اشتهرت الكاتبة الإنكليزية جين أوستن (1775- 1817) بستّ روايات ركّزت فيها على انتقاد طبقة ملاك الأراضي البريطانيين في نهايات القرن الثامن عشر. من بينها: "العقل والعاطفة" (1811)، و"كبرياء وتحامل" (1821)، و"إيما" (1815). غير أنّ رواية "كبرياء وتحامل"، أو "كبرياء وهوى"، كانت الأكثر نجاحًا، وتناولت فيها الكاتبة الموضوع الذي كان سائدًا وقتئذٍ في بريطانيا، ألا وهو اعتبار النساء الزواجَ وسيلةً للحصول على دخلٍ ثابت، ومركزٍ اجتماعي مهم. من ناحيتها، رفضت أوستن الزواج، لتمنح نفسها الوقت والمساحة الكافية لتنمية موهبتها الأدبية من دون عوائق من واجبات منزلية، أو زوجية، مضحيّةً بأمنها المالي، وبسعادتها الشخصية.
استغلت صناعة السينما روايات أوستن في أفلام عديدة، منها: "مانسفيلد بارك" (1999)، و"كبرياء وتحامل" (2005)، و"جين أوستن" (2007)، و"العقل والعاطفة" (1995)، و"إيما" (1996)، و"حجج العقل" (2007)، و"نورثانجر أبي" (2007)، و"أوستلاند" (2013)، و"الحبّ والصداقة" (2015).
واليوم، تعرض دور السينما الفيلم الفرنسي الدرامي "جين أوستن دمّرت حياتي" (إنتاج 2024)، للمخرجة الفرنسية لورا بياني. تؤدي دور البطولة الممثلة كاميل رذرفورد، التي تعرّف عليها عشّاق السينما من خلال فيلميها "تشريح السقوط/ Anatomy Of A fall"، و"الأزرق هو اللون الأكثر دفئًا/Blue is the warmest color". كما اشتهرت أيضًا بأدائها في فيلم "Holly Motors"، وتؤدي في هذا الفيلم دور جين أوستن الكاتبة، حين عاندها الإبداع، وحين عانت من أزمات في حياتها الشخصية.
في الفيلم، يتصارع رجلان للفوز بقلب البطلة، وإن كان هذا الصراع لم يتخذ منحى قويًّا: أحد المتنافسين على قلب أوستن هو بابلو بولي، والآخر تشارلي أنسون، الذي سبق له أن لعب دور البطولة في عدد من الأفلام المأخوذة عن روايات الكاتبة الشهيرة، مثل فيلم "إميلي في باريس"، و"الموت على النيل"، غير أنّ أهمّ تلك الأفلام كان بلا شكّ فيلم الرعب الساخر "كبرياء وتحامل الزومبي". هذه المرّة، وكما يوحي العنوان، أتيحت لتشارلي أنسون، مرة أُخرى، فرصة لعب دورٍ في فيلمٍ جديد مقتبسٍ عن روايات جين أوستن.
تعمل أغاثا (الممثلة رذرفورد) في إحدى المكتبات، وتكتب في الوقت نفسه روايات رومانسية رخيصة، على الرغم من أنّها كانت قد وضعت مسودة كتابها الجادّ الأوّل، إلا أنّها لم تستطع أبدّا تجاوز الفصول القليلة الأولى. يحاول كلّ من حولها: أختها، الأمّ العزباء التي تعيش معها، والتي تبحث يائسةً بين العلاقات الكثيرة العابرة عن أبٍ لابنها، وكذلك صديقتها المقربة وزميلتها فيليكس (بولي) أن يقنعوا الفتاة بأنّها موهوبة بالفعل، وأنّ الوقت قد حان للمضيّ قُدمًا نحو الأدب العظيم.
لكنّ أغاثا لا تثق بنفسها، وتعاني في الوقت نفسه، بعد وفاة والديها في حادثٍ مروري مرعب، من القلق، ومن نوبات الهلع والخوف من السفر بالسيّارة. بطبيعة الحال، تتوق أغاثا إلى الحبّ، الذي كادت أن تتخلّى عنه، كما كادت أن تفعل بمسيرتها الأدبية.
جاءت فرصة الكاتبة الذهبيّة لتغيير كلّ شيء عندما تلقت دعوة للحضور إلى مقرّ الكُتّاب الذي أصبح يحمل اسمها اليوم في إنكلترا، (وكان فيليكس قد أرسل سرًّا مسودة كتابها العتيد كوثيقة مطلوبة للحصول على عمل). على الرغم من عدم تمكنها من التغلب على كل مخاوفها، تسافر أغاثا إلى الجانب الآخر من القناة الإنكليزية (قناة بحر المانش)، على أمل الانتهاء من تأليف الكتاب. في قصرٍ قديم تعود ملكيته اليوم إلى أحفاد جين أوستن، تلتقي بزملاءٍ من الكتّاب، بالإضافة بالطبع إلى مالكي المكان (زوجان عجوزان لطيفان)، وابنهما أوليفر (أنسون)، الذي يُظهر على الفور ميلًا خجولًا نحو الكاتبة. ومع ذلك، وقبل مغادرته مباشرةً، يظهر فيليكس التعاطف نفسه، ليضعا الفتاة في حيرةٍ من أمرها: هل تبدأ علاقة مع صديقها القديم، أم ستوجّه اهتمامها لشخصٍ تعرّفت عليه لتوّها.
البيئة التي تجري فيها معظم الأحداث تشبه بالفعل بيئة أيّ روايةٍ من روايات جين أوستن الأخرى، وكأنّ القارئ يشاهد فيلمًا آخر مقتبسًا، على الرغم من أنّ الرواية كانت في الواقع مجرّد ميلودراما بسيطة تتحدّث عن الكتاب، وعن محبي الأدب بشكلٍ عام.
تشير بعض الوقائع إلى وجود علاقة بحبكة الكتاب، ولكن يتضح، هذه المرة أيضًا، أنّها علاقة أكثر من عادية من ناحية، ومن ناحية أُخرى يتبين أنّها تثير الاهتمام أكثر بكثير من أيّ خيال. تعاني أغاثا من "انسداد الأفق الإبداعي والتأليفي"، فتقوم بجولاتٍ في الحديقة، وفي الغابة المحيطة بالعقار القديم، وتصطدم بزملائها الكتاب، فتتخيل ما ستكون عليه كتبهم المستقبلية، وتغرق في الأفكار بشأن وضعها غير المرغوب فيه.
في الفيلم، أيضًا، بعض من روح الدعابة، فالبطلة فتاة رشيقة بقدر ما هي خرقاء: فهي تقتحم غرفة أوليفر عارية تمامًا، ثمّ تتعثر وتسقط على أوراق الشجر التي تملأ المكان، ومن ثمّ تتعرض لهجومٍ مباغت من حيوان اللاما الذي ظهر من العدم في الريف الإنكليزي الهادئ.
بدلًا من الجلوس لكتابة الرواية، تستمتع أغاثا خلسةً بالتنصّت إلى أحاديث جيرانها المسائية، على أمل العثور على الإلهام الأدبي المفقود، إمّا عند هؤلاء، أو في قاع كوب من الخمر في الحانة المحلية التي ترتادها بين الحين والآخر، حيث ستطلق العنان لنفسها ولمشاعرها ذات يوم. وعندما تشعر بأنّها على وشك اتخاذ القرار، يظهر لها الخيار الثاني في شخص فيليكس، الذي ظهر فجأةً عند عتبة الباب. أمامنا حفل راقص حقيقي، حفلة تنكرية، حيث يتحول الجميع بالفعل إلى أبطال جين أوستن، يرقصون على أرضية الصالة الضخمة المصنوعة من الخشب الملمّع بطريقة قديمة الطراز، ويهمسون في زوايا غرفة المعيشة المظلمة بطريقةٍ أكثر حداثة (على الرغم من أنّ كلّ هذا لا ينتمي إلى زمنٍ محدّد). إنّ الصراع على قلب الكاتبة المتشكّك والمتردد يكتسب زخمًا متصاعدًا لا يساعد على الإطلاق في انعتاق وحي الإبداع من قمقمه.
النهاية السعيدة متوقعة، وهي لا تدمّر سحر الفيلم الهادئ والمنسوج على خلفية المناظر الطبيعية الخلابة، وعلى خلفيّة النظرات الهادئة والفضول والإبداع. ربما يكمن الشيء الرئيس في الفيلم، كما هي الحال في حياة جين أوستن، في أنّه يعطي بطلة الفيلم الفرصة لتقرير مصيرها، وإن كان ذلك يجري بشكلٍ تام، بالإضافة إلى مجموعة من الأخطاء التي ارتكبتها، فهي في نهاية الأمر شخصٌ حيّ غير كاملٍ، مثله مثل بقية البشر، له الحقّ في ارتكاب مجموعة من الأخطاء، وليس فقط خطأ واحدًا. بطبيعة الحال، الحقّ في نيل السعادة أمرٌ لا مفرّ منه، فنحن في نهاية المطاف أمام فيلمٍ لا أكثر.