}

عن تخييل المدينة سينمائيًا

أشرف الحساني 9 يناير 2025
سينما عن تخييل المدينة سينمائيًا
(Getty)

 

يكاد كلّ فيلم سينمائي عربي أو عالمي، لا يخلو من تصوير المدينة ومعالمها وناسها ومقاهيها وحاناتها وشوارعها ومكتباتها وكل ما يتّصل بالحياة اليومية العادية التي يُنظّم أحوالها البشر. إنّ المدينة باعتبارها فضاءَ عامًا يتحرّك فيه الناس، شكّلت على مدار سنوات بحثًا مونوغرافيًا للعديد من الأبحاث الفكرية والسوسيولوجية والأدبيّة والأنثروبولوجية التي عملت على تشريح مفهوم المدينة وفهم معالمها ورموزها وصُوَرها. وقد أنتجت هذه البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية تراثًا معرفيًا كبيرًا يُشكّل اليوم مدخلًا للعديد من المخرجين والفنانين والفوتوغرافيين الذين يعملون في أعمالهم الفنّية على براديغم المدينة متخيّلها. إذْ يُقدّم كلّ بحث من الأبحاث نظرة مختلفة عن المدينة ونظامها الداخلي، أيْ أنّ كلّ علم معيّن يُقدّم المدينة، لا بما توجد عليه في أرض الواقع، وإنّما انطلاقًا من النتائج العلمية التي يصل إليها العلم. فإذا كان الفكر ينظر إلى المدينة، بوصفها مُكوّنًا من ضمن ما يُسمّيه هابرماس بـ "الفضاء العمومي" فإنّنا نجد بعض الأبحاث التاريخية في مجال الفنّ، قد لخّصت المدينة في معمارها وزخارفها ومقرنصاتها، على أساس أنّ الناس لا يبقى في أجسادها من المدن إلاّ ما يتنفسونه من فنّ وظلال.
إنّنا هنا أمام مفهوم مركّب لا يستطيع علم واحد أنْ يُحيط به ويُفكّك ميكانيزماته وخيوطه اللامتناهية وذلك لأنّ الحديث عن المدينة يُضمر في ذاته خطابًا ميتافيزيقيًا أصيلًا حول الإنسان بصفة عامة. وإذا ما حاولنا أنْ نُقيم مقارنة علمية بين ما أنتجه الغرب والعرب في هذا المضمار، سنجد أنّ الدراسات الغربية تحتلّ مراتب متقدمة، لا لأنّ مفهوم المدينة ظهر بشكل مبكّر في الغرب، وإنّما لأنّ البحث العلمي في العالم العربي لم يولِ اهتمامًا يُذكر لهذا المفهوم الذي يُعدّ مدخلًا حقيقيًا ناجعًا لفهم البيئة العربية وتاريخها. لقد أنتج الغرب العديد من المؤلفات التي تُشكّل اليوم ركيزة أساسية في فهم المجتمع الغربي المعاصر انطلاقًا من مفهوم المدينة. وقد سعى العديد من المخرجين مثل مارتن سكورسيزي وجون لوك غودار وفيلليني وجيم جارموش وودي آلين وغيرهم لجعل المدينة فضاءً سينمائيًا واقعيًا لتخييل قصصهم وحكاياتهم وتجاربهم وفق آليات مختلفة ومتباينة من التصوير.

المؤرّخ اللبناني خالد زيادة كتب عام 2019 كتابًا أصيلًا بعنوان "المدينة العربيّة والحداثة"، وإلى حدّ الآن، يُشكّل هذا الكتاب مرجعًا قويًا للباحثين


بيد أنّ هذه المؤلفات حول المدينة لم تبق رهينة المكتبات، بل نعثر عليها كمراجع خفية تُظلّل سيرة الأفلام واللوحات والصُوَر الفوتوغرافية وألبومات الأغاني، بحكم ما تتوفّر عليه من معلومات وتحليلات نابعة من عمق التجربة الفكرية. أيْ أنّ هذه المراجع تشعر فيها لحظة مشاهدة فيلم أو تأمّل لوحة، لأنّها تكون مثل خارطة طريق تُوجّه المخرج وتُضيء لمشاهده الكثير من معالم الطريق صوب مشهد أو لقطة. لكنْ في مقابل ذلك نكاد لا نعثر على أبحاث عربية تعاملت مع المدينة وفق مشروع فكري يُتيح لها إمكانية فهم الخلفيات التاريخية والأسس الفكريّة والمعالم الفنّية التي يحبل بها فضاء المدينة. ذلك أنّ أغلب الدراسات ركّزت في مفهوم المدينة على الجانب التاريخي التعميمي الذي يقف عند حضارة دولة معيّنة، فيُحاول الباحث أنْ يُوسع حدود الرؤية قليلًا بما يجعله يتوقّف عند مدينة اندثرت أو ما تزال إلى حدود اليوم. أيْ أنّه لا لا توجد دراسات مونوغرافية فنية حول مدينة معيّنة. فهذا البحث المونوغرافي الدقيق الذي يدفع الباحث إلى اكتشاف أشياء مذهلة، لا يدخل ضمن اهتمامات الباحثين في مجال التاريخ، وذلك لسبب يتيم هو أنّ البحث التاريخي ما يزال غارقًا في سرد الأحداث السياسية والاجتماعية وكتابة تاريخ المركز، بما يجعله امتدادًا عميقًا لما كانت تُروّج بعض التيارات الكلاسيكية في مجال الكتابة التاريخية وأعني المدرسة المنهجية أو الوضعية مع كل من لانغوا وسينيوبوس. وتجدر الإشارة إلى أنّ المؤرّخ اللبناني خالد زيادة كتب عام 2019 كتابًا أصيلًا بعنوان "المدينة العربيّة والحداثة"، وإلى حدّ الآن، يُشكّل هذا الكتاب مرجعًا قويًا للباحثين ونافذة معرفية يُطلّ من خلالها القارئ على التحولات التي شهدتها المدينة العربية في علاقتها بالتحديث والحداثة. وكما عودنا خالد زيادة في أبحاثه النوعية في كتابة تاريخ الهامش، عمل في هذا الكتاب على استخدام وثائق المحكمة الشرعية التي تعتبر مصدرا مذهلا لتاريخ المدينة خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بما جعله في مصنّفه هذا الصادر عن دار "رياض الريس" يعود إلى مفهوم المدينة الإسلامية ويُوسّع من اصطلاحها ومفهوم تاريخها وذاكرتها. بيد أنّ هذه العودة إلى شكل من أشكال المدن القديمة (والتي ما تزال كمعالم فنية تُدين قبح الحاضر) لم يجعل خالد زيادة يسقط في التاريخ السردي للمدن الإسلامية التي توقّف عند تحليل بعضها ونسج تاريخها، بقدر ما جعل خطاب الكتاب يتأرجح بين التاريخ والفنّ. إنّ قيمة هذا الكتاب في تفكير صاحبه كيف وضع المدينة العربية أمام مختبر الحداثة وليس التحديث.

وفي مقابل هذه الدراسات الفكرية المختلفة المشارب والتوجّهات، نعثر على العديد من الأعمال الفنية التي قاربت المدينة وجعلت منها أفقًا للتفكير والحلم. فقد عمل العديد من المخرجين المسرحيين على كتابة مسرحيات تدور داخل مدن وتُعبّر بطرق فعّالة عن هذا الفضاء وكيف تتشابك فيه القضايا والعلامات والرموز. ونفس الأمر بالنسبة للفنّ التشكيلي الذي نعثر فيه على تجارب فنّية عربية قامت بمسرحة المادة على سند اللوحة وحاولت عبر المواد والألوان أنْ تصوغ سرديّة بصريّة تُفكّر في المدينة. بل هناك العديد من اللوحات التي يُمكن اعتبارها امتدادًا للدراسات الثقافيّة، بحكم المنسوب المرتفع من التفكير في ثناياها وقدرة الفنان التشكيلي على القبض على متخيّل الواقع المَديني داخل اللوحة. ولكنْ وبغضّ النّظر عن قيمة بعض المسرحيات العربية والأعمال التشكيلية، تبدو السينما كأنّها الفنّ الذي كان الأكثر قُدرة على تخييل المدينة، وذلك بسبب ما يُوفّره الفنّ السابع من تقنيات في التصوير واللعب على الفضاء، بما يجعل الفيلم يكون الأكثر قوّة على التأثير مقارنة بالوسائط البصرية الأخرى.
إنّ السينما تبدو في مختلف أنماطها قادرة على تخييل المدينة والقبض على جسدها وهسيسها داخل صورة سينمائية يتشابك فيها الواقع بالخيال والتاريخ بالحلم. وهذا ما جعل العديد من المدن العربية مثل بيروت والقاهرة وعمان وبغداد ودمشق تُصبح من المدن الأيقونية، بحكم عدد الأفلام التي تناولت سيرة المدينة ورصدت أحوالها وأعلامها وتبدّلاتها وبحرها ومقاهيها ولياليها على شكل سرديات سينمائية مبتكرة، تُعيد إعطاء قيمة كبيرة للفضاء المديني داخل عرش الصورة السينمائية. غير أنّ هذه الأخيرة، حين تتعامل مع المدينة، فهي عادة ما تُقدّمها بأشكال مختلفة، إمّا تكون المدينة عبارة عن فضاء تجري فيه مجموعة من أحداث الفيلم أو أنّها مجرّد إكسسوار خارجي كما هي الحال لعددٍ من الأفلام السينمائية الأجنبية التي صُوّرت داخل فضاءات المدينة العربيّة أو بطريقة تغدو فيها المدينة عبارة عن شخصية فيلمية مؤثرة في بنية النصّ والمعمار الدرامي للفيلم بصفةٍ عامّة.
والحقيقة أنّ جماليات بعض المدن العربية اكتسبت سحرها أكثر داخل النسيج البصري للصورة السينمائية، كما هي الحال مع مدينة القاهرة التي غدت مدينة أسطورية في المخيال الجمعي العربي، بحكم ما عرفته المدينة من تصوير للعديد من الأفلام العربية والعالمية والتي أعادت بشكل ضمني وأخرجتها من كونها مدينة تاريخية ضاربة في القدم إلى أنْ تغدو مدينة تنضح بتحوّلات المجتمع في علاقتها ببعض من القضايا ذات الصلة بالسياسة والمجتمع والثقافة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.