اختتمت في العاصمة الألمانية فعاليات الدورة الـ75 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" (البرليناله). وشهد مسرح "قصر البرليناله" توزيع جوائز المهرجان على الفائزين ليلة 22 فبراير/ شباط. وفاز بجائزة "الدب الذهبي"، وهي أهم وأرفع جوائز المهرجان، الفيلم الروائي الطويل "أحلام"، للمخرج النرويجي داج يوهان هاوجرود.
لجنة التحكيم
تكونت لجنة التحكيم، التي منحت جوائز البرليناله لهذا العام، من المخرج الأميركي المعروف تود هاينز، كرئيس للجنة، وعضوية المخرج المغربي نبيل عيوش، ومصممة الملابس الألمانية بينا دايجلير، والممثلة والمغنية الصينية فان بينج بينج، والمخرج الأرجنتيني رودريجو مورينو، والناقدة السينمائية والمخرجة والممثلة الأميركية إيمي نيكلسون، والمخرجة والممثلة وكاتبة السيناريو الألمانية ماريا شرادر. إجمالًا، يمكن وصف قرارات لجنة التحكيم بالجيدة في ما يخص بعض الجوائز، وغير الموفقة في ما يخص جوائز أخرى. لكن، على أية حال هذه هي اختيارات لجنة التحكيم، وهذه طبيعة الجوائز بصفة عامة، والتي يستحيل أن ترضي جميع الأذواق، أو توافق جميع الأذواق.
مُحاولات للنهوض
تنافس 19 فيلمًا على جوائز المهرجان الكبرى في "المسابقة الرئيسية". ويمكن القول إن نصف أفلام المسابقة تقريبًا كانت جيدة المستوى إلى حد بعيد جدًا، وذلك مقارنة مثلًا بالأفلام المعروضة في مسابقات الدورات الأربع، أو الخمس، الماضية. من هنا، يمكن القول إن المديرة الفنية الجديدة للمهرجان، الأميركية تريشيا تاتل، كانت موفقة إلى حد كبير في اختياراتها للأفلام هذا العام، وأنها نجحت في جذب أفلام منتظرة، وأخرى لم تكن متوقعة، وقدمت بعض الأسماء الجديدة، وأنجزت إجمالًا برمجة لافتة للانتباه فعلًا. ومن ثم، يمكن التأكيد على أنها استطاعت العبور بدورتها الأولى كمديرة فنية إلى برّ الأمان، ومن دون مشاكل، أو انتقادات كثيرة، وبتوفيق كبير. هل كان الأمر مرده لخبرة تريشيا، أم أنه مجرد توفيق، أو الحظ المصاحب للبدايات؟ على أية حال، علينا الانتظار ثلاث دورات أخرى حتى يمكننا الحكم بعدل وحيادية على تجربتها.
السياسة تطلّ برأسها مجددًا
كعادة البرليناله، لم يُعان المهرجان من مشاكل تنظيمية، باستثناء تأخر بعض العروض في الأيام الأولى على نحو كان مزعجًا بعض الشيء، نظرًا لحدوثه للمرة الأول في المهرجان خلال سنوات طويلة، اتسم خلالها بالانضباط الصارم. بخلاف هذا، يُعد المهرجان من بين الأسهل والأيسر حضورًا ومُتابعة وتغطية وولولجًا إلى الصالات... إلخ. حتى مع استحداث نظام الحجز الإلكتروني لبطاقات العروض، وضخامة إقبال الجمهور، وكثرة الأفلام، وازدياد دور العرض. لكن لا تزال مُشكلة "البرليناله" الأساسية كامنة في مُحاولته التوفيق بين جوانب فنية وصحافية ودعائية مُختلفة مُتباينة من جهة، وإرضاء جهات حكومية وسياسية تُساهم في دعم مادي وسياسي لا يُستهان به، من جهة أخرى. زاد على هذا بعض الرقابة الصارمة المفروضة هذا العام إزاء كل ما يخص فلسطين، وما يحدث في غزة.
هذا العام، كانت الرقابة حاضرة، وترقى إلى حد التهديد، وقمع الأصوات، والحجر على حرية الرأي والتعبير، وإبداء التضامن. ولا يعلم أحد ما جرى في الكواليس من تعليمات بخصوص الكلمات الملقاة في حفل توزيع الجوائز حتى لا تتكرر مشكلة العام الماضي، وذلك بعدما صرح مخرجان، إيراني وصيني، خلال الأيام الماضية، بتضامنهما مع غزة وفلسطين، وذكرا شعار "من النهر إلى البحر"، ما أدى إلى خضوعهما للتحقيق من جانب الشرطة الألمانية. أمور كهذه لا تُؤكد على تسييس "البرليناله" فحسب، بل تدق نواقيس خطر مُنذرة بهاوية ينزلق إليها المهرجان بُسرعة صاروخية، ولن تنقذه منها أية إدارة، مهما بلغت احترافيتها وقدرتها على جلب أروع الأفلام وأعظم السينمائيين.
هذا يستدعي مقارنة سابقة بحضور سياسي لافت لأوكرانيا، وكل ما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية في أروقة المهرجان، بل والسماح بالتضامن والوقفات الاحتجاجية على البساط الأحمر. وكان على رأس المتقدمين في مسيرة التضامن الإدارة الفنية للمهرجان. وذاك في مُقابل انتفاء أي تضامن مع فلسطين والحاصل في غزة، أو أي وقفات احتجاجية لإدانة الحرب والتطهير العرقي والإبادة الحاصلة. والمثير أكثر فوز فيلم بعنوان "عقد ليات" للمخرج براندون كرامر بجائزة أفضل فيلم وثائقي. ويرصد حال عائلة إسرائيلية أميركية انقلبت حياتها عندما احتجزت حركة حماس اثنين من أفراد العائلة كرهائن في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهي جائزة تؤهله للمشاركة في مسابقة "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي في العام المقبل!
جوائز المهرجان
فاز المخرج النرويجي داج يوهان هاوجرود بجائزة "الدب الذهبي" عن فيلمه "أحلام"، وهو قصة حب تكمل ثلاثيته التي دشنها العام الماضي بفيلمي "جنس"، و"حب". تدور أحداث الفيلم الدرامي العادي فنيًا، وإن تضمن معالجة درامية قوية وجديدة، حول غرام المراهقة يوهان (إيلا أوفيربي) البالغة من العمر 17 عامًا بمعلمتها الجديدة يوهانا (سيلومي إمنيتو). تُسرد أحداث العمل عبر استعادة يوهان لذكرياتها من خلال رواية تكتبها عن مراحل تطور العلاقة الغرامية التي مرت بها من طرف واحد. قطعًا، لم يكن الفيلم يستحق هذه الجائزة الكبرى، التي جارت على أفلام أقوى وأهم فنيًا، سواء على مستوى الأداء التمثيلي، أو الاشتغال الجمالي والبصري، أو العمق الفكري والوجودي، أو التماس العميق مع عالمنا ومشاكله الراهنة.
ذهبت جائزة "الدب الفضي"، أو "جائزة لجنة التحكيم الكبرى"، الثانية في الأهمية بعد "الدب الذهبي"، إلى فيلم"الطريق الأزرق" للمخرج البرازيلي غابرييل ماسكارو. والفيلم البالغ الإنسانية والصدق والواقعية من أفلام الطريق، وإن كانت الرحلة هنا نهرية، وليست عبر الطرقات. وفيه تحاول بطلته، عبر رحلتها غير المخططة، الهروب من واقع مرير يفرض عليها تدريجيًا، يدفعها إلى التقاعد، وإلى بيت المسنين والعجزة. تهرب البطلة تيريزا (دينيس فاينبيرغ، 77 عامًا) إلى آفاق أرحب وعوالم أخرى لا تخشاها امرأة في عمرها بغية تحقيق حلم حياتها بركوب طائرة، بصرف النظر عن وجهتها.
فاز بجائزة "الدب الفضي لأفضل إخراج" الصيني هوو مينج، عن فيلمه الدرامي الملحمي، الغني جدًا بالتفاصيل والصدق الواقعي والنفس الوثائقي، "عيش الأرض"، الذي يتناول قصة عائلة من المزارعين الفقراء الذين يعيشون على الكفاف، ويبرع في رصد واقعهم الأليم بمنتهى الصدق، ومن دون أي افتعال.
بينما ذهبت جائزة "الدب الفضي للجنة تحكيم" إلى المخرج الفنزويلي الشاب إيفان فند عن فيلمه "الرسالة". وهو أيضًا من نوعية أفلام الطريق، بالأبيض والأسود، تدور أحداثه حول الصبية مريم (مارا بستيلي)، التي تزعم استطاعتها قراءة عقول الحيوانات، والتكسب من وراء هذه الموهبة، عبر طوافها لمعاينة الحيوانات في أرجاء البلاد. ورغم جودة الفيلم، إلا أن الجائزة غير مفهومة بالمرة، إذ أحاط بها كثير من الغموض حول ما رأته اللجنة من أهمية، أو فنية، أو تميز، يستحق عنه هذا العمل أن يمنح مثل هذه الجائزة.
أما المخرج الروماني المبدع رادو جود، الحاصل على جائزة "الدب الذهبي" في برلين عام 2021، فنال جائزة مستحقة فعلًا، وهي "أفضل سيناريو" عن فيلمه "كونتيننتال 25". وهو قصة أخلاقية مريرة وساخرة تدور أحداثها في رومانيا المعاصرة. يرصد فيها كيف أن سيادة الرأسمالية وتوحشها، من خلال مشاريع البناء الحديثة، تقوم على جثث ضحايا أبرياء لا يلتفت إليهم المجتمع. في كلمته أثناء تسلم الجائزة، قال رادو جود ساخرًا ومشيرًا إلى الانتخابات الألمانية واحتمالية صعود اليمين المتطرف إلى السلطة: "أنا كاتب سيناريو سيء، لذا فإن هذه الجائزة مضحكة للغاية… فقط، أتمنى ألا يفتتح مهرجان العام المقبل بفيلم "انتصار الإرادة" للمخرجة ليني ريفنشتال".
أما فيلم "البرج الجليدي" للفرنسية لوسيلي هادزياليلوفيتش، وهو اقتباس فضفاض لحكاية "ملكة الثلج" للأديب المعروف هانز كريستيان أندرسن، ففاز بجائزة "الدب الفضي للمساهمة الفنية المتميزة"، الممنوحة لفريق الفيلم إجمالًا. وتقوم فيه الفرنسية ماريون كوتيار بدور نجمة سينمائية في السبعينيات. وهي جائزة كان من الممكن منحها لأكثر من فيلم مستحق توفرت فيها مقومات التميز والتجديد في ما يتعلق بالمساهمة الفنية التي تمنح الجائزة على أساسها.
أما جائزة التمثيل، والتي تقرر قبل سنوات، وعلى النقيض من الجوائز في أنحاء العالم ومختلف المهرجانات الدولية الكبرى، أن تمنح مرة واحدة فقط تحت عنوان "أحسن تمثيل"، وليس منح جائزة "أحسن ممثل"، و"أحسن ممثلة"، على النحو المتعارف عليه، فقد ذهبت هذا العام إلى الأسترالية روز بيرن، وذلك عن أدائها الرائع والصادق جدًا لشخصية "ليندا" في فيلم "لو كان لدي ساقان لركلتك" للمخرجة الأميركية ماري برونشتاين. وليندا، طبيبة نفسية على حافة انهيار عصبي، تكابد مشاكل حياتية جمة. وفي خضم كل ما يحيطها، ترعى طفلتها المريضة، وذلك في غياب زوجها الغائب المُتطلب.
وقد حصل الممثل الأيرلندي أندرو سكوت على جائزة أفضل "أداء مساعد" عن دوره كمؤلف غنائي في فيلم "القمر الأزرق" للمخرج الأميركي ريتشارد لينكلاتر. وهي جائزة ربما جاءت كترضية للمخرج صاحب الفيلم الجيد جدًا، وأيضًا للممثل وبطل الفيلم إيثان هوك صاحب الأداء الرفيع لشخصية لورينز هارت كاتب الأغاني الموسيقية الشهير.
جوائز للسينما العربية
حصل فيلم "رؤوس محترقة" للمخرجة التونسية البلجيكية ماية عجمية زلامة على "تنويه خاص" من لجنة التحكيم قسم "جيل 14 بلس". وهو عن صبية تونسية بلجيكية تفقد شقيقها فجأة في حادث غير متوقع، وتحاول التغلب على معاناتها من الصدمة والتعايش مع الأمر. كذلك حصل الفيلم الروائي القصير "تحتها تجري الأنهار" للعراقي علي يحيى، المعروض في القسم نفسه، على "تنويه خاص" أيضًا من لجنة التحكيم. يأخذنا الفيلم إلى عالم بائس، حيث يلوح فقدان المنزل في الأفق مثل ظل مؤلم على بطل القصة. واتسم الفيلمان بمستواهما الفني الجيد والصادق، وبموضوعين متميزين، وبمعالجة لافتة للانتباه بين أفلام القسم.
في قسم "البانوراما"، الأقدم بعد "المسابقة الرئيسية"، إذ ينعقد للعام الـ55، وهو الأكبر أيضًا من حيث عدد الأفلام، حيث شارك فيه 39 فيلمًا هذا العام من مختلف الأنواع، وتمنح جوائزه بناء على تصويت حر من الجمهور، فاز الوثائقي "يلا باركور" للفلسطينية عريب زعيتر بـ"الجائزة الثانية" لأفضل وثائقي. يتناول الفيلم قصة أحمد مطر وأصحابه من الممارسين للعبة الباركور في غزة، وخروجه منها، وحصوله على الإقامة والجنسية في السويد، بعد معاناة شاقة. كما فاز الوثائقي "الخرطوم" للمخرجين أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي، وتيمية محمد، وفيليب كوكس، بـ"الجائزة الثالثة"، ضمن القسم نفسه. وهو عن الأحداث الأخيرة في السودان، وفرار أبطاله إلى خارج البلاد بعد استحالة العيش فيه، واستعادتهم لما حدث لهم، وعدم قدرتهم على التأقلم وحياة المنفى، ورغبتهم في العودة إلى بلادهم.
بهذا، تكون السينما الوثائقية العربية قد حصلت على جائزتين مستحقتين، دفعة واحدة، من بين الأفلام الوثائقية المعروضة في قسم "البانوراما" هذا العام.