تستعد دور السينما لتعرض على شاشاتها الفيلم الوثائقي الطويل للمخرج جوشوا أوبنهايمر، مؤلف فيلم "فعل القتل/ The Act Of Killing"، الذي سبق أن أثار ضجة واسعة في الأوساط الفنيّة. هنا، قرر أوبنهايمر بدء سيرته المهنية من النهاية، وهذا بالتحديد ما عبّر عنه في حديثه عن فيلم "النهاية/ The End".
عميقًا تحت الأرض، تعيش أسرة رجل فاحش الثراء حياةً مزرية في مخبأ فخم. الرجل الذي جمع ثروته من استخراج الثروات الباطنية (الممثل الإنكليزي مايكل شانون)، يعيش مع زوجته (الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون)، وابنه (الممثل جورج ماكاي)، مع آخرين من القاطنين: طبيب، وكبير الخدم، وصديقة لا تطاق من صديقات الزوجة. على جدران الغرف الواسعة علّقت كنوز الفنّ العالمي، حيث تزاحم أعمال مونيه أعمال رينوار. وفي وسط إحدى الغرف لعبة ضخمة لسكة حديد وقاطرة وعربات على هضبةٍ من هضاب هوليوود. في الطابق أسفل الغرفة حوض سباحة. ولو لم تكن مدّة العزلة طويلة، لأمكن لكلّ وسائل الرفاهية هذه أن تزيّن الحياة الرتيبة التي عانت منها الأسرة. ليس من السهل تمضية الوقت المتوقف عن الحركة. في أحوالٍ كهذه، لن تجدي الأبحاث التاريخية نفعًا (كان الأب يكتب مذكراته)، ولن يفيد تبادل الحكايات (تبيّن أن الأم كانت ترقص في مسرح البولشوي)، ولن تكون أفلام السينما في الأماسي مسليةً بما يكفي، وكذلك الأمر مع المطبخ (حيث ينصب كلّ مساء عشاء فاخر، وتفتح زجاجات النبيذ)، مع العوم في المسبح الفاخر.
في العام العشرين على الأسر، وفي المنطقة، حيث يقع المخبأ، تبدو المناجم خلابةً للغاية، وكأنّها تحفة هندسية معمارية متوحشة. تظهر امرأة غريبة سوداء (الممثلة موسيس إنجرام). بعد إجراءات الحجز الصحي الصارمة، وبعد خلافات نشبت بين قاطني المخبأ، تقرّر إسكان الضيفة في منزلٍ مشترك، لتكون زوجة الابن شاحب الوجه. وها هي على وشك أن تهب المخبأ جيلًا جديدًا من سكان الأرض. بدأ الفيلم بأغنيةٍ، وهذا مهمّ، فهو فيلمٌ موسيقي يحكي عن الغد المشرق، وينتهي بمقاطع غنائية لا تقل تفاؤلًا تصدح أملًا باقتناء منزلٍ، بينما يفتح الأبطال أعينهم على وسعها في محاولةٍ لتلمّس ضوءٍ في آخر النفق، على أمل أن تختتم حياتهم البائسة تحت الأرض بنهاية سعيدة.
في أول فيلمٍ روائيٍّ طويل للمخرج جوشوا أوبنهايمر، يدور جدلٌ موغلٌ في القدم حول المفاضلة بين نهايةٍ رهيبة، وبين رعبٍ لا نهاية له. وبالفعل، كانت الدقائق الـ150 كافية للمخرج الوثائقي اللامع لاتخاذ القرار الحاسم، الذي جاء في صالح الخيار الأول، أي لصالح النهاية الرهيبة. يتساءل المشاهد، كيف يمكن تحمّل يومٍ، أو أسبوع، أو شهرٍ، في صحبة مغنين مملّين. توصّل اوبنهايمر إلى فكرته قبل وقتٍ طويل من توقف عقارب ساعة القيامة عند الساعة 11.59 مساءٍ (نحن اليوم عند 15 ثانية قبل تلك اللحظة المتخيّلة). لقد اتخذ المخرج قراره بمراقبة الحياة اليومية لإحدى العائلات الثرية الخاضعة للحجر الصحيّ (كان ذلك حتى قبل الحجر الصحي الشامل الذي فرضته جائحة كورونا)، وجاء الإغلاق الناجم عن فيروس كورونا، والأزمة السياسية التي تلته، ليجعل الفيلم، وهو الذي ليس أكثر من تجربة معملية بحتة، أكثر إلحاحًا.
ربما فقط لأنّه صانع أفلام وثائقية، يتفاعل مباشرةً مع آلام وأوجاع الآخرين، وينظر إلى السينما باعتبارها "مسكّن ألم"، نجد أنّ جميع أفلام أوبنهايمر الوثائقية الرائجة عن الصدمة والشعور بالذنب، مثل فيلم "نظرة الصمت"، وفيلم "فعل القتل"، تلمّح إلى مسكّنات الألم. إنّه يعرف أنّ عمل الكاميرا هو أن تزيح أيّ كابوسٍ، توفر الراحة دائمًا، وأنّ الأغنية الموجودة في المشاهد توفر الراحة دومًا، وتبعد المشاهد عن الواقع. يتناول أوبنهايمر موضوع النهاية الموضّح في العنوان بقوة، ويغلفها بالمفاهيم الفكرية، وبالمحترفين الأفذاذ، مثل المصور ميخائيل كريتشمان، والمنتجة إيتيه ليمان. يتذكر عشاق السينما الرجل الأول من أفلام أندري زفياغنسيف. فالشقّة الأنيقة تحت الأرض، حيث يعيش أبطال أوبنهايمر، والشقق الفاخرة التي بناها كريشمان، وزفياغنسيف، لشخصيات رواية "إيلينا"، و"بلا حبّ"، متشابهة بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام. كما أنّ بريق التصوير الفوتوغرافي للأزياء اللامعة متأصلٌ أيضًا في استوديوهات فيلم "النهاية".
أمّا بالنسبة للمنتجة ليمان، فمن الصعب المبالغة في تقدير مساهمتها في حدثٍ آخر عن نهاية العالم مقارنة مع فيلم "الكآبة/ Melancholie" للمخرج لارس فون تريه (Lars von Trier). لقد نجح الأمر مع ليمان بشكلٍ مذهل مع أوبنهايمر أيضًا. وهكذا، فإنّ القوة الأوبرالية التي منحها للقلاع وللمناظر الطبيعية في فيلم "الكآبة" استبدلت في فيلم "النهاية" بجحور اصطناعية عديمة اللون. أمامنا هنا مجرد أشكالٍ جوفاء لا يمكن، أو ربما يستحيل، ملؤها بالمحتوى. فالبشرية جمعاء، بكلّ ثقافتها وطروحاتها وذاكرتها وأعصابها، حشرت في عدد قليل من الغرف، ولا تستطيع هذه البشرية أن تقرر اللون الذي تطلي به الجدران.
بدءًا باقتباس من قصائد "الرباعيات الأربع/ Four Quartels"(*) للشاعر الإنكليزي ت. س. إليوت، يتمسّك الفيلم بالصنف الخاص بالشاعر. لذا، ربما يكون من المفيد أن نتذكّر سطرًا آخر من أحد أعماله الأخرى: "الرجل الأجوف": "هذه هي الطريقة التي سينتهي بها العالم، ليس بانفجارٍ البتة، بل بالنشيج والعويل". بالنسبة للموسيقى بصفتها الأدبية، فإنّ لهذا النحيب نغمةٌ لا تطاق، الأمر الذي يعني أنّ أوبنهايمر الطموح يضع لنفسه مهام فنيّة مستحيلة حقًا. وكذلك الأمر بالنسبة للموسيقى التصويرية في فيلم "النهاية"، التي جاءت مؤلمةً أيضًا للممثلين أنفسهم، فقد كانوا يتهامسون أحيانًا، ويغمغمون أحيانًا أُخرى، وعندما يجبرون على الغناء، فإنّهم لا يكتفون بالنباح، بل يلهثون أيضًا بحثًا عن الهواء، وينهارون مصدرين أصواتًا كالطقطقة. وفي اللقطة التي تظهر طبق الطعام وقد تشقق، ليس جراء سقوطه المتكرر، بل بسبب الوقت الطويل الذي مرّ عليه، يرى المخرج أنّ الطبق قد أدّى الغرض من وجوده، ونجح في ذلك بالفعل!
وهنا توجد مشكلة بالطبع، فالأغنية في المسرحيات الموسيقية التقليدية تمثّل استراحة مسرحية من نوعٍ ما، كما أنّها أيضًا تركز على الحالة الداخلية للبطل، ذلك الشيء السريّ الذي لا يتشاطره مع أولئك الذي يقفون بالقرب منه، ولا مع بقية الشخصيات، بل يشاطره المشاهد وحده. ليس لدى أبطال أوبنهايمر ما يشاركونه الآخرين، فهم منغلقون على أنفسهم حتى وهم يمارسون ألعابهم المعذّبة، ويدفعون أنفسهم قسرًا في نوعٍ من التظاهر بالأمل، أو باللامبالاة المصطنعة، ويدخلون في نقاشات تافهة لا أهمية لها. إنّها حالة مزعجة للغاية، خاصّة أنّ الأغنية تتناهى إلينا من مكانٍ سحيق من دواخلنا، بل من أعمق أعماقنا.
هامش:
(*) قصائد "الرباعيات الأربع"/ Four Quartels: هي سلسلة من أربع قصائد للشاعر الإنكليزي ت. س. إليوت صدرت عام 1943، وتعبّر عن وجهة نظر ورؤية الشاعر، وهي:
- Burnt Norton.
- East Coker.
- The Dry Salvages.
- Little Gidding.