}

"أرض الانتقام": فاتحة قوية لسينما جزائرية جديدة

سينما "أرض الانتقام": فاتحة قوية لسينما جزائرية جديدة
لقطة من الفيلم
يمتلك المخرج الجزائري أنيس جعاد الأدوات الضرورية والمرجعية المناسبة لتحقيق أفلام جيّدة، ويمكن الذهاب صوب هذه النتيجة، من خلال الاحتكام إلى أفلامه ومشاهدتها بعين مُحايدة، سواء القصيرة التي أخرجها قبل سنوات، أو حتّى في الطويلة التي بدأها بـ: "الحياة ما بعد" الذي أخرجه عام 2021، وقد كرّس أنيس هذه الموهبة مرة أخرى، في فيلمه الروائي الطويل الثاني الذي أطلق عليه عنوان: "أرض الانتقام" (97 دقيقة، 2024)، وقد جمع فيه بين الكتابة والإخراج، مظهرًا العديد من الخصوصيات الفنية المميزة، تلك التي وصلها من خلال المعالجة الإخراجية "المتقشفة"، البعيدة عن الأصوات المتعددة والمظاهر الكبيرة والصور النمطية، بمعنى أنه حاد بفيلمه هذا عن المسار السينمائي الجزائري السائد.

يروي الفيلم قصة جمال (تمثيل سمير الحكيم) الذي قضى فترة في السجن بتهم فساد، لكن بعد تلك السنوات من الغياب وجد أن الكثير من الأشياء قد حدثت وتغيّرت مع عودته، من بينها زوجته التي وثق فيها سابقًا وأعطاها توكيلًا لكل ما يملكه، لهذا استغلت فترة غيابه، وباعت بيتهما وسحبت الأموال من البنك، كما أخذت ابنهما ورحلت.

وجد جمال نفسه مشرّدًا بدون مأوى، حتى أن مديره السابق (شوقي عماري) الذي غطى عليه في جريمة الفساد التي سجن بسببها تخلى عنه، ولم يقدّر بأن جمال لم يسحبه معه إلى السجن بعد أن غطى عليه ولم يذكره في المحاكمة، وأكثر من هذا لم يعطه ماله المستحق. من هنا لم يجد هذا العائد سوى بيت أخته يامنة (زهرة فيضي) التي مكث عندها، لكنه أحس بأنه أصبح عالة عليهم بعد أيام، لهذا قرّر العودة إلى الريف، إلى بيت والديه المتوفين. هناك بدأ حياة جديدة، لكنها حياة أرجعت له مواجع الماضي، بعد أن أخذت الأحداث في الفيلم منحى آخر تمامًا، وهذا حين استرجع علاقته مع محمد ابن عمه (محمد موفق)، ودخل معه في مشروع فلاحي، يتمثل في الاستفادة من قطعة أرض واستثمارها زراعيًا، وقد قدّما من أجل ذلك رشاوى لأحد المسؤولين، لكن الخطة لم تسر كما ينبغي، بعد ظهور شخصيات وقصص لم يتخيل للحظة ظهورها، ومن ثمة تتشابك الأحداث وتتجلى العديد من الحقائق التي يجب معالجتها كما ينبغي.

اللاّعنف: كسر أفق توقع المتلقّي 

انعكست فطنة المخرج وكاتب السيناريو أنيس جعاد في فيلمه "أرض الانتقام"، من خلال كسر أفق المتلقّي وتخييب ظنه، وهذه "الخيبة" لا تجسّد ذلك الشعور السيء، بل هي نوع من أنواع لذّة المُشاهدة، لأن الجمهور كان يتوقع من خلال أحداث بداية الفيلم بأن البطل جمال سيُحدث الكثير من العنف، مدفوعًا بروح الانتقام، وقد تم التحضير دراميًا لهذا الشعور، من خلال خيانة الزوجة وتنصّل المسؤول وعدم واحترامه للتضحيات والخيبة من المسؤولين وغيرها من مصادر الشحن، وتحصيل الحاصل بأن الجمهور توقع الكثير من مشاهد العنف، انتقامًا لتلك الطعنات التي تلقاها من عديد من الجهات، وهو بناء درامي يتقاطع كثيرًا مع فيلم "اللص والكلاب" (1962) لكمال الشيخ، حيث حدث للبطل سعيد مهران (شكري سرحان) ما حدث لجمال تقريبًا، بعد أن خانته حبيبته وهو في السجن وارتمت في أحضان آخر، كما تخلى عنه من كان يعتقد بأنه قدوته، لكن جمال في الأخير آثر المواجهة السلمية، على عكس مهران الذي لجأ إلى العنف المفرط ومواجهة الكل.

من هنا يكون جعاد قد أسّس دراميًا لنهاية غير مألوفة، وبالتالي خيّب ظن المتلقي، الذي كان يعتقد بأن جمال سيبحث عن زوجته ويذيقها الويل، كما اعتقد بأنه سيقتل مديره، ذلك الرجل الذي تخلى عنه، وأكثر من هذا حرّض عليه مجموعة من الشباب وأبرحوه ضربًا.

هذه المنطلقات الأساسية في تشبيك البناء الدرامي، ساهمت بشكل ملحوظ في صناعة مسار فيلم مختلف ومغاير، وتقديم قيمة أخلاقية مختلفة عن مظاهر الانتقام المتعددة، وبالتالي يكون فيلم "أرض الانتقام" هو مساحة من الأسئلة المختلفة عن هذا الشعور الغاضب الذي عادة ما يفرز جملة من العواطف السلبية، منها الحقد والكراهية والغل، وكلها أحاسيس تأخذ صاحبها إلى خسارات متعددة.

حاد أنيس جعاد بفيلمه هذا عن المسار السينمائي الجزائري السائد


لقطات متسعة
... فراغات بصرية وروحية     

أظهر جعاد تمكنه في العديد من مناحي الفيلم وعناصره، خاصة في اللغة البصرية التي جعلها تلتحم بشكل قوي مع الموضوع، لهذا حاول في العديد من المشاهد أن يخلق تماهيًا واضحًا بين شعور المرارة والفقد والخواء والحسرة الذي كان يعاني منه البطل جمال، في مقابل "الكادرات" البصرية التي خلقها مدير التصوير حمودي العقون، وهذا ما رأيناه مثلًا في محطة الحافلات الفارغة من المسافرين، فقط جمال يجلس وسطها، وكذلك وهو في الشارع أو في الأرض. وهناك الكثير من المشاهد التي تثبت هذا المسعى، إذ جعل من الصور البانورامية مدخلًا مهمًا لفهم نفسية جمال المتحطمة، وأكثر من هذا التقط العديد من الصور المقرّبة جدًا من وجهه، وهي خاصية تجعل المتلقي يتعاطف كثيرًا مع البطل، ويدخل معه في علاقة تأثيرية، وبالتالي يتأثر بأي شيء يقدم عليه، وربما حتى يقف معه في حالة قرر حتى استعمال العنف مع من تسبّب له في الأذية.

كما أن موهبة مدير التصوير لم تنحصر فقط في تلك الثنائية بين هواجس البطل الداخلية والخارجية، بل تنتقل إلى الجماليات البصرية والشعرية المتعددة، وكلها تعكس بمعطى أو بآخر  مسار الفيلم بشكل عام، مثل تركيز الكاميرا الثابتة، وخلق "الكادر" داخل "الكادر"، وهذا ضبط مهم جدًا يعطي مشاهد بصرية غاية في الجمال والدقة. إضافة إلى أن المخرج أنيس جعاد حاول في الكثير من مناحي الفيلم تثبيت صور للأشجار، ومعظمها أشجار تعصف بها الرياح في كل جهة، وهو إسقاط دقيق وقوي على شخصية جمال المهزوزة، تلك التي يتلاعب بها الزمن في كل جهة، مثل الأشجار في مواسم الرياح.

موهبة سينمائية تتكشف على مهل

رغم "الثيمة" القاسية التي جاء بها الفيلم، غير أن طريقة المعالجة التي اعتمدها المخرج كانت هادئة وغير متكلّفة، لم يعتمد فيها على ضجيج المجاميع البشرية التي عادة ما تكون في الأسواق ومحطات الانتظار والشوارع، واكتفى فقط بالمشاهد البسيطة التي تولد المعاني القوية، وفي نفس الوقت تخلق عمليات تواصل متعددة، وهي طريقة مجدية سينمائيًا، تضمن تحكم المخرج في تفاصيل فيلمه، خاصة عندما تكون القصة قوية ومولّدة للفعل الدرامي.

كما كانت خيارات المخرج موفّقة بشكل كبير في عملية "الكاستينغ"، خاصة الممثل الأساسي سمير الحكيم الذي أدّى دور جمال، وقد أثبت هذا الممثل بأنه صاحب موهبة، يعرف جيدًا كيف يتعامل مع أدواره، ويعود هذا إلى اجتهاده المستمر، وعمله الدؤوب على تطوير موهبته في كل فيلم يعمل عليه، وقد أبان عن هذا بشكل جلي في فيلم "أرض الانتقام"، وأثبت بأنه يمكن التعويل عليه كثيرًا في أدوار البطولة، وهو الرهان الذي رفعه المخرج أنيس جعاد ونجح فيه، لهذا تمت تقوية العمل، من خلال تكاتف جهود الممثلين وإعطاء أفضل ما لديه، مثل محمد موفق، ومحمد تكيرات وزهرة فيضي، ومريم مجكان، وحميد كريم، وباقي الممثلين.

حاجة السينما الجزائرية     

أثبت فريق عمل فيلم "أرض الانتقام" الذي أنتجه المركز الجزائري لتطوير السينما بأن المخرج الجيد، صاحب الرؤيا المتكاملة والسيناريو المحبوك، يمكن أن يقدم فيلمًا معقولًا يعكس هوية السينما الجزائرية الحقيقية، تلك التي كانت تنتجها المؤسسات الجزائرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لهذا فإن الفيلم المذكور يمكن برأيي أن يكون نموذجًا حيًا عن الأفلام التي يمكن أن تخدم السينما الجزائرية وتلبي حاجتها وتظهرها بصورة محترمة، بعيدًا عن الميزانيات الكبيرة والأسماء المكرسة والسيناريوهات المكررة.

لذا فإن "أرض الانتقام" هو خيار سينمائي قوي، أظهر موهبة المخرج والممثلين من جهة، ومن جهة ثانية يمكن اعتماده كبوصلة لإنتاجات المركز الجزائري لتطوير السينما، وهذا الاعتماد لا يمكن رسمه في أشكال التقليد أو التشابك المباشر، بل من خلال طريقة العمل وبلورة الفكرة والعمل على القصص وتقديمها بطريقة مختلفة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.