}

أفلام آسيوية حديثة: صرخات الصمت وبشائر مستقبل حيوي

سينما أفلام آسيوية حديثة: صرخات الصمت وبشائر مستقبل حيوي
مشهد من فيلم "أنا الأغنية" (I the song)


تتيح أفلام قادمة من بلدان، تصل أخبار بعضها بالكاد إلى العالم، إطلاعًا على مجتمعات في العمق. ويعبّر الفنانون السينمائيون بحساسية عن أنفسهم من خلال أعمالهم  لتقديم تصورهم الخاص للواقع إلى الجمهور وتجسيد أحوال وتحولات قد لا يمكن للمؤرخين الوصول إليها أو الاهتمام بها كما يفعلون. 

حين يكرّس مهرجان، وهو هنا مهرجان فزول الدولي لسينما آسيا (من 11- 18 فبراير/ شباط 2025)، برامجه لهذه السينما فإنها فرصة نادرة للإحاطة بشيء مما يحصل في هذه الجهة من العالم. فالفن، كما يُعرّف، يعبّر عامة عن التجارب الفردية، التي تعتبر اقتراحات لإدراك العالم، القريب أو البعيد، المرئي أو غير المرئي. وحين نقع على فيلم "أنا الأغنية" من بوتان "البلد السعيد"، كما يُطلق عليه، فإن فضولًا يدفع باتجاهه، ليس للحصول على معلومات عنه متوفرة بكثافة على النت، بل التماسًا لرؤية فنان من بقعة ساحرة وحول أناس شبه مجهولين. تقول مخرجة الفيلم، ديتشن رودر، بحكمة في تقديمها للفيلم: "انتقلنا بشكل مباشر من ثقافة شفهية قوية إلى ثقافة بصرية تتكون من التلفزيون والأفلام والوسائط الرقمية. وبين الاثنين، لم نأخذ الوقت الكافي للتفكير. اليوم، تتلاشى ثقافتنا الشفهية، مهددة بموت صامت وغير معلن... فهل من الممكن أن نتوقف في هذا الهيجان الحديث، لنأخذ لحظة للتفكير في المقدس، وفي الثقافة، وفي الأصالة، وفي المعنى وفي ما هو مهم؟".

بوتان، البلد المتشدد في استقبال السائحين، لحسن الحظ، وشبه المنغلق  يعاني إذًا من انهيار التقاليد المتوارثة. في دولة يبلغ عدد سكانها 700 ألف نسمة، يعرف الجميع بعضهم البعض، لذلك تجد المعلمة نيما نفسها في ورطة عندما يظهر مقطع فيديو حميمي على الإنترنت، تظهر فيه امرأة تشبهها تمامًا. تنطلق نيما في مهمة للعثور على نظيرتها الغامضة والمشاكسة ميتو. لكن تلك، اختفت دون أن تترك أثرًا. السكان المحليون، بعد ملاحظتهم الشبه المذهل بين الاثنتين، يميلون إلى الاعتقاد بأن نيما هي شبح ميتو المفقود، ويقترح شيوخ القرية غناء أغنيتهم المقدسة لحلّ اللغز، كما تفعل نيما التي تفتح قلبها وتغني لإعادة بناء حياتها المكسورة. فيلم مثير للاهتمام، مستوحى من أحداث حقيقية، في تنقله بين الماضي والحاضر يضيء على الثقافة البوتانية، بعاداتها وموسيقاها وألوانها.


ليست التقاليد الشفهية هي وحدها التي تختفي. في فيلم أول مؤثر وعميق في نظرته لتحولات جذرية تطاول الحياة الرعوية التقليدية في منغوليا باتجاه تكوّن مجتمعات سياحية استهلاكية، يستوحي الفيلم المنغولي الصيني "أن تقتل جوادًا منغوليًا" للمخرجة المؤلفة جيانغ شياو شوان أحداثًا حقيقية لراعية منغولية كانت تعيش في السهوب على الحدود بين منغوليا والصين. في الفيلم، تحولت الراعية إلى راع في النهار يرعى الخيول، وفي الليل يضطر للعمل في أندية ليلية صينية ليبدي مهاراته كفارس مهيب على فرسه الأبيض مع مجموعات أخرى من الفرسان. تحول بائس لفرسان يبيتون مجرد دمى ترفيهية لمجموعات سياحية في عمل غير مستقر. يبرز الفيلم ما يصيب مربي الماشية من تغيير وما يعانون من إهمال وظروف مناخية شاقة. فيما تتبدى الحياة المعاصرة أكثر جذبًا بدخول التلفزيون إلى الخيم والحصول على المال السهل ببيع الأراضي والمواشي إلى مستثمرين من الصين لإقامة منتجعات سياحية. فيلم مؤلم وشخصيات واقعية ولغة بصرية جميلة، يجسد معاناة المغول الذين يعيشون على حدود الصين محاصرين بين الهويتين ويصارعون التحول من التقاليد الرعوية إلى الواقع الاستهلاكي السياحي.

وعن مصائر الرعاة وحياة الرعي يأتي من كازاخستان فيلم "آبل" للمخرج آلزات إسكندر، الرابح لجائزة لجنة التحكيم الكبرى في فزول، لما حمله من نظرة تأملية على تاريخ بلده وعلى موضوع مأساوي يمسّ صغار الرعويين. يعود الفيلم إلى عام 1993، في ظل المشهد المضطرب الذي شهدته كازاخستان ما بعد الاتحاد السوفياتي، حين تم تفكيك المزارع الجماعية وخصخصة الممتلكات، وبالطبع ليس من أجل توزيع عادل. لقد تقاسم الزعماء الغنائم وتُرك الراعي الحقيقي في مأزق وكان عليه أن يواجه الفساد لتحقيق حلمه المتواضع بتأمين حقه. سعى المخرج لالتقاط مصير الناس العاديين الذي قال إنه يشعره بالقلق لا سيما في المراحل التاريخية المفصلية حين تخفّض قيمة الفرد من قبل السلطة بعد أن كرس كل طاقاته وحياته للعمل.

ومما تعانيه البلدان الآسيوية من استغلال الأيدي العاملة الرخيصة في التصنيع ولا سيما في خياطة الألبسة الجاهزة، يلقي المخرج تي ما نانيغ، ضمن سياق اجتماعي وسياسي من ميانمار، الضوء على عاملات قرويات في مدينة أثناء حرب أهلية بعد الانقلاب العسكري في 2021. في "ما صرخة الصمت" تعمل مي ثيت بعيدًا عن قريتها في مصنع للملابس في يانغون، كما زميلاتها، ولم تستلم أجرتها منذ شهرين. يبدي الفيلم بحنكةٍ آليةَ تنظيم احتجاج ما، وهو هنا لفتيات بسيطات لا سند لهن ولا معرفة بالقوانين، وما يقود إليه الاصرار في بلدٍ لا يكترث لهذه النوعية من العمّال، بحيث يُسحقون بلا رحمة. على بساطة الفيلم وتواضع إمكانياته الفنية، ورغم تكرار مشاهد الاعتصامات والمطالبات، فقد تمكّن من شدّ انتباه المتفرجين لما أبرزه من إلمام بعلم النفس عبر دراسة تحولات المواقف والشخصيات من المشاركة في الاعتصام بين التخلي والتردد والتصميم. فيلم مليء بالحياة والعزيمة رغم بطء إيقاعه واعتماده صورة قاتمة معظم الوقت وديكور محدود في أماكن مغلقة.


ولا بدّ من أفلام تسلط الضوء على تحكم العصابات في مجالات تدرّ أرباحًا وفيرة، المخدرات مثلًا أو الاتجار بالبشر! عصابات تجعلها قوتها الاقتصادية تتسلط على بعض أجهزة الدولة لتسهّل عملياتها. من قيرغستان، يطرح المخرج الشاب داستان جبار ريسكلدي في "صفقة على الحدود" تحولات تدريجية لشخصية رجل عصابات صغير مستعد للتضحية بالكثير في سبيل إنقاذ شابة مستعبَدة هربت من مطارديها. يقول مخرج هذا الفيلم الذي فاز بجائزة التحكيم أن موضوع الإتجار بالبشر ظلّ يؤرقه لسنوات بسبب تجربة شخصية في عائلته حين اختفى أخوه أثناء عمله في البناء في الخارج، ليعرفوا لاحقًا أنه كان مستعبدًا. ورغم أنه تمكن في النهاية من الفرار والعودة إلى منزله، فإن تلك الأسابيع المؤلمة من عدم اليقين ظلت محفورة في ذاكرته. المخرج في فيلمه الأول تمكن من تحقيق فيلم ينتمي إلى سينما النوع البوليسي في أسلوب إخراجي سلس، ولغة سينمائية ميّزها إيقاع متزن، وتصوير اعتنى بالجماليات، وحبكة تشويقية، وحسن إدارة للممثلين، ما يبشر بمستقبل واعد.

وعن استكشاف الهوية والانتماء، يقدّم الفيلم الأول للمخرج الفيليبيني هيم باسينا "كونو باشو" قصته معتمدًا منظورًا جديدًا حول الشتات الفيلبيني، ومستكشفًا تعقيدات الروابط العائلية والهوية الثقافية عبر متابعة عالمة أنثروبولوجيا فيلبينية شابة تتجه إلى بلدة صغيرة في اليابان لحضور جنازة والدها، الذي كانت تربطها به علاقة بعيدة. هناك، ستضطر إلى التعامل مع التعقيدات الثقافية والعاطفية لعائلتها الثانية، بما في ذلك أختها غير الشقيقة اليابانية. تواجه الشقيقتان تاريخهما المتشابك وتصوراتهما عن والدهما واستكشاف علاقتهما وهويتهما الفردية من خلال تواجدهما في بلدة تعاود البناء هي الأخرى بعد زلزال تسونامي عام 2011. بُني الفيلم على فكرة كيفية اختلاف وجهة نظر ثقافتين إلى شيء صعب مثل الموت، وكيفية تعامل كل ثقافة مع الحزن ومستويات التعاطف والتفاهم بين شعبين. نجح الفيلم في إبراز التمييزات الثقافية والعاطفية لهويات شخصياته، وأجاد تصويره للحزن "المقيّد" في المفهوم الياباني أي البعيد عن الهستيريا والمبالغة العاطفية، هذا مقابل الفيليبيني الذي يبحث عن التضامن المجتمعي الذي يشكل له محورًا للشفاء.

إنها أفلام أولى، في معظمها لمخرجين شباب، تبشّر بمستقبل حيوي لسينما آسيا بما تبرزه من مواضيع شيقة وأساليب جديدة، وإن كانت تحتمل مزيدًا من اعتناء سردي، فإنها تحمل حيوية الإبداع برغم ما تعبّر عنه من مواضيع قاتمة.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.