"شظايا... إيّاكَ أن تألفَ المشهد، إيّاك أن يصبحوا عندكَ أرقامًا. أرسم لأحاول البقاء إنسانًا مستيقظًا، وحسّاسًا، وأن لا تزيل الحرب كرامتي إنسانيتي".
(باسل المقوسي)
يُعَدّ الفنّان التشكيلي، والمصور الفوتوغرافي، باسل المقوسي (مواليد غزّة عام 1971) من أبرز الفنّانين التشكيليين الفلسطينيين المعاصرين. وهو صاحب مشروع فنّي يؤمن أنّ الفنّ في حالتنا الفلسطينية هو التربة الوجدانية التي تتبرعم فيها روح المقاومة، وأن مهمّته كفنّان يعيش تحت الاحتلال لعقود طويلة، والآن "تحت النار" مجدّدًا، هي نقل معاناة أبناء شعبه في القطاع المحاصر المنكوب، بصورة مختلفة عن تلك التي نراها على شاشات الفضائيات، إسهامًا منه في تغطية حرب الإبادة الصهيونية الجماعية المستمرّة منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وحتى يومنا هذا، بوحشية لم يعرف التاريخ الحديث مثيلًا لها.
لم يتوقّف باسل المقوسي ورفاقه من فنّاني غزّة عن الرسم، خلال أكثر من 600 يوم من هذه الحرب الإبادية، والقصف اليومي الوحشي والتهجير القسري، وفي ظل ظروف لا إنسانية حرمت سكّان القطاع من منازلهم، ومن الماء والطعام والدواء والكهرباء والوقود، وأدنى مقومات الحياة. ناهيك عن النزوح المستمرّ من مكان لآخر في الخيام المنتشرة هنا وهناك، وعلى طول شريط الساحل، وفي الساحات العامّة.
"شبابيك"... اغتيال الحلم
في 13/ 3/ 2025، أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية في مدينة رام الله عن اختيار الفنّان التشكيلي الغزّي باسل المقوسي "شخصية العام الثقافية لعام 2025".
ووفقًا لكلمة وزير الثقافة، عماد حمدان، التي ألقاها في مقر الوزارة، احتفاءً بـ"يوم الثقافة الوطنية الفلسطينية"، الموافق لـ 13 آذار/ مارس من كل عام ــ ذكرى ميلاد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ــ ، فإنّه "تم اختيار المقوسي وفقًا لمعايير شخصية العام الثقافية ومحدّداتها، باعتباره من أبرز الفنّانين التشكيليين الفلسطينيين المعاصرين، حيث له عدد المشاركات والإقامات الفنّية المحلية والخارجية، وساهم في إثراء دور الفنّ الفلسطيني التشكيلي، كما كان له دور مميّز في تعزيز مفهوم الفنّ المقاوم، والفنّ من أجل توثيق الحياة الفلسطينية ويومياتها وهمومها، وخاصّة في المحافظات الجنوبية في قطاع غزّة".
في تعليق له على خبر اختياره "شخصية العام الثقافية لعام 2025"، رأى المقوسي أنّ هذا الاختيار ليس مجرّد تقدير لفنّه الشخصي، بل هو "اعتراف بأهمّية الفنّ كأداة نضال وثقافة مقاومة"، وتابع قائلًا: "طوال حياتي الفنّية، كنت مؤمنًا بأنّ الفنّ أحد أشكال المقاومة، وأداة للحفاظ على الهوية الفلسطينية. خلال الحروب المتكرّرة على غزّة، وجدت نفسي في مواجهة واقع قاسٍ، لكنّني قرّرت أن أستخدم الريشة وسيلةً لنقل صوت أبناء شعبي إلى العالم".
حصل المقوسي عام 1995 على شهادة الفنون الجميلة من "جمعية الشبّان المسيحية" في مدينة غزّة. وفي عام 2003، شارك في تأسيس مبادرة "شبابيك من غزّة للفنّ المعاصر"، والتي تطوّرت إلى "محترف" في عام 2009، بالشراكة مع الفنانَيْن شريف سرحان، وماجد شلا.
حول هذه التجربة، يقول المقوسي في حوار أجراه معه الصديق الكاتب والأكاديمي الفلسطيني، الدكتور محمود بركة: "شبابيك حلم تحقّق لي وللفنّانين منذ الفكرة الأولى عام 2003، منذ أن تأسّس في البداية كعالم افتراضي، إلى أن أصبح حقيقة في عام 2009، ومرسمًا خاصًّا وقاعة للعرض نديرها برفقة الأصدقاء وشركاء الحلم. ووصلت شبابيك إلى كونها المكان الوحيد والأوّل في فلسطين كاستديو رقمي، ومرسمًا يديره الشباب من دون قيود وشروط على الفنّانين لإنتاج أعمالهم وعرضها في قاعة المحترف".
شارك باسل المقوسي بين عامي 2000 و2003 في إقامات فنّية متعدّدة، من بينها إقامته بـ"مؤسّسة خالد شومان ــ دارة الفنون" في عمّان، بإشراف الفنّان السوري الراحل مروان قصاب باشي (1934 ــ 2016).
كما حصل على إقامة فنّية في مدينة بنغالور في الهند، وإقامة فنّية في الجزائر بترشيح من منظّمة اليونسكو عام 2013، وأخرى في النرويج والسويد في العام نفسه، وإقامة فنّية في ولاية كونيتكت الأميركية عام 2016.
حاز المقوسي على جوائز فنّية محلية وعربية ودولية، منها: "جائزة تشارلز إسبري للفنّ الفلسطيني" 2005، بترشيح من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، والجائزة البرونزيّة من "اتّحاد المصوّرين العرب" في ألمانيا، عن أفضل صورة في عام 2008، و"أوسكار بينالي" تلفزيون النيل الثقافي في عام 2009.
ومنذ عام 1994، وحتى عام 2023، عمل مدرسًا ومنشطًا للفنون في مدارس الصم.
فقَد المقوسي، في هذا العدوان الإبادي الصهيوني، عددًا من أعماله الفنّية جرّاء القصف الإسرائيلي والنزوح من مكان إلى آخر أكثر من مرّة. وكان أن تعرّض منزله الكائن في بيت لاهيا شمال القطاع للتدمير الكامل من قبل قوات الاحتلال خلال عدوان عام 2008. يومها، قال: "كان همي الأوّل البحث عن أعمالي الفنّية التي كنت أخزنها تحت السرير، وفوق الدولاب، وفي أماكن مختلفة من البيت، حيث أنّه لم يكن لي مرسم خاصّ في تلك الفترة. جمعت الأعمال التي استطعت إخراجها، وعالجتها كأنّها أطفال مصابة في الحرب، بشاش الجروح، والبلاستر الخاصّ للعمليات الجراحية، وشاركت فيها في معرض "إسعاف 101" على أنقاض مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني في تل الهوى برعاية برنامج الصحة العالمي".
توثيق من واقع العدوان بالحبر الجافّ
ينشر باسل المقوسي رسوماته وصور الأنشطة التي يشارك فيها "تحت النار" على جدران صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وإنستغرام، وثريدز، وإكس (تويتر سابقًا)، مذيلًا إياها بوسم: (#ارسم_لكي_احافظ_على_انسانيتي_وكرامتي #غزة).
وهو يرسم كغيره من فنّاني غزّة بأقلام الحبر الجافّ، على دفاتر مدرسية، وعبوات الأدوية، وأوراق قديمة، وأُخرى متناثرة، مستخدمًا ما توفّر من حوله من أصباغ طبيعية، وشاي، ورمان، وكركديه، ليوثّق شهادته من واقع العدوان الفاشي المستمرّ على القطاع من دون نهاية قريبة في الأفق.
من يتابع صفحته في فيسبوك بشكلٍ يومي يلاحظ كيف يقدّم رسومات عديدة شكّلت فيها آلة القتل الصهيونية المتعدّدة الأنواع، وفي المقدّمة منها الطائرات، عناصر أساسية، حيث القصف الهمجي برًا وجوًا وبحرًا يدّمر بشكل ممنهج البيوت، والمساجد، والكنائس، ومراكز الإيواء، والخيام، وكل مقوّمات الحياة في غزّة، حتى باتت رسوماته نصوصًا موازية لما يكتبه الأدباء من يوميات الإبادة.
في رسومات أُخرى، يُوثّق المقوسي، معالم معيّنة في القطاع يقصفها جيش الاحتلال للمرّة الثانية، أو الثالثة، حيث هاجمها في حروبه السابقة على غزّة، بالإضافة إلى رسم مشاهد لعائلات وهي تعانق بعضها بعضًا، أو للأطفال الذين حرص على مدار الشهور الماضية على مواصلة تدريب عدد منهم في ورشات يقيمها في كلّ مكان ينزح إليه، وهناك رسومات أيضًا للفنّانين الشهداء، ومنهم علي نسمان، وهبة زقوت، ومحمد سامي قريقع، وغيرهم. وعمل برسوماته، كذلك، على توثيق الأطفال الذين يفقدون ذويهم، أو يُجوّعون، أو يُجبرون على مغادرة بيوتهم الدافئة والنزوح.
خلال الشهور الماضية من حرب الإبادة الجارية، شارك المقوسي في عدد من الفعاليات والمعارض الفنّية الجماعية لفنّاني غزّة التي نظّمت خارج قطاع غزّة.
وفي كل معرض فنّي، كانت رسوماته تحفر عميقًا في وجدان زوار هذه المعارض، لما تعكسه من مآسي العدوان والنزوح، والتي عادة ما يستلهمها من أهوال النكبة المتواصلة منذ عام 1948، وحتى اللحظة، ومن قساوة الحياة اليومية البائسة لسكّان القطاع، ومن مشاهد معاناة الغزّيين النازحين، الذين لا ترحمهم همجية جنود الاحتلال، والتي تزداد يومًا بعد يوم وهم يرونهم يكابدون من أجل البقاء على قيد الحياة.
أنا الشهيد في إقامتي الفنّية الأخيرة...
عن لوحاته التي يرسمها وآلة القتل الصهيونية لا تتوقّف، والتي رفعها بعض المتظاهرين في مظاهرات شهدتها مدن عدّة حول العالم، رفضًا لحرب الإبادة الصهيونية، كتب باسل المقوسي على جدار صفحته في فيسبوك، ذات يوم، تحت عنوان "لوحات قطع من أجسادنا": "هي ليست لوحاتٍ، ولا أعمالًا فنّية نرسمها ليقتنيها، أو يشاهدها، المهتمّون بالفنّ... هي قطع من أجسادنا تناثرت مع الشظايا في كل لحظة قصف مصحوب بأكثر الأصوات إزعاجًا، خارجة من فوهات المدافع والصواريخ الساقطة من طائرات جوية، وبوارج بحرية، على بيوتنا، فتتناثر أجسادنا معها. هي صرخاتنا التي تخرج وتجرح حناجرنا، هي بفحم وحبر وألوان شكّلتها دماؤنا، هي بسمة أطفالنا التي اختفت مع مدارسهم في زمن ليس بزمانهم ولا مكانهم، هي حبّ في زمن الحرب، هي الخوف من الموت، من الفقد، من المجهول ككل إنسان". ويردف: "لكن يقيني أنّ الحبّ يُذهب الخوف. لا أرسم صورة الحرب، فالكاميرا والصحافيون يوثّقونها بشكلٍ أفضل وأسرع... لوحاتي هي الاشتياق لقبلة وحضن؛ هي نور يملأ قلوبنا؛ هي شهادة على الإبادة؛ هي اهتماماتنا عند النزوح ونقلها من مكان إلى مكان، والخوف عليها كأفراد الأسرة". ويختم متسائلًا: "هل سننجو لنعرضها ونشاهد عيونكم وهي تتأمّلها؟ إن كنت بينكم حينها فأنا باسل، وإن لم أكن، فأنا الشهيد في إقامتي الفنّية الأخيرة".
أطلق المقوسي، خلال حرب الإبادة، مشاريع فنّية عدة، حمل آخرها عنوان "مشروع شظايا"، الذي يحتوي على أكثر من 600 لوحة نفّذها في أيام الحرب، مستخدمًا الفحم على أوراق بيضاء. وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا" نقلت عنه قوله: "كل لوحة كانت توثيقًا ليوم من أيام الحرب، كانت تجسّد مشاعر الخوف، والألم، والفقدان، ولكن أيضًا الصمود. كنت أرسم وسط الدمار، في ظروف بالغة الصعوبة، لكنّني كنت أؤمن أنّ الفنّ هو رسالة لا بدّ أن تصل". موضّحًا أنّ "هذه الأعمال الفنّية ليست مجرّد لوحات، بل شهادات بصرية على ما مرّ به الفلسطينيون في غزّة، تعكس وجوه النازحين، صرخات الأطفال، وملامح الحزن التي خيّمت على المدينة".
كذلك، أطلق مشروع "إقامات فنّية وليست نزوحًا"، الذي ارتكز على تقديم ورش رسم للأطفال النازحين في مختلف المناطق التي تنقل بينها خلال الحرب، مثل غزّة، والشيخ رضوان، والشاطئ، والرمال، وخان يونس، ورفح، ودير البلح، والزوايدة، وغيرها. وقال المقوسي عن هذه التجربة: "كنت أجمع الأطفال، نلعب ونضحك معًا، ثم نرسم ونعبر عن مشاعرنا بالألوان. لم أرد أن يشعروا بأنّهم نازحون، بل أردت أن أعطيهم مساحة للتعبير والإبداع، لذلك أطلقت على هذه الورش اسم "إقامات فنّية وليس نزوحًا". في كل مكان كنت أحمل حقيبتي وأدواتي وأرسم معهم، متحدّيًا الحرب والدمار"، لافتًا إلى أنّ "الأطفال عبروا من خلال رسوماتهم عن مشاعرهم المتضاربة، حيث رسم بعضهم بيوتًا مدمّرة، وآخرون رسموا طيورًا تحلق في السماء، مما يعكس تطلعاتهم للحرية والسلام".
كما نظّم المقوسي ورشًا للأمهات والفتيات لمساعدتهنّ على التعبير عن مشاعرهنّ من خلال الفنّ، قائلًا: "الفنّ ليس مجرّد ألوان وأوراق، بل هو وسيلة للنجاة والتشبث بالحياة. الأطفال الذين عاشوا أهوال الحرب يحتاجون إلى مساحة آمنة، والرسم كان متنفسهم الوحيد".
مراجع:
ــ صفحات الفنّان باسل المقوسي في مواقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك، إنستغرام، ثريدز، إكس.
ــ تقارير ومقالات نشرت في المواقع والمنصّات التالية: وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، ومنصّة "تدوين" الثقافية، وصحيفة "دنيا الوطن" الإلكترونية، وصحيفة "الحياة الجديدة" الفلسطينية، وصحيفة "العربي الجديد".