يحاول الفن الحديث والمعاصر منذ بداية القرن العشرين (باريس- نيويورك- برلين- روما) التوحيد المتدرج بين الفنون التشكيلية والموسيقى مع التأكيد على أنها أقرب إلى الإيقاع الخطّي والتلحين اللوني منها إلى المضامين الأدبية والشعرية، ما عدا استثناءات، على مثال رسوم ڤيكتور هوغو التي لا تقل عن أدبه الفذ أصالةً، خُصّص لألف منها، المنجزة بمادة اللاڤي الشفافة، متحف خاص في باريس، على الرغم من أن البعض يجدون علاقة إيقاعية موثقة بين الشعر والتشكيل والعمارة على غرار إيتين سوريو وبلند الحيدري.
رسّخ وجهة النظر النقدية الأولى اكتشاف واسيلي كاندينسكي، المهاجر الروسي إلى ألمانيا، للتجريد عام 1908م قبل شيوعه بفرعيه الغنائي والهندسي، وبعد إحياء فن الرقص باستجلاب باليه موسكو (فرقة سيرجي دياغيليف)، وتخصص موسيقى إيغور سترافينسكي لعروضها مثل بيتروشكا وتتويج الربيع مع العناية بتصوير ديكوراتها وأزيائها، (كُلّف بابلو بيكاسو بتصاميم آخرها كموروث لعبقرية تشايكوفسكي في بحيرة البجع وكسارة البندق). ثم ازدهار فرقة لوزان بقيادة راقص الباليه والسينوغراف موريس بيجار (ثمانين يومًا حول العالم)، بحيث أصبح الرقص جسرًا جسديًا يجمع الرسم والتلوين والحركة والإيقاع الموسيقي.
وبخصوص هذه العلاقة صدر مؤخرًا باللغة الفرنسية للمؤلف الموسيقي المعروف جان إيف بوسور كتاب "الموسيقى والفن التشكيلي".
البوادر الأولى
يكشف شعراء الصوفية وشائج القربى الذوقية القلبية بين العين والأذن، فها هو ذا الشاعر الضرير بشار بن برد يجيب عند عشقه لإمرأة لم يراها:
قالوا: بمن يا ترى تهذي فقلت لهم/ الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فما تبصر في موضوع الهوى/ ولا تسمع إلا من القلب
ويقول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم.
ويقول الحلاج: من وصل إلى النظر استغنى عن الخبر، ومن وصل إلى المنظور استغنى عن النظر.
انعكست هذه الصبوة الذوقية التوحيدية على تصاوير منمنمات الفن الإسلامي ووصلت ذروة لقاح موسيقى السماعي الصوفية مع البصيرة ضمن مفهوم أبي حامد الغزالي. وهاكم أبلغ أمثلتها على الطريقة النقشبندية، وهو المعلم القطب كمال الدين بهزاد خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر ما بين تبريز وهيرات، كان يرسم لوحاته التحضيرية (تدعى بلغته الطرح) بالمقلوب حتى تتماهى الهيئات التشخيصية، بحيث يبدأ بتصوير الألوان الصوتية مثل النوته الموسيقية المقاماتية، فتتحول العمائم مثلًا إلى شكل العلامة الموسيقية البيضاوية وهكذا، ثم سيطر تلميذه شيخ زاده على محترفات الامبراطورية المغولية في الهند واستمر في هذه التقاليد السمعية - البصرية خاصةً عند تصوير الطيور الروحية لدى فريد الدين العطار مثل الهدهد والعنقاء والطاووس.
من المثبت أن رامبرانت كان يتدرب على ألوان بورتريهات هذه الفترة.
ويمثل أوجين دولاكروا التحول الأصيل من الاستشراق الملفق للفن الإسلامي إلى الاحتكار المباشر لمادته الروحانية عن طريق شروده عن البعثة الدبلوماسية وانفتاح رسوم دفاتره على فنون الأندلس والمغرب والجزائر وتونس من خلال أفضليته "موسيقية اللون الصريح"، وتناسل من اكتشافاته هنري ماتيس الذي انتهل الأساسي من المعارض البانورامية الأولى للفن الإسلامي ما بين باريس وبرلين عام 1910- 1912 م؛ ما دفعه للاقتراب المٌعاش في طنجة وسواها، وظل حتى نهاية حياته في بداية الخمسينيات يتجول في كنوز علاء الدين وجنته والمنمنمات الشمولية التي توحد بين الفن التشكيلي والموسيقى الصوفية (خاصةً مع بعدي المقصوصات الملونة بالغواش)، وذلك قبل شيوع تصاويره وتصاميمه العملاقة في نيويورك ومدرستها.
وكانت قد ساعدت الدراسات المحايدة للفن الإسلامي مثل اكتشاف لويس ماسينيون (الحلاج الفرنسي) للنقابات الروحية عام 1932 م وسلطة نقيبها في سحب إجازة من لا يجيد صناعة مهنته (مثل النجارة) وصدور التوليف الذوقي الوجدي للفنون التشكيلية مع الموسيقية (المقامات والتقاسيم والذكر والرقص والإنشاد).
علينا استدراك كتابين متزامنين يشكلان مفاتيح موضوعنا عام 1910 م وهما كتاب واسيلي كاندينسكي: "الروحانية في الفن المعاصر" وأنه سيأتي يومًا، قَرٌب أم بَعد، "ستتحول فيه اللوحة إلى نوته مثل الموسيقى قابلة للإنجاز من قِبَل العديد من الفنانين". وكذلك كتاب الموسيقي المصور بول كلي بعنوان "الخط النقطة الدائرة"، يكشف تأثر كنديسكي بالفن الإسلامي من مجموعة "عربيات"، أما كلي، فتبدو ظواهر هذا الاستلهام صريحةً بعد سفره إلى ألوان تونس، ودراسته القيمة عن المزايا التوليفية في صناعة المحراب المحفوظة في اليونسكو، وأنه كلما اقتربت اللوحة من النواظم الموسيقية كلما تعمق البعد الروحي فيها.
تضاعف هذا التحالف مع جماعة الذوق (الفن العرفاني الإسلامي) مع تبريرات مدرسة الباوهاوس من خلال تبيان الافتتاح عام 1919 م في مدينة فايمر الألمانية من قبل المهندس المؤسس غروبيوس، الذي يعلن بصراحة رفع الحدود بين الفنون النخبوية والتطبيقية وأن الندرة لا تضمن الأصالة. أما أبرز الأساتذة مسؤولي الورشات فكانا واسيلي كاندينسكي التجريدي الشمولي وعازف الفيولونسيل والبيانو، وبول كلي مصور وعازف محترف على آلة الكمان وعمل في حفلات الموسيقى الكلاسيكية مع فرقة برن الرسمية. أما نشاطه التربوي المنشور والشخصي فيمثل هذا التوحيد الأكيد بين فني حاستي السمع والبصر.
اكتشف بيير بوليز، قائد الأوركسترا الفرنسي الأول والمؤسس لفرقة فيلهارموني المحدثة في باريس، وقبل وفاته، بأن هناك نوتات لبول كلي وفق ديوان جان سيباستيان باخ يرسم على هيكلها تصاويره المتأخرة بعد نسخها نشرت بأكملها في كتابه النادر بعنوان: "المواطن الخصبة لبول كلي".
أما الكتاب الأشد شهرةً وعنايةً فهو المرافق لمعرض جامع لبول كلي موسيقيًا بعنوان "تعددية الأصوات اللونية " عام 2012 م.
السينيتيزم والهولوغرام
تٌمثل محفوظات الفن الحديث في متحف مركز بومبيدو في باريس فناني التوليف التشكيلي - الموسيقى النموذجي ما بعد مدرسة الباوهاوس (التي أغلق أبوابها النازيون) وانتقل مركزها إلى واشنطن عن طريق الفنانين لسلي موهولي ناجي الهنغاري والفرنسي فيكتور فازاريللي مؤسس تيار "الأوبتيك - سينيتيك" في الخمسينيات، ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الاتجاه الذي ورث مع التقدم الفيزيائي والمعلوماتي، مختبر لقاح الضوء مع الصوت والفنون التشكيلية مع الموسيقى. نعثر بدايةً على اتجاهات حركية زمانية مقاربة مثل النحاتين الأميركي ألكسندر كالدير والفرنسي إيڤ تانغلي.
علينا أن ننتظر حتى ستينيات فيكتور فازاريللي لتتحقق نبوءة واسيلي كاندينسكي بمستقبلية النوته البصرية المسبقة القابلة للإنجاز من قبل العديد من الفنانين مع تعدد النسخ تطبيقًا لقاعدة فازاريللي نفسه: "الندرة لا تضمن الأصالة".
الأوبتيك سينيتيك
الواقع أنه ترسخ مع فيكتور فازاريللي موروث الالتباسات الباطنية للوهم البصري الأوبتيك خاصةً الهندسي المستلهم، وفق اعترافه، مباشرةً من الأرابسك متاهات خط الكوفي المربع، وبقية الموتيفات في الأرابسك المنطلقة من البرامج الجبرية لتعامدات رقعة الشطرنج الشائعة في التصاوير (رسوم المنمنمات وسواها) في الفن الإسلامي. نجد العديد من نماذج هذا التوليف في الأرابسك في متحفيه في فرنسا، خاصةً متحف غورد.
نعثر في متحف الفن الحديث في مركز بومبيدو في باريس على نماذج مبكرة مهمة على غرار إنشاءات بدايات يعقوب آغام المبرمجة. وهي عبارة عن باقة من أجهزة النوابض المعدنية الرخصة التي تتراقص في الفراغ وفقًا لتناغم صفير الجمهور وتصفيقه. كما أنه إلى جانب المتحف توجد بحيرة سترافينسكي التي تعوم فيها أعمال كل من الحركيين إيف تانغي ونيكي دي سانت فال الميكانيكيين. فإذا ما استدعينا بحيرة الحي الحديث لاديفانس (حيث أقيم محترفي) نعثر على مدرجات بحيرة آغام المفروشة بموزاييك البساط الهندسي الإسلامي ومزروعة بنوافير مبرمجة راقصة التدفق والارتفاع المائي وفق معلومات هارمونية تتناغم مع الموسيقى المصاحبة، أي إنها نوافير موسيقية سمعية بصرية تتجمهر حولها كل أربعاء مجالس الجمهور، تقابلها على بعد أمتار بحيرة أشد عراقة تحمل اسم الفيزيائي اليوناني تاكيس الذي صممها وبرمجها، رمز الحي العريق، هي أوركسترا من فوانيس متعددة الأضواء الليزرية الملونة تشع وفق برنامج معلوماتي من الهرموني الموسيقي.
ألم تبلغ أخيرًا توأمية الفن التشكيلي زواجها السيميائي الذي انتظر قرونًا من التقدم الفيزيائي ومخاض جماعة الذوق؟ بالنسبة لهؤلاء اللقاح يتم بين البصيرة والسماعي في ساحة القلب أو الحدس وليس بين السمع والبصر.