}

رودان وبورديل: ثنائي نحتي يجمع المجد من طرفيه

أسعد عرابي 10 فبراير 2025
تشكيل رودان وبورديل: ثنائي نحتي يجمع المجد من طرفيه
رمز المعرض "حوار على صخرة" (نحت مباشر على الكلس)

ورثنا عن العام الماضي أهم معارضه الذي كان يعرض منحوتاته المقارنة "متحف بورديل" في الدائرة الخامسة عشرة من باريس، مستمرًا لحسن الحظ حتى الشهر الثاني من العام الحالي 2025 م.
تتكشف أهميته من عنوانه: "الجسد في مقابل الجسد ما بين رودان وبورديل".
يعانق المعرض، إذاً، أهم نحاتيْن بعد ميكيل أنجلو في عصر النهضة الإيطالية في القرن السادس عشر ميلادي. يكتب جورجو ڤازاري، وهو أول ناقد في زمانه، بأن أهم أعماله هي التي تستشرف الحداثة هي أعمال النحت المباشر على الحجر من دون تهيئته بالرسم، أو ماكيت الطين، ما بعد فريسك كنيسة السكستين في روما من عام 1508 وحتى 1515 م. ويؤكد لنا النحات سيزار صحة هذه النظرة المستقبلية. كان صاحبها ميكيل أنجلو يدعي في حينها: "أعطوني جبلًا أعطيكم مدينة من البشر". كان أوغست رودان يراه خارقًا، وأنطوان بورديل كان يرى أن رودان خارق، لذا قبِل عن رضى أن يكون منفذًا ومصممًا في محترف رودان على رأس ما يقرب من عشرة نحاتين شباب.

استقلال اليد... التشظي لأول مرة 


يحلل المعرض التقاطع في سيرتهما الذاتية كما يلي: أوغست رودان (1840 ــ 1917م) وأنطوان بورديل (1861 ــ 1929م) تقاطع ليس متزامنًا، لأن الفرق بينهما يبلغ عشرين عامًا، مما سمح لبورديل بأن يستقل عن رودان قبل سنوات عدة من وفاته، ولعشرين عامًا بعده.




يشتمل المعرض الاستثنائي على تبادلات الاثنين للأعمال الفنية، سواءً من النحت، أم التصوير، وكذلك يضم المعرض أكثر من مئة وخمسين عملًا فنيًا، مئة منها أعمال نحتية، سواءً متراكبةً من إنجاز الاثنين، أو مستقلةً.

تأثيرات ميكيل أنجلو على الاثنين


شاع اسم المعلم الكلاسيكي بورديل بشدة بمناسبة مشاركته في عروض الصالون الرسمي بتمثاله العملاق "رامي السهم" في أواخر القرن التاسع عشر، وعرض بجانبه كل من هنري ماتيس، وأندريه ديران، وجاك فيللون، وجورج براك، فكتب أحد نقاد الصحافة ساخرًا من أرهف ملوني تلك الفترة: "بورديل في قفص الوحوش". تعامل هنري ماتيس مع هذه السخرية بذكاء، وقبل بها عن طيب خاطر، ليسمي جماعته التي اسسها عام 1905 "الوحشيين". وكان نابليون الثالث قد أسس قبلها صالونًا خاصًا للمرفوضين، وكان اختيار الاسم بناءً على إلحاح جماعة المتنورين، والذين خارج سلطة الأكاديميين والمستشرقين الذي كان يمثلهم كل من جان أوغست دومينيك آنغر، وجاك لوي دافيد، رسام الامبراطور نابليون الأول. أما بورديل فكان مستقلًا ومعجبًا إلى حد كبير برودان، كونه استمرارًا لعبقرية النحت المباشر لميكيل أنجلو، حقق هيكلة عشرة من التماثيل الرخامية الجاهزة لجنون رودان ما بين 1893 و1907 م، ولكن من أين حضرت هذه الكمية الفنية الاستثنائية؟ تم استعارتها من أغلب متاحف العاصمة، واستكملت من الخارج كما يلي: متحف رودان (ستون عملًا فنيًا)، ثم مركز الإبداع الصناعي، ومتحف مركز بومبيدو، ومتحف أورسي، وبيت بلزاك، والقصر الصغير، والمتحف الوطني للفن المعاصر في باريس، ونظيره في ليون، وروان، ونيس، وكذلك متحف ماتيس، ومؤسسة جياكوميتي، ثم من متاحف زيوريخ، وكوبنهاغن.

اللغز الأساسي في هذا اللقاء الاستثنائي

جسد عارِ... بورديل ورودان 


يتساءل عدد من النقاد اليوم كيف يرضى عبقري النحت والمعلم الكبير أنطوان بورديل، الذي لا يقل شهرة عن آنغر، ودافيد، أن يعمل تحت إشراف رودان! كان يطمح مثله مثل رودان إلى تدمير كل ما له علاقة بالكلاسيكية، أو الباروك، والاستشراق، ومحاولته استشراف الحداثة وقيمها التي ستتنبأ ليس بحدود أريستيد مايول، وإنما تصل إلى ملصقات وتلسينات سيزار في القرن العشرين، ومستقبليته المعلوماتية، ثم إنه كان يرى في عظمة رودان هذا الجنون العبقري الطموح والمعاصر، خاصة أن النقاد كانوا يجدونه مثل كلود ديبوسي في الموسيقى، أي نحتًا انطباعيًا، ومثل بروست في رواية الزمن الضائع. لعل رودان أول من نحت في التاريخ تضاريس الضوء رغم أنه ــ كما يراه بورديل ــ الخليفة الوحيد لتشنجات وعبقرية ميكيل أنجلو.
الواقع أن لهذا الموضوع تفاصيل تبرر ذلك خلال لقائه معه والتزامه ببناء عدد من أعماله الشهيرة خلال خمسة عشر عامًا قبل استقالته واستقلاله التدريجي. إن العين الخبيرة تميز التوليف بين الحساسيتين النحتيتين من خلال نحت "اليد" المستقلة مثلًا لدى الاثنين.
فإذا كان هنالك استقلال أسلوبي تحولي لا يخفى، فعلينا أن نبحث عمَّا جمع الاثنين في صبوة الحداثة النحتية في ذلك التاريخ ما بعد الرومانسي، أي مابعد دولاكروا.

بورديل ينحت رودان 


نستطيع أن نعثر على توأمية ضامرة حول هاجس الجموح التعبيري، أو التراجيدي المتشنج من بقايا الرومانسية، ناهيك عن التمسك بجمالية "النصبية"، وهي الجانب الروحاني الذي يحرف الأشكال في اتجاه منظور فضائي قريب من محاولات الفنان اليوناني ــ الإسباني ألغريكو. أما الجانب الأبرز حداثةً لديهما فهو شجاعة "التشظي" في الأشكال التي كانت مقدمة لمستقبل الملصقات، والتعشيق، وهاجس نحت المادة مباشرة، والتوقف عند محطة عدم الانتهاء. لذلك كان كل منهما يجمع منحوتات الحضارات المعروفة، من رافدينية، إلى صينية ويابانية، وغيرها، حتى وصل عدد الأقنعة المتعددة في محترف رودان إلى ثلاثة آلاف قطعة، ومثلها لدى بورديل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.