في تقاطع لافت، يتشاطر المخرج شكيب طالب بن دياب مع مخرج فيلم "أشكال" (2022) يوسف الشابي - وهو فيلمه الطويل الأول أيضًا- همّ محايثة المدينة في سياق ما بعد ثورات "الربيع العربي"، "المدينة اللي راح تدخل في الحيط" بتعبير سامي رجل الأمن الجزائري (نبيل عسلي) في "196 متر"، هو الذي يعتقد أنّه الأعرف بـ "خماجها" - المدينة كما هي فعلًا- والمدينة التي تدعو أبناءها لاحتراق عبثي يشهد عليه بطل رجل الأمن التونسي (محمد قريع) في أشكال المتورّط في تحقيق انتحاري قد يؤدّي به إلى نفس المصير السريالي الغامض لولا معرفته واختباره هو كذلك لتشوّهاتها.
حضور المرأة القويّ الثابت المتحرّي عن الحقيقة بشكل مكابد ومغاير، والمتمظهر في شخصيّة الضابطة (فاطمة الوصايفي) في "أشكال" والطبيبة النفسيّة (مريم مجكان) في "196 متر"، والمبرز لدورها كبنية ورمز للصبر والصمود وطلب التعافي يوقعنا في تقاطع ثانٍ يجعلنا نعتقد أن المدرسة التي كوّنت بن دياب والشابي واحدة، رغم كون شخصيّة الطبيبة النفسيّة في "196 متر" أقل تماسكًا وأبعد عن التناسخ والانسجام مع واقع جزائري صرف ما زال لا يجد مكانة مكرّسة للطب النفسي في أجهزته النظاميّة.
يضعنا العملان في مواجهة سؤال التناقض المربك بين أغوار المدينة - التي تحرق أبناءها في حدائق قرطاج؛ المكان الذي أراده الشابي رمزًا مفارقًا لأطلال نظام بن علي، وتغتصب بناتها في متاهات العاصمة في "196 متر"- وأسطحتها الفائرة الثائرة في غفلة عن تعقّد هذه الأغوار العصيّة عن مطالبات - تبدو ساذجة- شارع متخبّط وغارق في اللصوصيّة والجريمة في "196 متر" وفي غفلة مسار العدالة الانتقالية التي تظهر في خلفيّات ونوافذ هامشيّة لفيلم "أشكال".
لا يبدو على العملين أي تمجيد ولا حتى إعجاب بلحظة الحراكات العربيّة. يضع المخرجان بينها وبين سرديّتهما مسافة؛ تبدو هذه اللحظة الشارعيّة معرقلة ومشوشة لمسار التحرّي عن الحقيقة الذي يلتزم المحقّق سامي في "196 متر" بإدراكها، ليتطهّر من ماضٍ مهني غير مقنع تمامًا، يريد سامي أن يحقّق إنجازًا حقيقيًّا ويغادر بعيدًا. في حين يحاول بطل "أشكال" أن يتدبّر أمر نهاية ما للقضيّة كيفما اتفق، كلاهما مستعجل، كلاهما يريد أن يرسم بنهاية القضيّة قطيعة مع واقع كئيب ومتثائب لا يدعو للزهو أو الفخر.
بعد 2011 انتشرت في أكثر من بلد عربي الدراما البوليسيّة، التي تفضح وتشي رغبة وإصرارًا على التصالح مع أجهزة أمنيّة طاولتها الحراكات في السمعة؛ تمظهر ذلك جليًّا في الدراما التلفزيونية المصريّة مثلًا ما بعد الرئيس محمد مرسي.
ولا يبدو أنّ هذين العملين ينشزان عن هذه المقصديّة غير أنّهما تعاملا معها بنسبة من الكنائيّة ليصدّرا صورة رجل الأمن المتململ من الفساد العام أو لنقل الإحباط الجمعي الذي طاول حتى مؤسّسته، المؤسّسة التي تُصوّر في "196 متر" كجهاز مرهق منتهك ضحيّة هو الآخر لعشريّة موت اصطادت أبناءه ومتورّط في عشريتي فساد دجّنت عناصره وأدخلتهم في حظيرة تلحقهم بمنتسبي الوظيف العمومي؛ في الحرص على الترقية أكثر من الإنجازيّة، على الرغم من انتمائهم لجهاز حسّاس ومفترض القداسة بما أنّ مهامه تطاول السلم الجمعي؛ يطفو هذا الملمح الوصولي المتلاعب على شخصيّة علي الناموس (هشام مصباح) في "196 متر"، ولا يتنزّه منه تمامًا بطل "أشكال" ممّا قد يوحي بتدنّس ما طاول هذه الأجهزة جرّاء تهميش أو "حقرة" مورست عليها هي الأخرى.
هذه الهشاشة التي صوّر بها رجل الأمن قد تفضح مقصديّة أخرى تتقاطع مع مطالب الجماهير العربية التي انتقدت هذه الأجهزة بحدّة، وطالبتها بإلحاح بالالتحاق بالشارع لتجد هذه الأجهزة نفسها في مفكّ صعب، بين مطالبات شارع ملتبس بين تغوّل الفساد وتصاعد الخطاب الثوري وبين سلطة متكلّسة غير عابئة بهذه التحوّلات السريعة التي تقتضي يقظة جديدة، قد يتكفّل بممارستها وعي مغاير وصاعد. وربّما هذا ما يريد الإحالة إليه الحضور الطاغي للمرأة كقيمة مطالبة بالعدالة والإنصاف والحقيقة؛ المرأة التي يوصلها الفيلمان للحظة احتراق وفناء رمزي قد تنجلي وراءها حقيقة/ حياة ما.
يُذكر أنّ فيلم "أشكال" من إنتاج مشترك، تونسي فرنسي قطري، وفيلم "196 متر" من إنتاج جزائري فرنسي تونسي كندي.