}

"غزة برايد 17": رقصة الحياة والموت!

يوسف الشايب 28 يونيو 2025
سينما "غزة برايد 17": رقصة الحياة والموت!
الفيلم يحكي الكثير في عشرين دقيقة
لم يكن أمامي إلا أن أقف وأصفق، بعد أن اختتمت مشاهدة "غزة برايد 17"، الفيلم الروائي القصير للمخرج الفلسطيني وسيم خير، وبدأ جولته العالمية، أخيرًا، عبر مهرجانات عدة، انطلاقًا من مهرجان النرويج للأفلام القصيرة.
وعلى الرغم من أنني شاهدت الفيلم مرارًا، على الشاشة الكبيرة في منزلي، إلا أن مشهد الوقوف والتصفيق في المرة الأولى، كان يبدو وكأنني داخل صالة عرض في رام الله أو مدينة فلسطينية أخرى، أو ربما عربية أو عالمية، أشارك المشاهدين ما أتوقع أن يكون ردة فعلهم على ما شاهدوه، أو سيشاهدونه قريبًا.
الفيلم يحكي الكثير في عشرين دقيقة، مع أن بطله "الصياد"، ويجسد شخصيته الفنان الفلسطيني المبدع صالح بكري، لا ينطق إلا نادرًا.
ومع كل مشاهدة نستكشف أن ثمة الكثير وراء السرد البصري المبهر هذا، والتكوين الصادم الفانتازي الواقعي في آن، فلا فانتازيا، حتى لو كانت مبتكرة وتنم عن رؤية سينمائية عميقة وواعية لوسيم خير، توازي الفانتازيا التي تجاوزت سرد أي كاتب سيناريو قد يبدو محلقًا إلى أبعد حد في مخياله، جراء ما حدث ويحدث في الإبادة المتواصلة منذ أكثر من عام وثمانية أشهر.
المعادلة الصعبة التي حققها الفيلم أنه لم يكن فيلمًا فانتازيًا بالكامل، ولا فيلمًا واقعيًا بالكامل، وكان كليهما في آن، فالسينما الفانتازيا هي ذلك النوع من الإبداع السينمائي الذي يتكئ على عناصر خارقة للطبيعة أو سحرية، وهو ما كان، لكن "غزة برايد 17"، لم يكن في أغلب تكويناته التي شكلت أحداثه مرتميًا في أحضان عوالم خيالية تمامًا، ولم يتضمن شخصيات وأحداثًا خارج نطاق الواقع اليومي تمامًا، فهو فيلم فانتازي إلى حد ما، أو إلى درجة ما، لكونه لا يحوي عناصر خارقة للطبيعة، لكنه، في الوقت نفسه، يضم عناصر سحرية، مجازًا، عبر تكوين الفيلم الذي يرجك من الأعماق، ويجعلك تائهًا لبعض الوقت، ما بين حقيقة وخيال، كحال ما يعيشه الفلسطينيون في غزة، وإن كان مصطلح "العيش" هنا غير مناسب مع الموت اليومي في القطاع الذي يُباد فوق إبادته، علاوة على سحر أداء الفنان الفلسطيني صالح بكري، الذي يجسد الشخصية المحورية، أي "الصياد".

صالح بكري

والفيلم في نطاق فانتازيته، ذهب ولم يذهب إلى العوالم المتخيلة، عبر الحكاية التي نسجها "الصياد" تحت صدمة استشهاد ولده "ورد" برصاص الاحتلال خلال رحلة صيد بحرية في غزة، ومحاكاتها عبر شخصية الفتاة التي يجدها ملقاة جثة على الشاطئ، في إبادة أخرى، بالقرب من وسائل إنقاذ لم تنقذهم في رحلة بحث عن النجاة، أو أشياء أخرى، قبل أن يصطحبها معه إلى الغابة ميتة، بحثًا عن ماء غير متوفر، كما هي الحال في غزة اليوم، لعله ينقذها.
ولكن هذا العالم المتخيل ليس كاملًا ليصح تصنيف الفيلم "فانتازيًا"، وإن كانت الفانتازيا تكوينًا محوريًا فيه، خاصة حين تستيقظ الفتاة فجأة، وتشاركه رقصة الحياة الكنعانية، أو رقصة الموت، وكلاهما سيان في غزة، قبل أن تعود إلى سباتها الأبدي، الذي يتضح لاحقًا أنه ليس أبديًا تمامًا، بل ليس سباتًا يعكس حالة غياب ما.

لم يكن الفيلم فانتازيًا تمامًا، لكونه لم ينفصل عن الواقع بشكل كلي

ورقصة الحياة الكنعانية هي تعبير عن التراث الفلسطيني الغني، المتوارث عبر قرون، وتجسد جزءًا من الثقافة الكنعانية القديمة، وغالبًا ما ترتبط بالدبكة، رقصة فلسطين الشعبية، ولها من الكنعانية، حسب عديد المراجع، أصول وتأويلات دينية وطقوس، حيث يُعتقد أنها نشأت كشكل من أشكال الصلاة والتقرب من الآلهة، لا سيما إله القمر لدى الكنعانيين، الذين كانوا يصطفون على شكل هلال ويؤدون الرقصات عند ظهوره في سمائهم، كما كانت وسيلة للاحتفال بالحصاد والأرض، والتعبير عن الفرح بالعمل الجماعي والتناغم، لكنها هنا جاءت مغلفة بنفس معاصر على مستوى الأداء الراقص، الذي حمل عديد التأويلات رغم كثافة المشهد، كما جل مشاهد "غزة برايد 17"، وهو ما يُحسب لمخرجه خير، الذي يسجل عبر فيلمه الروائي القصير هذا، أنه من الأسماء التي قد تشكل علامة فارقة في السينما الفلسطينية.
وكانت الرقصة، التي لا يمكن تجاوزها، أو اعتبارها حدثًا عابرًا، رقصة موت أيضًا، في تمثيل رمزي للموت الذي يراقص جميع تكوينات المجتمع وفئاته كتذكير بزوالهم الحتمي، وهو ما يبدو إسقاطًا عبقريًا على ما يحدث في غزة المدينة والقطاع، بعيدًا عن رقصة "السبع أوشحة"، أو رقصة الموت لسالومي.
ولم يكن الفيلم فانتازيًا تمامًا، لكونه لم ينفصل عن الواقع بشكل كلي، وكان مبرر ذلك الانفصال الجزئي، هو تلك الحالة النفسية التي تملكت الصياد الغزي بعد أن فقد ابنه الذي كان آخر ما طلبه جرعة ماء على قارب الصيد الذي يحمل الفيلم اسمه، قبل أن تضع رصاصة قناص من بحرية الاحتلال فصل النهاية، الذي هو فصل بداية جديدة ملتبسة لكائن ليس حيًا تمامًا، وليس ميتًا تمامًا، تمثل في شخصية "الأب"، كما حال من تبقى على قيد الحياة في غزة، وهو ما انعكس في أحداث الفيلم الاستثنائي.
لكن "غزة برايد 17" كان فانتازيًا تمامًا في كونه شكل مخرجًا من الحياة اليومية، وقدم شعورًا رافقني بالرهبة والمغامرة، وخرجت معه بكثير من الدهشة، وليس الإعجاب فقط أو الانبهار، وكذلك في تقديمه لسردية عظيمة، وهي هنا سردية غزة، وعبر أحداث تدور في عالم ثانوي أو عوالم ثانوية، بشخصيات ومواضيع ذات أبعاد ملحمية، فكل الباقين على قيد النفس في غزة، حتى الآن، شخصيات ملحمية بل أسطورية.
الفيلم، الذي شاركت في إنتاجه الممثلة الفلسطينية مريم باشا، وأبدعت سابقًا في عديد الأدوار السينمائية والمسرحية، لتقف خلف الكاميرا للمرة الأولى، يمزج الخيال مع بيئة أكثر واقعية، وغالبًا ما يستكشف موضوعات استثنائية في ومن واقع الحياة اليومية، ويبقى مفتوحًا على نوافذ ورؤى مستقبلية.

وسيم خير

واللافت أن الفيلم يمكن إدخاله في تصنيف "الواقعي" أيضًا، وهذا سر من بين أسرار تميزه، فهو ليس واقعيًا تمامًا أيضًا، بحيث هدف بالفعل إلى تصوير الحياة الواقعية مع التركيز على القضايا العامة، وإن عبر حكاية شديدة الخصوصية، كانت ولم تعد، لكن من دون تجنب الاتكاء على ما يُعرف بالأسلوبية، وكذلك لكونه سعى إلى تقديم شخصيات وأماكن وقصص واقعية تعكس تجارب العالم الحقيقي في غزة ما قبل الحرب، والآثار النفسية والجسدية لمن كانوا يواجهون حصارًا متعدد الأوجه، عند بدء تصوير الفيلم، وباتوا يعيشون موتًا مجانيًا، كل دقيقة أو أقل.
وهو فيلم واقعي لكونه يعالج موضوعات ذات صلة بمجتمعها، ولكونه أيضًا يصور الشخصيات بكامل عيوبها البشرية وتعقيداتها، في مواقع وبيئات ذات علاقة بالأحداث، ما يخلق شعورًا لدى المتلقي بالمكان، بل وبالانغماس فيه ومعه، وإن كان تعذر التصوير الكامل للفيلم في غزة، حيث استشهد مدير تصوير الفيلم فيها، رشدي السراج، في الأيام الأولى لحرب الإبادة على القطاع.
وبالعودة لما قدمه الفنان صالح بكري، فلا يمكن إلا الإشادة الكبيرة للغاية بتجسيده لشخصية "الصياد"، التي هي الشخصية المحورية، إلى جانب تلك الشخصيات الحاضرة الغائبة، والعابرة وليست العابرة في آن، رفقته، فقد قدم من دون كلمات كثيرة، وبتعبيرات جسدية، ما يأسر مشاهدي "غزة برايد 17"، ويجعل كل واحد منهم يبحر معه على متنها، منساقًا بإرادته أو دونها، بعد أن تمكن من إحداث تنويم مغناطيسي جمعي، كان يتملكه، وبات يتملكنا، ليس لأننا نعيش في فلسطين، بل من فرط إبداع ما قدمه في الفيلم، وفي جل ما بات يقدمه مؤخرًا، مؤكدًا على كونه فنانًا فلسطينيًا نادرًا ما يتكرر، فمع كل دور يجسده، يقدم بكري ما يدفع إلى فغر الفم، انبهارًا ودهشة، وبل وصدمة هي شيء من صدمته في الفيلم، وصدمتنا من روعة التجسيد.
"غزة برايد 17"، الفيلم القصير لوسيم خير، ينتمي أيضًا إلى "السينما السوداء" في بعض جوانبه، لكونه مشبعًا بالظلام والسوداوية والتشاؤم، وإن كان فيه جرعة تفاؤل غير يقينية، باعتباره فيلمًا غير يقيني أيضًا، كما هو واقعنا المعاش، وفانتازيته.
وعادة ما يرتبط هذا الأسلوب السينمائي بفترة تاريخية عصيبة، لا سيما إبان الحروب، وبُعيدها، بحيث تترسخ السخرية السوداء والتشاؤمية بل والقسوة ربما، وفي وقت تسود فيه حالة قد تطول من عدم اليقين، وهو ما انعكس في الفيلم الذي واجه تحديات إنتاجية كبيرة، لكنه في النهاية خرج إلى العلن، مدشنًا جولاته العالمية في عديد المهرجانات الدولية والعربية، ليصطحب كل من يشاهده في رحلة نفسية، تُعيد تكوين المأساة الفلسطينية المتواصلة منذ عقود، وتكثفت في العامين الأخيرين، وإن في واقع مختلف، عبر سرد سينمائي مغاير، واستثنائي، ومقاوم أيضًا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.