يُعد مهرجان الإسماعيلية التسجيلي واحدًا من أقدم وأهم المهرجانات النوعية السينمائية في المنطقة العربية، منذ انطلاقه بمطلع تسعينيات القرن الماضي. ورغم أنه تعرض إلى التوقف أكثر من مرة وتنقلت مسؤولية تنظيمه من جهة إلى أخرى، استقر في النهاية تحت مظلة "المركز القومي للسينما" الذي لا يزال منصب رئاسته شاغرًا حتى الآن. هذا الفراغ الإداري ربما ألقى بظلاله على بعض جوانب الدورة 26 وخاصة فيما يتعلق بالمسائل التنظيمية والإدارية، ما شكّل تحديًا إضافيًا أمام المخرجة هالة جلال، التي تولت رئاسة دورة هذا العام، لتصبح بذلك أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ المهرجان.
وانعكس ذلك على برنامج الدورة على مستويات متعددة، من أبرزها اختيار فيلم الافتتاح "ثريا"، روائي قصير، للمخرج الشاب أحمد بدر كرم، الذي يخوض أولى تجاربه السينمائية تمامًا، كما تخوض بطلة الفيلم خطواتها الأولى في التمثيل بعد رحلتها مع الفوتوغرافيا. يحمل الفيلم عنوانًا جانبيًا "الفتاة التي أحبت الأبدية" وتدور أحداثه في إطار من الواقعية السحرية في إحدى قرى صعيد مصر، حيث تمتزج الخرافة والخوف ليشكلا مصير الإنسان، فتجد "ثريا" نفسها مضطرة لأن تصبح أضحية لفتح أحد التوابيت الفرعونية والاستحواذ على آثاره، في استدعاء واضح للموروث المصري القديم وعاداته في تقديم القرابين الحيّة للنيل.
نجح المخرج في توظيف الكثير من اللقطات بما يتناسب مع بيئة الحدث، حيث شكلت الصورة جزءًا أساسيًا من بناء الدراما، كما لعبت الموسيقى التصويرية دورًا لافتًا باستنادها إلى الموروث الصعيدي لتعزيز الطابع الأسطوري للفيلم. ولم يكن مستغربًا أن ينهي المخرج فيلمه بتحية خاصة إلى شادي عبد السلام وعطيات الأبنودي؛ باعتبارهما من أبرز الأسماء التي وثقت عوالم الجنوب فيما تأتي الأبنودي ضمن مكرمي الدورة.
مدارس تسجيلية
حملت دورة هذا العام اسم المخرج المصري علي الغزولي، لما له من تاريخ حافل وإسهام بارز في مجال السينما التسجيلية والوثائقية. ولد الغزولي سنة (1933) وبدأ رحلته السينمائية بعد دراسته للإخراج والتصوير السينمائي في إيطاليا، ليعود إلى مصر مطلع الستينيات متنقلًا بين مجالي التصوير والإخراج، حتى تولى إدارة الأفلام التسجيلية في التلفزيون المصري. بجانب الغزولي، ضم برنامج المكرمين عددًا كبيرًا من الأسماء سواء من الراحلين أو ممن ما زالوا على قيد الحياة، ودفع هذا التوجه البعض إلى وصف نهج رئيسة المهرجان بأنه يعكس رؤيتها لهذه الدورة على أنها قد تكون، "الأولى والأخيرة، وعليها تكريم كل من ترى أنه يستحق"!
كان من اللافت في قائمة التكريم لهذا العام، الاحتفاء بصانعات الأفلام من النساء، كذلك بالسينمائيين المصريين، حيث اقتصرت معظم الأسماء المكرمة على شخصيات مصرية، باستثناء ثلاثة أسماء: المخرج والمنتج الكاميروني جان ماري تينو، المخرجة اللبنانية نبيهة لطفي، والأميركي روس كفمان. من بين الأسماء المكرمة أيضًا: المخرجة تهاني راشد وسفيرة السينما التسجيلية - كما أطلقوا عليها- عطيات الأبنودي؛ التي تُعد إحدى أبرز الرائدات المصريات في تاريخ الفيلم التسجيلي والوثائقي، وخاصة فيما يُعرف بـ "سينما الحقيقة".
لم يكن مستغربًا أن تنطلق المخرجة القديرة عطيات الأبنودي من بيئة ريفية، حيث شكلت تلك الجذور مصدرًا هامًا لسينماها التسجيلية التي اكتملت بانتقالها إلى القاهرة. برعت الأبنودي في التقاط نبض البسطاء من الطبقات الكادحة مجسدة تفاصيل حياتهم اليومية بصدق وعفوية، من خلال عدسة رهيفة تبتعد عن التجميل أو التزييف، مما جعلها تختار مواقع تصوير تعكس واقعهم. ورغم إخلاصها لسينما الإنسان، ظلت قضايا المرأة في مقدمة اهتماماتها منذ فيلمها الأول "حصان الطين" (1970)، وهو فيلم قصير من إنتاج جمعية الفيلم – وقت أن كانت الجمعيات تساهم في الإنتاج السينمائي– يتناول أزمة العاملات من النساء، حيث صُوّر داخل أحد مصانع الطوب بقرية محلة أبو علي، مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ.
برنامج طموح
لا شك في أن الدورة الجديدة سعت إلى تقديم برنامج يُجسد طموحًا نحو تفعيل التغيير، إلا أن الأمر لم يتعد التغيير الشكلي في بعض الأحيان، كما هي الحال مع مسابقة أفلام الطلبة على سبيل المثال، والتي تم تغيير اسمها لتصبح "النجوم الجديدة" وضمت 17 فيلمًا تنافسوا على جوائز المسابقة، حيث حصد المخرج إسماعيل جميعي جائزة أفضل فيلم عن فيلمه "أربعة أيام"، بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم إلى فيلم "ماما" للمخرجة سمر الفقي، أما فيلم "داجن" لمخرجه يوسف إمام، فحاز على تنويه خاص. وربما كان من الغريب أن تميل الأفلام الفائزة وغالبية أفلام البرنامج إلى النظرة السوداوية، رغم أن صناع هذه الأعمال كلهم من الشباب يخطون خطواتهم الأولى.
ربما لسد الفجوة في عدد أفلام البرنامج؛ أطلقت إدارة المهرجان عددًا من الفعاليات الموازية لعروض الأفلام خارج أقسام التنافس الرسمية من بينها: "نظرة على الماضي" وهو برنامج عن تاريخ السينما التسجيلية، "يسعى إلى إتاحة عروض سينمائية قديمة ونادرة لرواد هذا الفن"، كما يقدم برنامج "أفلام العالم" مجموعة فيلمية متنوعة تحتفي بـ "السينما وبأصوات وقصص الإنسان من كل مكان"، من بين هذه الأفلام: "صمت أشجار الموز"- ألبانيا، "الرياح تعصف بشارعي"- إيران، "ذعر في حفل الزفاف"- تونس، وجدة من السعودية.
توسع المهرجان أيضًا هذا العام بعروض خاصة في مدينة "فايد"، ضمن إطار سعي رئيسة المهرجان إلى "توسيع دائرة العروض لتصل إلى أماكن جديدة، بهدف تعزيز ثقافة السينما الوثائقية والتسجيلية"، الأمر الذي لم يقف عند حد العروض فحسب بل شمل أيضًا الورش الفنية، وفي المقدمة تأتي ورشة "ذاكرة المكان" والتي دارت فعالياتها بين القاهرة والإسماعيلية قبل بدء انطلاق الدورة بأسبوع تقريبًا. يُذكر أن موضوعات الأفلام تنوعت بين القضايا العامة والخاصة، وكانت ظاهرة قضايا الهوية والذاكرة والاغتراب على قائمة العوالم المطروحة، كما لم تختفِ ظاهرة أخرى ما تزال تفاجئنا بين الحين والآخر ويطلق عليها البعض لعبة القط والفأر، بين صناع الأفلام وجهاز الرقابة.
الجوائز تنتصر على الرقيب
اشترك في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة عشرة أفلام تمثل مختلف الدول، من بينها فلسطين وفيلم من إخراج كمال الجعفري بعنوان "فدائي"، الذي يُعد بمثابة وثيقة بصرية للذاكرة الفلسطينية المنهوبة، سبق أن حصل الفيلم على جائزة التانيت الذهبي من مهرجان قرطاج في دورته الـ (35).
أما جائزة أفضل فيلم فذهبت إلى لبنان وفيلم "خط التماس" إخراج سيلفي باليو، فيما حصل فيلم "بروناوبارك" من سويسرا، إخراج مشترك لـ فيليكس هيرجيرت ودومينيك تيستلوف على جائزة لجنة التحكيم الخاصة. وفي مسابقة التسجيلي القصير ذهبت جائزة أفضل فيلم إلى "منثور بيروت" إخراج فرح نابلسي، فيما حاز فيلم "روز" إخراج أنيكا ماير على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، كذلك حصل فيلم "الخروج من خلال عش الوقواق" إخراج نيكولا إيليك على شهادة تقدير.
بينما حصل الفيلم المصري "وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا" للمخرج يوحنا ناجي على جائزة لجنة الاتحاد الدولي للنقاد "فيبرسي". أما مسابقة الفيلم الروائي القصير فحصل "عيد استقلالي" إخراج كوستانزا ماجلوف على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، فيما حاز فيلم "الطفل الثاني" إخراج لوو رنشيواو على إشادة خاصة، وتُعتبر نتائج مسابقة جوائز الفيلم الروائي القصير من أكثر النتائج غير المتوقعة، وهو ما يحيلنا إلى أزمة الرقيب من جديد.
قبل أن ينتهي العام الماضي بأيام قليلة، أصبح مقعد رئيس جهاز الرقابة على المصنفات شاغرًا، بعد أن بلغ الرئيس السابق سن التقاعد، وعلى الرغم من أن المنصب ما يزال شاغرًا، لم تقف عمليات المنع أو إيقاف تراخيص العرض؛ بمختلف الطرق وعلى كلا المستويين "الكتابي أو الشفاهي" ويُعتبر الأخير أكثرهم استخدامًا ورواجًا، لعل من أبرز هذه الحالات ما تم مؤخرًا مع فيلم "الملحد" تأليف إبراهيم عيسى وإخراج محمد جمال العدل، الأمر الذي امتد أيضًا ليطاول بعض المهرجانات ومن بينها الإسماعيلية في دورته الأخيرة، حيث تم تداول حالات مشابهة من المنع لفيلمين من الأفلام المشاركة، في سابقة لا تتكرر كثيرًا. المفاجأة كانت من قبل إدارة المهرجان التي أتاحت عروضًا خاصة مغلقة لهذه الأفلام اقتصرت على أعضاء لجان التحكيم فحسب، ولم تكن قراراتهم تقل إبهارًا عن الحالة؛ حيث فاز اثنان من هذه الأفلام بجوائز المهرجان؛ برغم أنف الرقيب.
بدأت أزمة المنع الرقابي مع الفيلم الروائي القصير "أحلى من الأرض" للمخرج شريف البنداري، الذي تعرض للرفض للمرة الثالثة على التوالي بعد أن مُنع سابقًا من العرض في مهرجاني الجونة والقاهرة، بحسب ما صرح به في حوار سابق بـ "روز اليوسف"، في المقابل حظي الفيلم بعدد من التقديرات مثل الجائزة الفضية بمهرجان قرطاج بتونس، وذلك منذ عرضه الأول بفرنسا، حيث شارك في قسم "نظرة أفريقية" ضمن الدورة 46. ويتناول علاقة صداقة تنشأ بين فتاتين من الطالبات المغتربات، إلا أن الصورة التي يرسمها العمل لهذه العلاقة تشوبها بعض الإشارات غير المباشرة إلى المثلية، وهو ما يبدو أنه كان كافيًا لتحفيز مقص الرقيب، حتى ولو في صورة "شفاهية".
أما الفيلم الثاني فهو، روائي قصير أيضًا بعنوان "إخراج مشترك مع شبح" للمخرج محمد صلاح الذي حصل عنه على جائزة أفضل فيلم، متحديًا بذلك التحذيرات.
اللافت في كلتا الحالتين هو الموقف الغامض للرقابة التي لم يصدر عنها - حتى الآن- بيان رسمي لنفي أو تأكيد ما يتم تداوله، ربما لأن مقعد الرقيب ما يزال شاغرًا، وربما يرجع ذلك لأسباب أخرى غير معلومة، قد تتضح لاحقًا – أو لا- مع تعيين الرقيب المرتقب السيناريست عبد الرحيم كمال،؛ الذي يُعد أحد أكثر الأسماء - تداولًا- في الأوساط الفنية مؤخرًا، لذلك المنصب.