بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ينظم المتحف الفلسطيني في بلدة بير زيت، قرب رام الله، معرضًا نادرًا للمصوّر العربي الأول في القدس، خليل رعد (1854-1957)، بعنوان "ليست مجرّد ذاكرة: خليل رعد والعين المعاصرة" للتأمل في أسباب استمرار راهنية أعماله والأسئلة التي تثيرها؛ فالتصوير الفوتوغرافي، بوصفه توثيقًا وتأويلًا في آن، لا يقتصر على التقاط اللحظة، بل يشارك في تشكيل ذاكرة المكان وتثبيت الحضور والسردية، وفي مواجهة المحو الاستعماري المستمر؛ لذا تبقى صور رعد شهادة بصرية على فلسطين التي غيّرتها نكبة 1948 حدَّ المحو والإبادة لجزء من مشاهدها الطبيعية ومدنها وأهلها، وعلى نحو عميق.
تتنقل صور رعد، التي تعود إلى العقود الممتدة بين نهايات القرن التاسع عشر وأربعينيات القرن العشرين، بين المشهدي والعفوي، وبين التوراتي والمعاصر لزمنه، كاشفة عن فلسطين عند مفترق عالم عثماني آفل، وحكم استعماري بريطاني، ومشروع استيطاني صهيوني ناشئ.
وإذا كانت أعماله المبكرة استندت إلى تقاليد التصوير الغربي لـ"الأرض المقدسة"، فإن عدسته اتجهت تدريجيًا نحو يوميات الفلسطينيين في الحقول والأسواق، وفي المهرجانات والاحتجاجات، وعلى الشاطئ وفي الشارع؛ لذا فإن هذه الصور ليست مجرد آثار تاريخية، بل جزء من صراع متواصل حول الهيمنة الثقافية والهوية والذاكرة.
وكان خليل رعد من المصورين المحليين الأوائل في فلسطين، وأغلب الظن أنه العربي الأول الذي امتهن التصوير، حسب الفنانة فيرا تماري، قيّمة المعرض، لافتة إلى أنه التقط في مسيرته المهنية التي امتدت أكثر من نصف قرن، بعض الصور الأكثر انطباعًا في الذاكرة عن الحقبة العثمانية الأخيرة، وعن فلسطين في عهد الانتداب، كما أنه يملك أرشيفًا غنيًا، بدءًا بالمناظر الطبيعية والمدينية وصور البورتريه، مرورًا بمشاهد الحياة في الأرياف والمدن، ووصولًا إلى الاحتفالات الدينية والأحداث السياسية.
وُلد خليل رعد عام 1854 في قرية "بحمدون" النائية في لبنان، وانتقل مع عائلته في صغره إلى القدس، حيث تلقى تحصيله العلمي في مدرسة المطران غوبات (البروتستانتية)، ومن ثم تدرب في التصوير على يد غرابيد كريكوريان، الذي تعلم المهنة في مدرسة التصوير الوحيدة داخل المجمع الأرمني في البلدة القديمة من القدس، بحيث يُنسب إلى كريكوريان أيضًا إنشاء أول استوديو تجاري في القدس، وتحديدًا في شارع يافا، في سبعينيات القرن التاسع عشر.
في عام 1890، أنشأ رعد استوديو خاصًا به في شارع يافا، قبالة استوديو معلمه السابق، فانطلقت بذلك منافسة حادة بين الرجلين استمرت إلى ما يزيد على عقدين، وانتهت في عام 1913، عندما نشأت شراكة بين استوديو كريكوريان واستوديو رعد بعد المصاهرة بين العائلتين، وبموجب التفاهم الذي تم التوصل إليه آنذاك، بات رعد يركز على تصوير الأحداث السياسية والحياة اليومية، في حين كان كريكوريان يركز على صور البورتريه.
في الأشهر التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، سافر رعد إلى سويسرا لدراسة تقنيات التصوير الجديدة التي ابتكرها المصوّر السويسري كيلر، وهناك تعرف إلى مساعدته وعقد خطوبته عليها. وبعدما أبعدته عنها أعوام الحرب التي أمضاها في فلسطين، عقد قرانه عليها في عام 1919، واستقرا في حي الطالبية جنوب غرب القدس، الذي أصبح - في تطور لافت- مقرًا لعدد من محترفات واستوديوهات التصوير بعد احتلاله من قبل العصابات الصهيونية في عام 1948. وعلى الرغم من انتقال رعد للإقامة في المدينة الجديدة، فقد تابع عمله في الاستوديو الذي كان يملكه في شارع يافا.
| |
| أشار سليم تماري، في ندوة حول خليل رعد ومعرضه، في المتحف الفلسطيني، إلى أن قوات عصابة "الهاغاناه" الصهيونية دخلت استوديو خليل رعد و"نهبت كل أعماله" |
في عام 1948، أصبحت منطقة باب الخليل، الواقعة خارج أسوار البلدة القديمة، جزءًا من المنطقة منزوعة السلاح بين قوات جامعة الدول العربية والقوات الإسرائيلية عند انتهاء المعارك في القدس في أيار/ مايو، فبات الوصول إلى استوديو رعد متعذرًا. لكن، من حسن الحظ، أُنقذ الجزء الأكبر من أرشيف رعد بفضل جرأة شاب إيطالي من أصدقائه، عمد خلال عدد من مهمات الإنقاذ الليلية، إلى تهريب الصور السلبية (نيغاتيف) من المنطقة التي دخلها عبر تسلق أسوار البلدة القديمة التي كانت تحت سيطرة العرب.
استولت قوات العصابات الصهيونية على حي الطالبية، شأنه في ذلك شأن الأحياء المختلطة الأخرى في ما يعرف الآن بالقدس الغربية، وأفرغته من سكانه العرب؛ وهنا خسر رعد وعائلته الاستوديو والمنزل، فعاشوا فترة في "بحمدون" مسقط رأسه، لكن عندما وضعت الحرب أوزارها، عاد إلى المدينة التي أصبحت مدينته، وقد لبى وزوجته دعوة بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس، وأقاما في مجمع البطريركية في البلدة القديمة، حيث توفي عام 1957، وأصبح الجزء الأكبر من مجموعته في عهدة أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.
وأشار الأكاديمي والباحث سليم تماري، في ندوة حول خليل رعد ومعرضه، في المتحف الفلسطيني أخيرًا، إلى أن قوات عصابة "الهاغاناه" الصهيونية دخلت استوديو خليل رعد و"نهبت كل أعماله"، وتسربت لاحقًا وبيعت في السوق، لافتًا إلى أن المؤسسة، وعبر باحثين فلسطينيين، تمكنت من "الحصول عليها مرة ثانية من خلال السوق السوداء". في حين أوضحت الفنانة فيرا تماري أن "المجموعة الكبرى" التي بحوزة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، هي - على ما يبدو- جزءٌ من الأرشيف الذي بقي مع العائلة بعد الهجرة، موضحة أن "زوج ابنة رعد هو الذي باعنا المجموعة الكبرى ببيروت"، لافتة إلى أن المؤسسة "استطاعت شراء صور من عائلة رعد في اليونان".
وعُرف خليل رعد بتصوير المشاهد الخارجية، كما تشهد له صوره الفوتوغرافية في المعرض، مثل المناظر الطبيعية والحياة الريفية والمدن الفلسطينية والمناسبات العامة أو الخاصة، لكنه أيضًا احترف التصوير داخل الاستوديو؛ غير أن أغلبية تلك الصور تبعثرت مع أصحابها الفلسطينيين في جميع أرجاء العالم بعد أن طُردوا من ديارهم عام 1948، ولم يتبق منها غير بضع عشرات في حوزة قلة من المحظوظين ممن استطاعوا الاحتفاظ بصورهم العائلية في منفاهم.
يجمع المعرض، في قسم خاص وبشكل شرائح ضوئية، عددًا من تلك الصور الشخصية أو "البورتريهات" التي تمثل أفرادًا أو عائلات من الطبقة الوسطى في فلسطين، وصورًا أخرى لزوّار أجانب أو شخصيات عامة من رجالات السياسة والدين، كما تتضمن هذه المجموعة صورًا كُلّف رعد بتصويرها لمناسبات عائلية خاصة، مثل الأعراس واحتفالات التخريج المدرسية.
احتوى استوديو خليل رعد، الذي كان في باب الخليل في مدينة القدس، على العديد من مستلزمات التصوير وإكسسوارات الديكور وقطع الأثاث المتنوعة، من كراسٍ ومقاعد ومخدات، وعواميد ودرابزينات كان يسهل تحريكها، بالإضافة إلى لوحات الخلفيات. وقد مكنته هذه جميعًا من أن ينوّع لقطات الصور المختلفة وأجواءها.
كما كان في الاستوديو - وفق فيرا تماري- خزانة مليئة بالأثواب الفلسطينية التقليدية والحلي والقطع الحرفية المتنوعة التي استعملها رعد عند تصوير زبائنه، خصوصًا الزوار الأجانب الذين - كما كان شائعًا خلال سنوات العشرينيات والثلاثينيات- أرادوا صورًا لهم ذات صبغة أصيلة، تقليدًا لسكان البلد المحليين. ومن الغريب أن كثيرين من فلسطينيي الطبقة الوسطى كانوا هم أيضًا يقصدون استوديو رعد ليلتقط لهم مثل هذه الصور.
ولدى تفحص براعة رعد في التصوير الفوتوغرافي وأسلوبه وخياراته الفنية - وفق فيرا تماري- نجد أنه يُظهر المناظر الطبيعية التي صورها في بدايات عمله بطريقة جميلة، وغالبًا ما كانت خالية من الأشخاص، لتذكّر بالصور الرومانسية التي التقطها المسافرون والباحثون التوراتيون والمصوّرون المحترفون الأوائل.
وحسب سليم تماري، تُشكل مساهمة خليل رعد في تصوير أحداث الحرب العظمى (1914-1918)، أي الحرب العالمية الأولى، تحوّلًا مهمًا في التاريخ الفوتوغرافي العربي؛ إذ إنها تلقي ضوءًا جديدًا على ناحية من أعمال رعد لا يُعرف عنها إلا القليل، وتتعارض مع اعتباره مصوّرًا للمشاهد الطبيعية والصور الشخصية في المقام الأول، إضافة إلى تغير التعميم السائد الذي يرى في رعد مصوّرًا مغرقًا في الرؤية الاستشراقية الغربية.
واستمر خليل رعد في رصد الأحداث العامة خلال الانتداب، وتتضمن صوره في تلك الفترة دخول الجنرال أللنبي القدس من شارع يافا في كانون الأول/ ديسمبر 1917، وأعمال الشرطة ضد التظاهرات المعادية لبلفور في تشرين الثاني/ نوفمبر 1929، ومنشآت الجيش البريطاني خارج مدينة القدس، والجنود الهنود والبريطانيين وهم يقومون بأعمال الحراسة في الأماكن العامة، وأعمال الشرطة القمعية أثناء التظاهرات (لا يوجد تواريخ)، ومنع التجول والإضرابات خلال ثورة 1936 في يافا والقدس، والآليات المجنزرة البريطانية تتحرك ضد المتظاهرين في المدن.
وهناك صور عديدة في المعرض تظهر الجنود ورجال الشرطة الهنود والبريطانيين وهم يفتشون المدنيين في الشوارع، كما تتضمن هذه الصور عربًا ويهودًا والعديد من الشخصيات الدينية والمسيحية، وهي الصور الوحيدة التي تظهر النساء في الحيز العام متفرجات أو مشاهدات أو مرافقات للرجال الذين يجري تفتيشهم. ولولا هذه الصور الأخيرة، لكانت صور الحرب عند رعد محصورة بالرجال.
وكشف تماري أنه، وعلاوة على ما حدث لأرشيفه إبّان النكبة، ولكونه - في الفترة العثمانية- انخرط مصورًا للجيش الرابع العثماني وجمال باشا، خاصة بعد ثورة 1908 وأثناء الحرب العالمية الأولى، اعتبره البريطانيون "عميلًا دعائيًا" للعثمانيين، وقاموا باعتقاله في عام 1918 ومصادرة أرشيفه.
واختتم تماري بأن رعد، الذي عاش لأكثر من قرن، كان "شاهدًا على العصر"، وانتقل بين أشكال تصوير متعددة، وأن كان أيضًا "مصور شارع" و"موثق سياسي وحربي"، وليس فقط مصوّر بورتريهات أو مشاهد سياحية.
إن استمرارية الصورة الفوتوغرافية، سواء التقطها رعد قبل أكثر من قرن، أو يوثقها اليوم مصورون فلسطينيون في غزة، تكمن في قدرتها الدائمة على الشهادة؛ فحتى في زمن الإبادة، تظل الصور تحفظ الذاكرة في وجه المحو المتعمد.


تحميل المقال التالي...