}

"غوبلز والفوهرر": فنّ الأكاذيب في الدعاية السياسية

ندى الأزهري 12 مارس 2025
سينما "غوبلز والفوهرر": فنّ الأكاذيب في الدعاية السياسية
هتلر وغوبلز في الفيلم
هل يعرف أحد أو يتذكر اسم وزير الدعاية أيام الحرب العالمية الثانية في بلاد مثل بريطانيا أو روسيا أو غيرها؟ لا، لكنهم يعرفون اسمي- يقول متفاخرًا الدكتور غوبلز، وزير الدعاية لدى هتلر في فيلم "غوبلز والفوهرر" (2024) للمخرج الألماني يواكيم لانغ (Joachim Lang). عبارة، من ضمن عبارات أُخذ بعضها حرفيًّا من وثائق تاريخية، شكّلت نواة صلبة لفيلم يعتمد على الحوار بشكل رئيسي. المخرج، مدعومًا بسنوات من البحث التاريخي، يصوّر فن الكذب الذي مارسه أعظم المجرمين في التاريخ، يفكّك آلياته ويذكّر بالقوة السياسية التي تمثّلها المعلومات وأسلوب التلاعب بها.

في أمكنة مغلقة ومحددة بمراكز اجتماع ومكاتب قادة وبضعة بيوت، تدور أحداث الفيلم. إشعار بانفصالٍ عن الجماهير، وتركيز على الشخصيات. في لقطات شديدة القرب ترصد الكاميرا وجوه أبطالها الثلاثة ناقلة أدق تعبير لهم، إنهم الفوهرر (فريتز كارل)، والدكتور غوبلز (روبرت شتادلوبر)، وماغدة زوجة الأخير (فرانسيسكا فايز). فيما تبدي الباقين من وزراء وقادة حرب ككومبارس من حولهم، لا تقترب منهم إلا فيما ندر، فيشكلون كتلة بشرية واحدة أمام القائد، كأنه دورهم، مع استثناءات تتمثل بمداخلات لهم سريعة خلال الاجتماعات المغلقة. التأييد سمة مواقفهم ليس دون نظرات دالّة أحيانًا متفاجئة أو ساخرة (نحو غوبلز على الأخص) تبدي هذه المنافسة الخفية بينهم على الاقتراب من زعيمهم هتلر.

المخرج نسج رابطًا بين عصرنا والطريقة التي يستخدم بها السياسيون، المتطرفون منهم خاصة، التحايل لإقناع الجماهير


إنه فجر الحرب العالمية الثانية، الحرب التي يتوغل الفيلم في كواليسها وفي كواليس قادة الرايخ الثالث حين يكون الشعار إمّا النصر وإمّا الموت. لقد بات جوزيف غوبلز الرجل الأكثر نفوذًا في نظام هتلر، مقتنعًا بأن السيطرة على الرايخ تتطلب أساليب جديدة تمامًا للتلاعب. يتحكم وزير الدعاية في وسائل الإعلام ويحرك الحشود إلى درجة تحويل الهزائم إلى انتصارات والأكاذيب إلى حقائق. إنه، وبدعم كامل من الفوهرر، سيتمكن من بناء أكثر الأوهام تعقيدًا، حتى ولو أدى ذلك إلى إلقاء الناس في الهاوية. يمزج هذا الفيلم القاسي بمهارة بين الشكل الروائي والصور الأرشيفية التي يستعين بها في مشاهد الحشود والخطب الخارجية لهتلر وغوبلز، ليضعها مقابل مشاهد الداخل المغلق الذي تهيمن عليه كثرة الحوارات الداخلية. في فيلم بُني على الحوار، غوبلز يشرح ويخطب باستمرار لطرح خططه لهتلر عن كيفية التلاعب بالجماهير، وبثّ الحماسة فيها حين تتعب أو حين تشعر بالهزيمة أو باللاجدوى. كانت مهمة غوبلز الأولى عام 1938 تحضير الحرب، مسوغاتها لإقناع الجماهير الألمانية وغزو مشاعرها قبل غزو بولندا، لم يفعل الفيلم ذلك عبر إبداء هذه الجماهير، مواقفها أو كلامها، بل عبر محادثات بين هتلر ومساعده الذي بات الأبرز والأقرب إلى قلبه هو وعائلته وأطفاله الخمسة، ومن خلال الغوص في هذه العلاقة الحميمة بين هتلر والعائلة التي أرادها أن تبقى قائمة، على الرغم من الزوجين غوبلز وماغدة، نموذجًا يُقتدى به للعائلة الألمانية، يسلط الفيلم الضوء على الشخصيتين الرئيستين ودورهما الجنوني الإجرامي.

الجماهير تستقبل هتلر حين عودته لبرلين وغوبلز يلقي خطابًا 


يرسم يواكيم لانغ صورة شخصية لوزير دعاية هتلر. يظهره في حياته اليومية ساعيًا في الآن ذاته إلى تفكيك رموز أساليبه في التلاعب لإثارة حماس الجماهير وتحليل تطور آلة الدعاية مع إبراز ما يقوم به كل متحكم. كيف تحضّر استقبالات الزعماء، وهنا هتلر، كيف تستخدم الدعاية وسائل الإعلام من سينما (الطلب من فيت هارلان صنع فيلم ضد اليهود "اليهودي سوس" (1940) لزرع كراهيتهم لدى الألمان وتحريضهم عليهم والذي بات الفيلم الأشهر للبروباغندا الآرية)، وإذاعة وصحف، وكيف توضع عناوين ضخمة لأحداث صغيرة "الأحد الدامي" لوصف حادثة صغيرة، وتضخّم الاعتداءات وأعداد الضحايا. دروس ما زالت مطبقة إلى اليوم فالمخرج نسج رابطًا بين عصرنا والطريقة التي يستخدم بها السياسيون، المتطرفون منهم خاصة، التحايل لإقناع الجماهير. هذا شديد الأهمية في الفيلم وكأن المخرج أراد تبرئة هذه الجماهير المقادة، كأن المصائب يتقاسمها ويحضّر لها القادة وتكتفي الشعوب بالانقياد رغمًا عنها.


كل حادثة مهما صغرت ومهما كانت شخصية (اعتداء ليهودي على دبلوماسي ألماني) تُحوّل إلى حدث تاريخي مفصلي يستفاد منه، وكلُّ أمر له دلالاته يُستغل للاستفادة منه إلى الحدّ الأقصى لتحقيق الأهداف المرسومة وهي هنا غزو الدول الأوروبية، أو إلغاء التحالفات السابقة (مع ستالين). إنهم يدعمون خططهم بتهيئة الأجواء المناسبة لاستقبال الزعيم من قبل شعبه، تُحضّر الشعارات التي ستهتف بها الجماهير "الفوهرر يقود ونحن نتبع"، والطفلة التي ستهديه باقة ورد. لا شيء يترك للصدفة. يبيّن الفيلم نظرة هؤلاء القادة للشعوب فهم لا يهتمون لحبهم بل لخضوعهم وخشيتهم. وكيف تُعطى التبريرات بقتل الأطفال والنساء مثلًا. فالأطفال نواة لعداء مستقبلي إن لم نقض عليهم اليوم فسيقضون علينا آجلًا؛ دروس يمكن للمرء لمسها اليوم بكل وضوح، وكأنه فيلم عن الحاضر مستلهمًا الماضي القريب. البروباغندا، بحسب غوبلز، ليست أكاذيب إنها تقوم على حقيقة، على واقع، وهذا أساسها، ولكنها تستخدم، ويُتلاعب بها لتكبيرها والتركيز على ما يشعل الجماهير. إنها فن "تصنيع الأكاذيب" كما هو العنوان الفرنسي للفيلم.
 

الاستماع إلى خطاب هتلر 


لجأ المخرج للاستعانة بممثلين من النمسا لتجسيد أدوار أبطاله الثلاثة، ولم يكن هؤلاء على مستوى الحدث تمامًا ولم يستطيعوا الإقناع بشخصياتهم. لقد بدا هتلر هادئًا، ضعيف التأثير، وغوبلز مزعج بثرثرته الدائمة وضحكته العالية. فلم يفرض الاثنان حضورهما على الشاشة، وكان هذا أكثر ما ترك أثره على الفيلم لا سيما حين اقتضى المونتاج تمرير الصور الأرشيفية بالأبيض والأسود لمرافقة قصصه، ومنها تسجيلات من عام 1943 لخطاب لغوبلز. فهذه وإن انسجمت تمامًا في نسيج السرد وكانت إضافة مهمة للفيلم فإنها أظهرت الفارق بين الشخصيات الحقيقية والتمثيلية ولم يكن لمصلحة الأخيرة. ونتذكر هنا فيلم "السقوط" (2004) للألماني أوليفر هرتشبيغل عن الساعات الأخيرة لهتلر والذي جسّد دوره ببراعة شديدة الممثل السويسري برونو غانز. "غوبلز والفوهرر" أقل روعة بكثير، وبدا تعليميًا بعض الشيء في حواراته المتكلفة وأبقى المشاهد على مسافة منه. لكنه مع هذا يبقى مهمًا في الوقت الحالي وضروريًّا لفهم الآليات وراء التلاعب بالحشود والرأي العام. "أنا من يقرر الحقيقة"- يقول غوبلز وهو يحرق صور شخصية ووثائق عامة عند حلول الهزيمة التي لم يرغبوا في البدء حتى الاعتراف باقترابها. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.