ولد لطوف في البرازيل عام 1968، ومنذ بداياته، اختار أن لا يكون رسامًا محايدًا، أو أن يرسم لمجرد التهكّم أو الإبهار البصري، بل كان الكاريكاتير بالنسبة إليه ساحةَ اشتباكٍ دائمة، يتجاوز عبرها القيود والخطوط الحمراء التي تفرضها السلطات، والمؤسسات الإعلامية، المنحازة للرواية الرسمية لأنظمة الهيمنة والاستبداد. وبسبب مناهضته للصهيونية، شُنّت ضده حملات شرسة تتهمه بمعاداة السامية، كما تعرّض لحملات تشويه وتهديد، بسبب مواقفه من الأنظمة والسلطات.
الرمزية القوية
يتميّز لطوف بأسلوبه الصريح والمباشر في طرحه للقضايا السياسية والاجتماعية؛ فهو لا يعتمد على التعقيد البصري، بل يتقن فن التبسيط، الذي يختزل قوة جمالية في ذات الوقت، لذا، تترسّخ رسوماته في الذاكرة بمجرد النظر إليها، كما أنها قادرة على الوصول إلى وعي الجماهير على اختلاف ثقافاتهم. وهو لا يرسم كناقل للحدث، أو كساخر منه، أو لمجرد التعليق النقدي عليه، بل يمتلك قدرة فريدة على توظيف الألوان والخطوط والعناصر البصرية، لكشف جذور المأساة أو القضية التي يتناولها، مقدّمًا موقفًا واضحًا منها، ومحرّضًا على المقاومة من أجلها.
ومن أهم مصادر قوة رسومه: الرمزية المؤثّرة؛ حيث يستخدم لطوف في أعماله رموزًا بصرية دلاليّة يبّسط عبرها قضايا سياسية واجتماعية معقدة، فتُحدِث هذه الرموز تأثيرًا كبيرًا على المتلقّي، إذ يتمكّن عبرها من طرح رسائله ومواقفه، بلغة بصرية يفهمها الجميع. وهو يستلهم رموزه من مصادر متنوعة من الثقافة الشعبية والوطنية؛ ففي أعماله التي تتناول القضية الفلسطينية، يكرّر لطوف توظيف رموز بصرية ذات دلالات واضحة تشير إليها، مثل: علامة النصر، والعلم الفلسطيني، وخارطة فلسطين، والمرأة كرمز يختزل فلسطين والقضية، والكوفيّة الفلسطينية، وغيرها من الرموز.
تمتاز رسوم لطوف بخطوطها الحادة والقوية؛ فالخط في أعماله لا يلعب دورًا وظيفيًا فحسب، بل يحضر وكأنه نبض ثورة تتجسّد على سطح العمل، فهو يرسم شخصياته بخطوط حادة وزوايا بارزة، ما يضفي عليها طابعًا دراميًا يعزز من شحنة العمل العاطفية. وفي كثير من الأحيان، تكون الخطوط الخارجية للشخصيات أكثر سماكة، وكأنه يميز بين الهويات المختلفة لشخوصه وبين الأدوار التي تلعبها. تمنح هذه التقنية أعماله وضوحًا بصريًا قويًا، وتجعلها قادرة على جذب الانتباه حتى في أكثر المساحات اكتظاظًا بالعناصر البصرية.
الألوان: شيفرة بصرية للمقاومة
يعتمد لطوف على التباين الشديد بين الأسود والأبيض، ليجسّد عبره التناقضات والصراعات الحادة بين السلطة والمقهورين، وبين المعتدين والثائرين. كما ينطوي استخدامه للألوان على بُعد درامي مؤثر وعميق، إذ يقوم بتوظيفها بما يخدم رسائل العمل الفني، فيشير باللون الأحمر، في العديد من الرسوم، إلى الدماء والعدوان، وباللون الأصفر إلى السلطة والنفاق الانتهازية. وكأنها، أي الألوان، شيفرة بصرية تفكّك مفاهيم السلطة والقمع، إذ تشكل في أعماله جزءًا من السرد البصري.
تلعب الظلال في أعمال لطوف دورًا يضفي بُعدًا دراميًا يوحي بالخوف أو التهديد، وأحيانًا تبدو الخلفيات قاتمة، فتبرز شخصياته وكأنها تقف في مواجهة قوى الظلام. يجذب هذا التلاعب اللوني المشاهدَ ويضعه في قلب المعركة البصرية. يرسم شخوصه من الشعوب والمقاومين كأيقونات نضالية، ويصوّر المقهورين، في بعض الأعمال، بوجوه متعبة وعيون خائفة، وفي أعمال أخرى، تشعّ أعينهم بالأمل والتحدي، وذلك حسب السياق العام للرسم. بينما يظهر المستبدّون وشخوص السلطة بملامح مشوهة، ووجوه متجهّمة، وبعيون تحمل نظرات الخداع والشر والجنون.
يبدو التكوين البصري في رسومات لطوف ديناميكيًا، ليعكس من خلاله إيقاع التوتر والصراع، فهو يؤطّر شخصياته في أوضاع درامية، وكأن المشهد مجمّد في لحظة انفجار ثورية. غالبًا ما تكون عناصر التكوين مائلة أو متشابكة، ما يضفي على العمل طابعًا حركيًا يوحي بعدم الاستقرار أو بالاتجاه نحو التصعيد. كما تخلو معظم رسوماته من النصوص، لأن رسالته البصرية قادرة على الوصول إلى الوعي بدون الحاجة للشرح.
فنان المقهورين والثائرين
إلى جانب القضية الفلسطينية، التي ظلّت الموضوع الأكثر حضورًا في رسوماته، ناهضت أعمال لطوف سياسات الهيمنة الأميركية والغربية على الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، وفضح أشكال الاستغلال والرأسمالية، كما هاجمت رسوماته سياسة القمع التي تمارسها الشرطة الأميركية ضد المواطنين السود.
يصوّر أحد الرسوم أميركيًا من أصل أفريقي يفتح قميصه ليكشف عن شعار Black Lives Matter (حياة السود مهمة). يظهر في مقابله شرطي أميركي رأسه مغطىً بما يشبه زيّ منظمة "كو كلوكس كلان"، وهي جماعة عنصرية متطرفة. يبدو الشرطي وكأنه يتراجع أو يندفع إلى الخلف، تعبيرًا عن هزيمته أو انكشاف عنصريته. يظهر في الأسفل وسمٌ بالإنكليزية يعني (العدالة لجورج فلويد).
يمثل الرجل الأسود رمزًا للعدالة والمقاومة، والقوةَ الكامنة في الحركة الاحتجاجية، والتي أظهرت صمودًا كبيرًا في مواجهة العنصرية الممنهجة. أما تصوير الشرطي بقناع "كو كلوكس كلان"، فيعكس اتهامًا واضحًا بأن بعض عناصر الشرطة الأميركية لا تزال تمارس العنصرية بشكل ممنهج. يعيد هذا الرسم إحياء الجدل حول العلاقة بين الشرطة الأميركية والتاريخ العنصري العنيف في الولايات المتحدة. ويؤكد إدراج وسم "العدالة لجورج فلويد" على أن العمل يستلهم قوته من الحدث المفصلي الذي أشعل الاحتجاجات عام 2020، عندما قُتل فلويد على يد شرطي، ما أثار موجة غضب عالمية آنذاك.
يعبّر هذا الرسم بوضوح عن موقف لطوف الداعم لحركة "حياة السود مهمة"، ويؤكد أن العنصرية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل متجذّرة في مؤسسات الدولة، وفي جهاز الشرطة بخاصة. هذا الرسم ليس مجرد تعليق سياسي، بل هو بيان فني ينطوي على دعوة لمواجهة العنصرية عبر الوعي والمقاومة. ولا تكمن القوة الحقيقية لهذا الرسم في رمزيته البصرية فحسب، بل في قدرته أيضًا على إثارة المشاعر، واستنهاض الضمير الجمعي، ودفع النقاش العام نحو محاسبة الأنظمة التي تحمي العنصرية بدلًا من محاربتها.
الربيع العربي
ساند كارلوس لطوف ثورات الربيع العربي التي خرجت ضد الأنظمة الاستبدادية، وانتقدت رسومه القمع الدموي للمتظاهرين في مختلف البلدان العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية. يصور أحد أعماله فتاة يرمز بها إلى ثورة 25 كانون الثاني/ يناير والشعب المصري، وخاصة فئة الشباب الذين كانوا المحرّك الأساسي للثورة. يشير مظهر الفتاة البسيط إلى نقاء الثورة وأملها في مستقبل ديمقراطي، بينما يرمز إبريق الماء المكتوب عليه JAN 25 إلى أن الثورة كانت الأمل في تحقيق العدالة والديمقراطية، ولكنها لا تزال في بداياتها وتحتاج إلى الحماية والدعم.
يعكس وجود دبّابة ضخمة تحمل اسم المجلس العسكري حقيقة تولّي الجيش المصري الحكم بعد سقوط مبارك. يعبر الرسم عن المخاوف من تحول المجلس العسكري من حامٍ للثورة إلى معيقٍ لها، وهو ما عكسته الأحداث اللاحقة من قمع للمظاهرات وانتهاكات لحقوق الإنسان. يعكس هذا الكاريكاتير الصراع بين القوى الجماهيرية الساعية للديمقراطية، والسلطة العسكرية التي قد تشكل تهديدًا لهذا الحلم. لا يكتفي الرسم بتسجيل لحظة تاريخية، بل يقدم تعليقًا نقديًا للواقع السياسي، ما يجعله عملًا فنيًا ذا بعد توثيقي ورسالة تحذيرية.
فلسطين: ملحمة لطوف الفنية
إذا كان هناك عنوان رئيسي لمشروع لطوف الفني، فهو القضية الفلسطينية بما تتضمنه من مسائل ذات علاقة: كالمقاومة، والحصار والعدوان المتكرر على غزة، والاستيطان، والانحياز الأميركي والغربي للاحتلال الصهيوني. ومنذ انتفاضة الأقصى عام 2000، وضع لطوف نفسه في مقدمة الفنانين العالميين المدافعين عن فلسطين، مستخدمًا فنه كسلاح في مواجهة الرواية الصهيونية المسيطرة على الإعلام الغربي.
تفضح أعمال لطوف الجرائم الاستعمارية في فلسطين، والتي تشمل سياسات القتل، والقصف، والحصار، والاستيطان؛ فهي تطرح الاحتلال الصهيوني كقوة قمعية عنصرية وغير إنسانية. كما أنه يصور المقاومة، سواء المسلحة أو الشعبية، كحق مشروع في وجه الاستعمار، مجسّدًا الفلسطيني كرمز للصمود والنضال.
تعبّر أعمال لطوف عن معاناة الفلسطينيين، من لاجئين، وأسرى، وشهداء، ونساء وأطفال، متبعًا في ذلك نهجًا بصريًا يقدم سرديةً تجمع بين صورتين في آن واحد، وهما: المأساة والمعاناة من ناحية، والأمل والصمود والتحدي من ناحية ثانية. كما تنتقد أعماله ازدواجية المعايير الدولية، والدعم الغربي لإسرائيل، وتخاذل المجتمع الدولي عن نصرة حقوق الشعب الفلسطيني، وتقوم بإبراز التناقض بين المواقف السياسية الدولية وادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في أحد أعماله المؤثرة حول العدوان الإبادي على غزة، يجسّد لطوف عمق المأساة التي صدمت العالم وأظهرت وحشية الاحتلال، وهي الاستهداف المتعمّد والممنهج للأطفال، بمن فيهم الرضّع وحديثو الولادة. يصور الرسم طفلًا وليدًا يستلقي في حاضنة طبية، تبدو كأنها قارب هش وسط بحر من النيران، كُتب على الحاضنة اسم "AL-SHIFA NICU"، أي وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في مستشفى الشفاء، وهو المكان الذي يفترض أن يكون ملاذًا للحياة وشفاءً من الجراح، لكنه أصبح محاصرًا بالنيران والموت.
أربعة مدافع جاثمة، رُسم على كل منها علَم الاحتلال، فوّهاتها مفتوحة كأفواه وحوش تتربص بفريستها، تطوّق الحاضنة من الجهات الأربع. ليصبح الرضيع، العاجز حتى عن الصراخ، شاهدًا على جريمة تُرتكب من قبل أن يدرك معنى الحياة. يرمز الطفل إلى البراءة المطلقة، وإلى الأرواح النقية التي تدفع ثمن الظلم والقهر.
يعكس الرسم الكيفية التي يتلاشى فيها الفارق بين أماكن الحياة ومواقع الموت تحت وطأة الاستعمار. المدافع الإسرائيلية المحيطة بالحاضنة هي صورة مكثفة للقهر والوحشية، حيث يتحول الاحتلال إلى قوةٍ عمياء تستهدف كل أشكال الحياة. ينجح العمل في خلق حصار بصري يرادف الحصار والعدوان على الحياة في غزة، حيث يُحاصر الرضيع من كل الجهات، تمامًا كما يُحاصر الفلسطيني في أرضه بكل سياسات الاستهداف والاغتيال الوجودي والهوياتي.
الخروج من الركام
بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، أنجز لطوف رسمًا يصوّر صمود المقاومة الفلسطينية بعد العدوان. يستخدم الفنان في هذا العمل الرمزية المكثّفة لإيصال رسائل حول تحدي واستمرار المقاومة رغم الدمار. ترمز اليد الضخمة التي تنبعث من بين الركام، والمشيرة بعلامة النصر، إلى عدم قدرة الاحتلال وحلفائه على هزيمة غزة والمقاومة الفلسطينية، وتؤكد إشارة النصر أن وقف إطلاق النار يُعدّ انتصارًا سياسيًا ومعنويًا للمقاومة.
يمثل رسم المقاوم الفلسطيني فوق أحد الأصابع، والذي يَظهر مسلّحًا وبالزي العسكري، احتفاظَ المقاومة بقوتها العسكرية رغم وحشية العدوان وطول مدته. يشير موقعه على اليد إلى أن المقاومة لا تزال قائمة ومتجذّرة، مثل اليد التي تخرج من تحت الأنقاض. العلم الفلسطيني المرسوم على الإصبع المقابل، هو رمز الصمود الوطني والجماهيري، ليجمع الرسم بذلك بين أشكال الصمود العسكري والشعبي وتضافرهما لإبقاء قضية الشعب الفلسطيني حيّة وحاضرة.
يرمز الدمار في الخلفية إلى حجم المعاناة التي تعرضت لها غزة، لكنه لم ينجح في كسر إرادة الفلسطينيين. ويعكس الرسم موقف لطوف الداعم للقضية الفلسطينية وللمقاومة المسلحة، حيث يصور المقاومة كقوة تتحدى الدمار وتخرج أقوى بعد كل مواجهة. وهو يشير إلى فشل سياسات الإبادة والتطهير العرقي في القضاء على الشعب الفلسطيني ومقاومته.
ترامب: مطيّة الاحتلال
بعد التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي دوانالد ترامب، والتي أثارت رفضًا عربيًا ودوليًا واسعًا، قدّم لطوف رسمًا يعدّ انتقادًا لاذعًا للدور الأميركي في دعم السياسات الاستعمارية في فلسطين، خاصة فيما يتعلق بالعدوان على غزة ومخططات تفريغها من الفلسطينيين. يظهر ترامب في وضعية حيوان يمتطيه بنيامين نتنياهو. ويبدو ترامب وكأنه يزحف نحو غزة، ما يشير إلى مخططاته التي صرّح بها حول الاستيلاء على غزة وتهجير مواطنيها.
يحمل نتنياهو في يده عصا للضرب، وكأنه يوجّه ترامب، ما يرمز- برأيه- إلى هيمنة إسرائيل على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن أميركا ليست مجرد داعم لإسرائيل، بل خاضعة لها وتنفذ خططها في الاستيطان والتوسّع. أما رسم رمز النازية على ربطة العنق لدى ترامب، فيعكس موقف لطوف القوي والمباشر، والذي يرى أن كلًا من أميركا وإسرائيل تمارسان ضد الشعب الفلسطيني سياسات الإبادة والتطهير العرقي كما فعلت النازية.
يشير السهم المكتوب عليه "Gaza" إلى أن الوجهة القادمة لهذه العلاقة بين ترامب ونتنياهو هي العدوان على غزة، عبر السيطرة العسكرية والتهجير. يسخر الرسم من تناقضات السياسة الغربية، التي تدّعي الدفاع عن القيم الديمقراطية والإنسانية لكنها تقدم الدعم الكامل للاحتلال وتشارك في جرائمه ضد الفلسطينيين. هذا الرسم جزء من سلسلة أعمال لطوف التي تفضح النفاق السياسي الغربي. وهو يجمع بين السخرية اللاذعة والغضب، ويستخدم الرمزية القوية لفضح التواطؤ الصهيوني ــ الأميركي ضد غزة، والقضية الفلسطينية بعامة.
كارلوس لطوف فنانٌ لا يقف عند حدود الرسم، بل يحوّل أعماله إلى رسائل نضالية تهاجم الاستعمار وتفضح أشكال السلطة والاستبداد والهيمنة. أعماله عبارة عن نماذج حية من المقاومة التي ترسّخ مواقف الشعوب الثائرة، وتلهم الساعين إلى تحقيق قيم العدالة والتحرر.
لطوف فنان اتخذ من الكاريكاتير ساحة اشتباك فني ومعرفي، ليبقى ثابتًا في موقفه، واضحًا في رسائله، ومدافعًا عن الحق والحرية في مختلف القضايا العادلة.