لم يكن الضوء يومًا في مكانٍ محدد، في الخيال أو الذاكرة. حتى تلك الصور المعتمة التي تشير بفنيتها وشعريتها إلى ركنٍ قصيّ من المكان المنسي، فإنها تضيء فقط زاويةً منه، لكي يتسنى لنا رؤيته كلَّه وبالكامل. فلا نشعر هنا أن الصورة، ورغم حزنها، قاتمة. ربما ذلك النور الخافت هو رحلةٌ لشيءٍ خفيّ داخلها، علينا أن نتتبعه ونكتشفه مرةً أخرى.
لذلك يبدو السؤال: كم لوحة أضاءت شيئًا ما في الذاكرة، أو طريقًا ما نحو مستقبلٍ لم يأتِ؟ وهما سؤالان ليسا متناقضين، خصوصًا أن ما يضيء في الذاكرة يلزم لرؤية شيءٍ ما مقارنةً مع الحاضر. فإعادة قراءة الماضي ليست فقط لحفظه وتوثيقه، إنما توظيفه للاستشراف والبحث عن أسئلةٍ كامنة أو معالم أصبحت حاليًا ممحوةً بفعل التوحش والإبادة.
إذًا، هناك عوالم أخفاها زمنُ الظلم والقسوة والإبادة، وأحيانًا نجت من ذلك بفعل الكثير من العوامل. وفي طريق لوحات الفنانين إلى اكتشاف الأسلوب الخاص والحديث، كان هناك منعطفٌ للأبيض والأسود؛ أحيانًا كانت السياسة والتاريخ هما من يخلقان ذلك المنعطف، وأحيانًا كان الفنان يجد ما يريد قوله داخل هذين اللونين النقيضين.
في تاريخ الفن، كما في تاريخ هذا العالم، تقاطعت بعض اللوحات مع مراحل تاريخيةٍ مظلمة، فاختار الفنان هذين اللونين ليعكس هذا التناقض بين النور والعتمة. وأحيانًا، ليس لهذا السبب تمامًا، إنما لأنه يحتاج لأن يحفر في الذاكرة ليرى نفقًا ما، وربما هناك أسبابٌ أخرى وراء ذلك.
زمن بلا ألوان
في معظم لوحات الفنان الإسباني بيكاسو، حضر اللون بقوة، باستثناء بعض اللوحات المهمة التي تحمل في طياتها رسائلَ ربما سياسية، وجاءت في مرحلة من الاحتجاج، ومنها طبعًا أيقونته "غيرنيكا". ولكن لوحةً أخرى غير معروفة كثيرًا رسمها الفنان بعد الهولوكوست واسمها "بيت شارنيل"، وكانت تلك اللوحة التي رسمها الفنان بالزيت والفحم عام 1945 كيقظةٍ سياسيةٍ للفنان أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي لحظةٍ كان يرى فيها الكثير من الصور البيضاء والسوداء أثناء الحرب.
ربما في تلك الأوقات المعتمة، اختار بيكاسو أن يوثق هذه الذاكرة الجماعية الدامية ويتركها بلا لونٍ في أرشيف الفن، وطبعًا بدون أن يُكملها. ولكن لوحة "بيت شارنيل" تأتي كإشارةٍ من بيكاسو إلى أنه لا يستطيع أن يملأ اللوحة بالألوان لتصف الرعب والقتل، وأنه أيضًا لا يستطيع أن يجعل أشياءها مفهومةً.
من نفق التاريخ والتراث
ربما في أوج صدمةِ التاريخ تكون العودة إلى التراث ليست مجردَ استعادةٍ حسية أو مقارنة مع ما يحدث، إنما يشرح الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج أن تلك العودة إلى الأساطير، إذا كانت من أجل أن تُفجّر شرارةً كامنةً في الداخل، إذًا هي حقيقية، وليست فقط من أجل تفريغ المشاعر أو التواجد والاستعراض، بل كما عبّر الفنان حرفيًا: "عندما يكون الفنان هو كلّه فرشاةً في يد أمةٍ كامنةٍ فيه، سيصطدم بالماضي والحاضر والمستقبل".
هكذا يربط الفنان الفلسطيني، الذي عاش في مصر وفي بيروت، أسلوبه الفني بالطباعة والحفر بين التراث والزمن بأبعاده الثلاثة، وكأن الأبيض والأسود ليسا فقط الماضي، فبالنسبة لشيخ الفنانين العرب هو استشرافٌ للمستقبل.
فإذا اعتبرنا السواد والبياض لونين قادمين من عالم الكتابة، فإن الفنان الفلسطيني كان قارئًا للأدب والتاريخ والأساطير، وكان أيضًا متأثرًا بحياة الفلسطيني المرتبطة بالذاكرة الجماعية، حيث يقول أيضًا في مكانٍ آخر ما قاله الشاعر الألماني غوته: "إن إنتاجي هو إنتاج اجتماعي، لكنه مهر باسم غوته".
اللالون أم الأصل؟
يتأمل الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في كتابه "فلسفة اللالون" (دار الساقي، 2024) أن الأسود هو غياب الألوان، بينما الأبيض هو وجودها كلها، ويذهب إلى التأمل لغويًا وروحيًا في معاني العتمة التي توحي بغياب النور، وعدم رؤية كل شيء. وهو يأخذ المعنى المجازي لسواد الكون، والمأخوذ من معنيين اثنين هما: الثقب الأسود والمادة السوداء. فيشدّد على أن هذا الثقب غير موجود في الواقع، بل في الإدراك، لأنه نتيجةٌ معتمةٌ لضوءٍ مفرط. أما المادة السوداء، فلا يمكن العثور عليها أيضًا. وهي مجازٌ يوحي بنقصٍ داخل الفكر. وهنا نتأكد أن السواد الكوني ليس هو سواد الليل، هذا النقيض الشعري لزرقة السماء، بقدر ما هو اسمٌ لما قد اختفى.
ويتوصّل الفيلسوف باديو إلى خلاصةٍ مهمةٍ جدًّا: ليس الغياب أو الموت هو الدلالة المتضمنة في هذا السواد الكوني، بل ما يضعه الفكر في تعارضٍ معهما.
وهكذا يمكن فهم معنى الأسود في التاريخ الاستعماري لأفريقيا، وإطلاق هذه الصفة على من هم أدنى، بتعبير الهيمنة الكولونيالية الغربية. ويخلُص إلى شيءٍ يراه أساسيًّا جدًّا، وهو: وضعُ حدٍّ لتوظيفات الألوان جميعها، في أشكالها وفي الإبداع الجمالي عمومًا. ويقول باديو: علينا أن نُعلن بصورةٍ نهائيةٍ وقاطعة: أن على كل سياسة تحررٍ أن تفضَّ رابطتها بالألوان.
الضوء فنيًّا
للفنان الفلسطيني والباحث كمال بلاطة رحلةٌ ضوئيةٌ بدأت من مدينته القدس وأخذته بعيدًا إلى عالم التجريد، وقد أدخل في لوحاته ذلك الضوء الذي قال في وصفه إنه قادم من القدس ومن المكان، وذلك حين عبّر في جملته الشهيرة: "إن القدس أمامي دائمًا".
يقول صديقه الفنان الفلسطيني ستيف سابيلا إن بلاطة يميل دائمًا إلى الضوء، وذلك لأنه في رحلته كلها يحاول أن يمسك ضوء القدس، وهو في منفاه يفتقد فلسطين كلها. والضوء الذي يتراءى في لوحاته التجريدية يأتي من الألم.
فالضوء موجود بين ألوان بلاطة وأشكاله الهندسية، ورغم غياب المكان المفتقد، فهو إشارةٌ إلى حضوره. ومن هنا، لا يمكن للضوء أن يقول نقيضًا للسواد الغائب مجازًا، بل مجاورًا لوجود الألوان الأخرى.
وربما يكون الباحث كمال بلاطة، الذي بحث كثيرًا في الفن الفلسطيني ودرس علاقته الخفية بالمكان، هو "فنان الضوء" الذي ركّز داخله على علاقة اللون بالذاكرة والتراث، وعلاقة الرسم بالكتابة أيضًا.
وأما "فنان اللون الأسود"، الفرنسي بيير سولاج، فقد حوّل حوار الضوء مع العتمة إلى مشروعٍ فني، ارتكز فيه فقط على اللون الأسود، وطبعًا هجر الألوان فترةً في حياته. وعندما سُئل عن مصادر إلهامه، قال بيير سولاج إن هناك سؤالًا دائمًا يراوده، وهو قادمٌ من تأثره بالفن البدائي على جدران الكهوف، وهو: من هو أول إنسانٍ رسم على جدران الكهف؟
ولأن هذا السؤال لا جواب له، وهو قادمٌ من أعماق التاريخ، كان سولاج قد درس فن الحفريات (الأركيولوجي)، ولكن في لوحاته كان يريد أن يعكس ويستعيد دائمًا تلك الدهشة في الوقوف أمام الكهف. ومرةً أخرى، يخرج السواد ليعود إلى الماضي ودهشته للاكتشاف.
ويضيف أيضًا في أحد حواراته: دائمًا، الضوء هو ما يدهشنا ويدعونا لننظر في العتمة.
يبدو، كما هي نظرة هذا الفنان الفرنسي للسواد، أنه محفزٌ لاكتشاف الضوء، وأنه أيضًا ليس فنًّا من الماضي، بل هو رؤيةٌ للاكتشاف والاستشراف، حيث إنه يدفعنا لنقف ونرى ونسأل.
ومن هنا، ربما، سنقف لنتساءل في هذا السواد: أليس كل فنٍّ يضيء ويكشف هو الضوء، رغم قدومه من الذاكرة أو من التاريخ؟
وهو أيضًا ما يجعلنا نتأمل لوحاتٍ كثيرةً لفنانين من غزة رسموها بالأبيض والأسود كميسرة بارود، وعزة الشيخ أحمد، وسهيل سالم، وغيرهم بالتأكيد في مدنٍ أخرى في فلسطين، فنحن نلاحظ كيف أنهم في هذه المحنة العظيمة عادوا إلى أسلوبٍ استخدموه في السابق، ليعكسوا رؤاهم الضوئية في الزمن الأسود، ليصبح البياض على الورق بمثابة أثر الزمن القادم.
وربما، كما قال الشاعر الفرنسي لوران غاسبار الذي عاش في فلسطين:
يا ضوءَ مورقًا بألوانٍ زُرْقٍ قاتلة
وألوانٍ سُمرٍ فاتحةٍ وألوانِ البرونز
الزغبيّة، تلك التي للمنحدرات حيث تصيح الأصابع
وأنت لا تعي كلَّ ذلك
أيتها العصافير، يا من تستبقين الضّوء
بحناجرك
هيِّئي دربَ الأعمى
أنتِ، يا التي وبشفرةٍ رقيقةٍ من رعدةِ الجسد
تخترقين الحجارة المجوّفة
اكسري اليوم مرّةً أخرى مرايانا...