ولعلّ تغريد أبو الحسن، مؤلفة ومُخرجة "سنووايت" موضوع هذه المقالة، تنتمي إلى النوع الأخير. فيلمها الذي طُرح مؤخرا في دور العرض المصرية، بعد عرضه في مهرجانات سينمائية، وخروجه بجوائز، كمهرجان القاهرة ومهرجان البحر الأحمر؛ يشي بعين حساسة إلى الأشياء الصغيرة، وعقل يطرح أسئلة مسكوت عنها ولا يتعجل الإجابات، عن حال أشخاص يعيشون عيشتنا، يمرون بما نمر به، لكنهم لا يرونه كما نرى، أو بالأحرى، لا نراهم نحن، كما يروننا.
يتميز "سنووايت" بأنه فيلم يعرض الحياة من وجهة نظر شابة من قصار القامة هي إيمان متولي (تلعب دورها مريم شريف)، تعيش في شبرا، وتعمل كموظفة حكومية في مُجمَّع التحرير. تهرول يوميا للحاق بالحياة الصاخبة في محيط وسط البلد. وهي إن كانت قصيرة القامة، لا يراها أحيانا موظفو الشبابيك الحكومية، أو قائدو الدراجات النارية، فإنها ترى نفسها مع ذلك امرأة مُكتملة، وتعي حضورها. أولا كشابة لها من الأحلام والرغبات ما لغيرها من الشابات. وثانيا كمواطنة، تُطالب بحقوقها التي يكفلها الدستور، وقد تكون مجرد سُلفة يوافق عليها مُديرها في العمل من أجل أن تتمكن من تزويج شقيقتها الوحيدة صفية (نهال كمال).
فصام مجتمعي
على الرغم من هذه النظرة المُشرقة إلى الذات، وحتى الروح خفيفة الظل التي تتمتع بها إيمان وتُجسدها بأجمل طريقة ممكنة الممثلة مريم شريف، إذ ترقص وتُغني وتذهب لمحل التصوير، فتتموضع أمام الكاميرا على طريقة نجمة حقيقية؛ وعلى الرغم من الوظيفة الحكومية التي تُعيل بها نفسها وشقيقتها في غياب لدور بقية رجال العائلة، أو بالأحرى في حضورهم الصوري؛ لا يبدو أن كل ذلك كافيا لحسم الصراع غير المُعلن في نفس إيمان. صراع يُغذيه تناقض عالمين مُتخاصمين تتنقل بينهما إيمان: عالم الخيال، خيالها هي، وفيه هي أميرة متوجة مثل "سنووايت" في القصة الشهيرة، تُحبّ النجم السينمائي كريم فهمي، وتعيش معه نوعا من أحلام اليقظة. وعالم الواقع وفيه يُنظر إليها كقزمة، أي تنتمي إلى الأقزام السبعة الذين رافقوا الأميرة "بياض الثلج"، في رحلتها الأسطورية، لا بطلة للحكاية.
أولا يُخبرنا الفيلم في غير مشهد أن التسمية الصحيحة هي قصار القامة، لا أقزام، وكذلك أن ثُلث قصار القامة من العالم يوجدون في مصر. مما يجعل من الغريب أن عملا فنيا ولا أدبيا، قد عبّر من قبل عن قصار القامة المصريين، أو أقلهم أظهرهم بصفتهم أشخاصا عاديين وحقيقيين نعرفهم في الحياة اليومية.
هذا التغريب أو الاستبعاد يتجسد في الفيلم عبر أكثر من طريق، أولا علاقة صفية شقيقتها بالشاب الذي يريد أن يتزوجها خالد (يلعبه محمد جمعة)، وتُصدم والدته (تؤديها صفوة) من اللقاء الأول بطبيعة إيمان كقصيرة قامة. ومع أنها ليست عروس ابنها، إلا أن هذا لا يمنعها من إبداء امتعاضها، بل والتمادي حتى بتوقيع ما يُشبه العقاب على الأسرة، بوضع شرط شراء ثلاجة بمواصفات مُعينة، لتعقيد الزيجة. من اللافت للانتباه أن السيدة أم خالد، تقدم نفسها في دور السيدة المُتدينة المُحتشمة، لكنها لا تجد غضاضة هكذا في الازدراء العلني لشخص إيمان، مع أنه يُفترض بالدين أن يحض على الإيمان بالمساواة بين البشر.
هذا التناقض المُجتمعي بين ما يتصوره الأفراد عن أنفسهم، وما يجترحونه حقا، يظهر مرة ثانية في علاقة إيمان العاطفية الافتراضية بشاب على الإنترنت هو عماد (يلعبه محمد ممدوح)، الذي لا يتوقف عن صب كلام الغزل على إيمان صبا، ويعدها بجنة وراء جنة. غير أن هذه الرومانسية، التي تبدو كفعل استمناء نفسي في سياق اجتماعي خانق، أكثر منها تعبير حقيقي عن الحُب، أو حتى عن الاستطاعة إليه؛ قد لا تصمد أمام اختبار الحقيقة الأول.
إلى هذا، يُمكننا أن نفهم مصدر هذا الفصام، أو التشظي في عقل إيمان، الذي قطع أشواطا في إدراك الذات والتعبير عنها، لكنه ما يزال غير واعٍ بالكامل بحيله لتجميل الفصام الخارجي، أو باختصار، غير واعٍ بقوة صوته لشرخ الواقع الهزيل الذي يحيا فيه.
بين الخيال الحلو والحقيقة المُرة
في رحلة إيمان كبطلة، تظهر معونات من العالم الخارجي، أمام الضغوط العديدة التي تخضع لها وأبرزها حاجة شقيقتها صفية إلى الزواج، ورؤيتها في إيمان العائق الوحيد وكذلك العائل الوحيد لتحقيق قرانها بالشاب المُتردد خالد. صحيح أن المعونات التي تتقدم لإيمان ليست من قبيل السحر، إلا أنها تستهدف أساسا تنوير إيمان، ومساعدتها على رأب الصدع العنيف بين الواقع غير الرحيم، وبين الخيال المُخدِّر.
يقول العلماء إن ما يميز الإنسان الحديث عن سائر الكائنات الأخرى، هو الخيال وليس الذكاء، إذ تملك الحيوانات أنواعا مغايرة من الذكاء البشري، أما الإنسان فهو الكائن الوحيد القادر على الانسحاب من العالم الذي يحياه، ليتخيله بصورة أخرى. وبفضل هذا الخيال، يمكن للإنسان أن يبتكر، ويطوّر حياته، كما يُمكن أن يسجن نفسه بين جدران وهمية من دون أن يتحرك خطوة واحدة.
منذ اللحظة الأولى، ينبهنا السرد البصري إلى حقيقة ضآلة حجم إيمان أمام العالم من حولها. وفي مشهد زيارتها لمحل بيع الأجهزة الكهربائية، كي تأخذ فكرة عن ثمن الثلاجة التي اشترطتها عائلة عريس شقيقتها، تبدو ضخامة حجم الثلاجة مقارنة بقامتها تعبيرا بصريا عن عجزها عن بلوغ أهداف عديدة في الحياة، وهو ما يبرر مجددا الحاجة إلى الخيال. غير أننا لا نستطيع أن نحصر هذا العجز في طبيعة قصر القامة لدى إيمان فحسب. وإلا كيف نبرر مثلا عجز عماد، الشاب من الإنترنت، على عيش حياة حقيقية غير افتراضية؟ وكيف نبرر عجز صفية مثلا وانتظارها لشقيقتها أن تلعب دور المُخلص؟
هناك أولا عجز يرتبط بطبيعة أن إيمان امرأة، في عالم يمتلئ بالرجال. مبكرا في الفيلم نراها واقفة في طابور لموظفين رجال بسترات سوداء، ولا يتمكن الموظف المعني من رؤيتها. وحتى حين تذهب لطلب سُلفة، تقابَل بالاستهانة من سكرتير المدير، وكلاهما يستخفان بها ولا يريناها. ثم هناك بالطبع مشهد المصعد، إذ يلتزم الرجال الضخام بأماكنهم فيه، ويتركونها هي تطلع الدرج، الذي يبدو لا نهائيا من منظور الكاميرا (من أعلى إلى أسفل).
وحين يظهر طارق (يلعبه عمرو الديزل)، وهو شاب قصير القامة من الإسكندرية، ويحاول التقرب منها، تستخف به إيمان ولا تراه، كما لا ترى نفسها، على عكس المتوقع. بينما يبدو هو كرجل، أكثر تخففا من الأحكام المُجتمعية مقارنة بها، وأشد حضورا وواقعية.
يتصل الشعور بالعجز عند إيمان أيضا بانتمائها إلى الطبقة المتوسطة، في ظل أوضاع اقتصادية ضاغطة بشدة، ويتبين جزء من هذا العجز الاقتصادي حتى في أوضاع أفراد جمعية قصار القامة في الإسكندرية، وإليهم تذهب إيمان في رحلتها للبحث عن حل لأزمة شقيقتها وأزمتها هي النفسية. لا يُقدم أعضاء الجمعية الحلّ المالي لها، لكنهم يُساعدونها على رؤية حياتها بلا خيالات، وعلى رؤية نفسها، والشعور أخيرا بانتماء غير مشروط.
تُعبّر إيمان عن هذا المعنى، حين تُصارح شقيقتها بعلاقتها بعماد فتقول واهمة: "مرة واحدة في حياتي حد بيشوف فيا حاجة غير جسمي!". مع أفراد الجمعية، ومع طارق نفسه، لا يُنظر إلى إيمان بصفتها جسدا قصير القامة، إنما بصفتها إنسانة، تملك فرصة حقيقية للحياة، وصوتا مسموعا ومؤثرا.
التعبير السينمائي
يربأ "سنووايت" بنفسه عن استجداء عواطف المُشاهدين، أو تقديم قصار القامة بصفتهم ضحايا للآخرين. على العكس، تتمسك بطلته بقوتها، إنما يكمن تحديها في حاجتها إلى المزيد من التصالح مع الذات، كي تتمكن من تجاوز ظلام من حولها، والخروج إلى الحياة في النور. وتُعبر مريم شريف كممثلة، بعينيها وملامح وجهها، عن روح إيمان، ربما أفضل من إلقائها الحواري، الذي جاء في بعض الأحيان أقل تلونا من انفعالات وجهها. يُحسب لمريم شريف هذا الأداء القريب من القلب، وهي التي لم تأت من خلفية احترافية في التمثيل، وكان تكريما مُستحقا من مهرجان البحر الأحمر الدولي، منحها جائزة اليسر لأفضل ممثلة عن هذا الدور. علاوة على كل الأداءات الأخرى المميزة في الفيلم.
استطاع "سنووايت" أن يجرّ مُشاهده إلى حكاية مختلفة وأصيلة لا تتعلق فقط بإيمان، إنما بأعضاء جمعية قصار القامة، الذين يختم معهم الفيلم رحلته، كأنما يقول إننا في حاجة إلى تدقيق النظر من حولنا أكثر. ويشيع عموما في الفيلم ذوق إلى الأشياء الصغيرة، من تماثيل مُصغرة، وثياب معروضة على موديلات في فترينات محال الأطفال، وحتى الأراجوز. تُلفت هذه الحساسية البصرية إلى جمالية مُغايرة في الحياة، عن جمالية الجسد المعهود.
ربما يبدو الفيلم فقط ساكتا أكثر من اللازم في بعض مشاهده، على الرغم من تنوع الثيمات الموسيقية المُوزعة على شريط الفيلم من تأليف مصطفى الحلواني، وتعتمد في الأساس على آلة الأكورديون المناسبة تماما للحالة. هناك أيضا أغنيات جميلة موظفة في مكانها، ومع ذلك ربما كان يحتاج الفيلم إلى المزيد من اللمسات الصوتية.
على أي حال، "سنووايت" هو رحلة سينمائية مُلهمة في البحث عن الوعي الذاتي، ومحاولة للتقريب بين الخيال والواقع، ليس لقصار القامة فقط، فلكل منّا قِصر قامته بمعنى ما، ولا ينبغي لذلك أن يمنعنا عن الحياة، بل على العكس ربما ينبغي أن يُشجعنا عليها، كما يُغششنا هذا الفيلم الجميل.