رفيفه الضوئي المقزح.

 إبراهيم برغود (إلى اليسار) وأسعد عرابي وخلفهما لوحات كريم سعدون


لا تقبل لوحة كريم أي تعديل (مثلها مثل موسيقى شوبيرت)، أقرب إلى القناعة بالتوقف غير المتوقع في حالة السكيتش أو الكروكي الرسم السريع، يرفع يده مثله مثل زميله يونس العزاوي بلحظة انفعالية غير متوقعة، لأن كليهما لا يعرفان معنى اللوحة المكتملة، فالشكل بحالة تمور وتحول دائم لا يقبل سكونية الاكتمال مثل الباروك والتصوير الأكاديمي بما فيه الاستشراقي، ويبدو أن عامل التراكم الزماني بنيوي.

الفرق بين الاثنين جوهري، كريم سعدون يرسم الرأس والجسد في خطوط عبثية واحدة لا تجعل الرأس أهم من الجسد، قد تكون حركة الورك أكثر أهمية، بينما يونس العزاوي بعكسه فالرأس أهم من الجسد مثل سابقه مروان قصاب باشي سليل ما قبل الحداثة، لهذا يبدو كريم أشد حداثة من نظيره يونس، لكن اتصالهما المشترك بحبل سرة خصائص فنون الرافدين الألفية والتعبيرية العراقية ما بعد جماعة الرؤيا الجديدة بمن فيهم علي طالب تبدو أشد غورًا من اختلافهما التفصيلي.

ثنائي نخبوي استثنائي، وإذا كان اسم يونس العزاوي معروفًا خاصة وأنه مدرس في أهم كلية الفنون الجميلة في ألمانيا، فإن كريم سعدون لم يأخذ حقه بعد، بل لم تكتشف أصالته المستقبلية بعد، وهذا هو أحد أسباب اهتمامي بفنه.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.