"المستقبل... في مكان ما". كانت هذه العبارة المفتاحية للفيلم الروائي الفلسطيني القصير "ما بعد/ Up Shot" للمخرجة مها الحاج بمثابة انعتاق من الزمكان، منذ ما قبل المشهد الأول، وفي ذلك تكريس لرؤية جديدة وخاصة للواقع تسعى إلى إعادة تأويله وتفسيره، وفق قناعة صنّاع الفيلم والمتلقين، كلٍّ على حدة، وتبعًا لميولهم الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تحكم التأويلات، لحكاية الزوجين سليمان (محمد بكري)، ولبنى (عرين العمري)، المتشحين بالسواد في غابة أو وادي الزيتون، المنعتقة كما هما من أشكال السلطة والسطوة كافة، بل وخلخلتها أيضًا.
تنجح الحاج، كاتبة نص الفيلم وحواريّاته، في الانزياح، ولو جزئيًا، ولكن من دون هروب من أطروحات سياسية مباشرة، فتنحاز إلى تلك المرتبطة بالإنسان منها، منطلقة من اليومي والهامشي والمهمش، وربما الهش، وما يُعتقد أنه زائل وما هو بزائل، لتبني بنظرة عميقة، ورؤية فنية كتابية وإخراجية، باتت تشكل حالة سينمائية، ليست فلسطينية فحسب، بل عالمية، من دون أي مبالغات، من هذا اليومي من يرمي علينا حملًا أثقل من قدراتنا على حمله، أو احتماله، فيحضر الفلسطيني باعتباره إنسانًا، بل كائنًا مفرطًا في إنسانيّته، حدّ الجنون، وليس حيوانًا بشريًا كما أرادوه، وأرادوا الترويج له، في رد فني بديع على مدار أقل من نصف ساعة بقليل، على كل المقولات الصهيونية الجديدة والقديمة، بتياراتها المتسابقة التي تقتات على دماء الأطفال الخمسة، وإن كبروا في الذاكرة الخصبة، وباتت لهم حيواتهم، وأبناؤهم، ولو في مخيلة عجوزين منعزلين يجللهما السواد، والإنكار الرديف للاستنكار في حالتهما.
"ما بعد" تجاوز التسلية، بمعناها المسطح، من دون أن يقع في شرك الملل، فكان ممتعًا من دون تسخيف، ولا استخفاف... متعة عميقة حررتنا لتسع وعشرين دقيقة وبضع ثوانٍ من سجون عدّة، فلم يكن ساحرًا للعين فحسب، بل يفيض عن الواقع وعليه برؤية لا تخلو من جماليّات الإبهار السينمائي غير المتكلف، من دون ثرثرة، فكان الفيلم سينما، وليست كل الأفلام سينما.
في "ما بعد" ثمة إبهار على مستوى التكوين والمكنون، وهنالك كثير من الدهشة والإدهاش، إبهار للعين والروح، وإدهاش للعقل والسيّالات العصبية التي ارتعشت في ضخ دماء الجسد إلى مختلف تفرعاته، مع مشاهده المتعددة، فالفيلم يتجاوز السرديات الكبرى، والحقائق، والميتافيزيق، ولا يتجاوزها في آن، وهذا من بين أسرار تميّزه، الذي يعكس تميّز ما يمكن وصفه بسرابيّة البساطة، تحسب لكاتبه ومخرجته، وللفنانين الثلاثة: بكري، والعمري، وعامر حليحل.
ببياض الغسيل، والبيض البلدي، وباخضرار الزيتون، والمشاهد الطبيعية، تكسر الحاج قتامة المشاهد، وبذكاء الممتلكة لأدواتها، تلف بنا الكرة الأرضية، بل والمجرّات، في انفلات من جاذبية أرضية، من دون انفلات من مغناطيسية سينمائية استثنائية، لنجد أنفسنا في وادي الزيتون، نقاسم الزوجين "شجاراتهما الحميمة"، ويوميّاتهما التي تغزوها أنباء أولادهما الخمسة، خالد الابن البكر، وخلافاته الزوجية، وابنه المصاب بالحمى، وباسل الذي يعاني من صراع ما بين البقاء في عمله وشغفه بالرسم، وأمية "حبيبة أبوها" التي هاتفته، كما أشار لزوجته ولنا، هي التي قطعت علاقتها بالعريس المفترض، مع أنها في الرابعة والثلاثين من عمرها، وحمزة المراهق الكبير "الداير ورا النسوان"، وطارق غير المتعلم الذي أرسل بريدًا إلكترونيًا عن حضور قريب إلى حيث منزل والديه الريفي.
يقتحم علاقة الزوجين مع نفسيهما والطبيعة وأحاديثهما المتواصلة عن الأبناء في غربتهما الصحافي خليل الحاج (عامر حليحل)، زميل ابنهما البكر في الدراسة، فيظهر لاهثًا بعد ساعتين من المشي، أي من حيث أقرب نقطة إلى حيث يقطنان، وهي المحطة الأقرب التي يمكن للحافلة أن تصلها.
ومع تبدّل الفصول في انحياز متسارع نحو بكاء السماء الماطر، والعواصف البرانيّة والجوانيّة المرافقة، يبلغهما عن رغبته بكتابة تقرير عنهما، بعد أن تمكن أخيرًا من العثور عليهما، هما المنقطعان عن العالم الخارجي، حيث لا هواتف ولا إنترنت، ولا وسائل تواصل اجتماعي!
يتجاهله "أبو خالد"، الطبيب السابق كما زوجته، بينما تغمره مياه الأمطار الغزيرة، في حين يصر الصحافي على البقاء، حتى ينجح فعليًا في اقتحام بيت الأسرار، قبل أن يخبرهما بأن تقريره ليس فقط عنهما، بل عن العائلات في غزة، ومصائرها، بعد سنوات من الاجتياحات الإسرائيلية، اي عن الـ"ما بعد".
وفي حفلة الشاي الثلاثية، يسعى الصحافي لاستنطاقهما عن مأساتهما "الأصعب"، مطلقًا المفاجأة الأكثر توحّشًا حد الفاجعة، لكونهما دفنا أبناءهما الخمسة مرّة واحدة، ذات قصف في عدوان ما على القطاع الذي لا يزال ينزف دمًا، محاولًا سؤالهما عن تفاصيل استشهاد الأبناء، حين كان الأب في عمله في المستشفى، بينما يلفهما الصمت من فرط الوجع، وعدم الرغبة في البوح.
يسألهما قبل المغادرة عن أعمارهم حين فارقوا الحياة شهداء، فيخرج الأب أخيرًا عن صمته، بأن خالد كان في العاشرة، وباسل في الثامنة، وطارق في السادسة، وأمية في الرابعة، وحمزة في عامه الثاني.
تعرض عليه "أم خالد" العشاء رفقتهما حين كان يهم بالمغادرة، فتعود الحوارات بين الزوجين كما كانت، عن خالد وابنه الذي دهمته حرارة مرتفعة، وخلافاته مع زوجته، وأيهما المحق، بينما يخبر سليمان لبنى أن أبناءهما جميعهم قد يقضون عطلة نهاية الأسبوع سويًا، بمن فيهم "أمية"، التي يصفها كما أشقائها بـ"روح الروح"، لافتًا إلى أنه، وفي مكالمته، "قبل قليل"، أهدى صديق "خليل" الصحافي، سلامًا، وأوصاه بأن لا يعود في الليل وحده، قبل أن يحدثنا عن ابن خالد "اللي شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، ونوايا الجدّة حياكة "كنزات صوف" للأحفاد جميهًا حين يأتون لزيارتهم!
الفيلم كان أشبه بصفعة لي كمشاهد فلسطيني، وهو ما يحدث مع كل مشاهدة، ولا شك في أنه كان بمثابة لكمة، أو ضربة بشاكوش على الرأس، للمشاهد خارجها، ما أهله للحصول على عدد من الجوائز العالمية في المهرجانات الدولية والعربية، من لوكارنو، إلى الشارقة، مرورًا بالجونة.
يمكن النظر إلى فيلم "ما بعد" كصرخة إنسانية من دون ضجيج، ومحاكاة رمزية لما يحدث من إبادة تتواصل في غزة منذ خمسة عشر شهرًا، مشكلًا قصيدة بصرية صيغت بنظرة فذّة تمزج ما بين الرثاء والهجاء في آن... قصيدة سينمائية حول الخسارات في العالم الموازي الهش، ليس فقط في غزة الآن، بل في "المستقبل"، و"في مكان ما".