وقد وقع الاختيار في حزيران/ يونيو الماضي على المخرج الأميركي تيم بيرتون (1958).
تبدو الفكرة، للوهلة الأولى، لها علاقة بتنويع الفعاليات السينمائية، واستقطاب الرواد، وإتاحة الفرصة لاكتشاف مدارس إخراجية مغايرة. لكن القارئ لأفكار عدنان مدانات في السينما، وهو ما وضحه في كتابه الصادر حديثًا عن دار خطوط وظلال ("في فهم السينما") يدرك أن ثمة أبعادًا أخرى لهذا الأسلوب، منها توضيح العلاقة بين الخيال والواقع في السينما، من خلال عرض تجربة مخرج معين. وهذا ما حاول مدانات أن يبرزه في اختياره الأخير. فالسينما، بالنسبة لمدانات، خيال يعكس الواقع، وقد يكون هذا الخيال مضيفًا للواقع، ويمكن أن يكون مزيفًا له، ويعتمد ذلك على مقدار المصداقية التي يمكن أن يضفيها المخرج على الخيال الذي ابتدعه في الفيلم، وخلاف ذلك، أي إذا لم ينجح المخرج في إضفاء المصداقية على تجارب فيلمه، فإنه يقع في درك الركاكة والسطحية، كما هو ظاهر في الكثير من الأفلام التجارية الدارجة، خاصة ما يتعلق منها بعالم الخيال العلمي، وأفلام الرعب، وغيرها من المواضيع التي لا تصدق إذا لم يكن المخرج متمكنًا من أدواته، ويجعلها، بالتالي، قابلة للتصديق.
كما أن فكرة تخصيص يوم كامل لعرض أكثر من فيلم لمخرج واحد فيه الكثير من المجازفة، ولا أقول المغامرة فقط، ذلك أن القدرة على ضبط الجمهور، وجعله يتابع ويستمتع بمثل هذه التجربة يحمل الناقد المعني باختيار المخرج والأفلام التي سوف يتم عرضها مسؤولية كبيرة.
أقول هذا في محاولة للتعبير عن دهشتي أن يتم، هذه المرة، اختيار المخرج بيرتون، المعروف عنه سيد الفانتازيا، إذ يتميز بأسلوب بصري ودرامي فريد، يدمج بين عناصر الرعب والكوميديا السوداء والفانتازيا الطفولية. شخصياته ليست عادية؛ إنها منبوذة، منعزلة، مشوّهة أحيانًا... لكنها تملك سحرًا خاصًا، فمخرج مثل هذا من المخاطرة أن تخصص أفلامه في عرض عام، يحضره جمهور عام، لكن العرض (الماراثون) تم، وبنجاح.
لم يقتصر الأمر على عرض الأفلام فقط، بل تحوّل الفرع الرئيس في جبل عمان إلى مساحة تفاعلية مستوحاة من متاحف السينما، عُرضت فيها مشاهد من كواليس أفلام بيرتون، وتحليلات لأفكاره وتقنياته، إضافة إلى مجسمات ومشاهد أيقونية تُعيد تجسيد عالمه البصري.
تخلل العرض استراحات، وضيافة تُقدم إلى الجمهور، إضافة إلى إثارة مناقشات حول الأفلام والمخرج، أتاحت للمتلقي أن يعرف أن المخرج تيم بيرتون يتميز بأسلوبه البصري الفريد الذي يمزج بين العناصر ذات الطابع المظلم وبين الخيال الطفولي ذي الحسّ العجائبي. غالبًا ما تبدو
أفلامه كأنها لوحات من قصص خرافية كابوسية؛ فنرى مناظر طبيعية غريبة الأطوار.
هذه السمات البصرية الفريدة جعلت مصطلح "الأسلوب البيرتوني" مرادفًا لعوالم سينمائية تتسم بالفانتازيا القاتمة واللمسات الساخرة. وبرغم غرابة هذه العوالم، إلا أنها تتمتع بجاذبية بصرية خاصة تشد المشاهد وتنقله إلى فضاءات إبداعية غير مألوفة.
حسب النشرة المفصلة التي تم توزيعها على الحضور قبل عرض الأفلام، تبرز فرادة تيم بيرتون في أسلوبه البصري، وموضوعاته السردية، حيث يعالج قضايا إنسانية عميقة من خلال عدسة فانتازية. في معظم أفلامه، نجد أبطالًا معزولين أو منبوذين، يكافحون للانتماء إلى عالم لا يتقبل اختلافهم.
|
فيلم "إدوارد ذو الأيدي المقصات"، الحكاية الخرافية الحديثة التي تجسد رؤية بيرتون للشخصيات المعزولة التي تعاني من الرفض |
تتكرر في أفلامه ثيمات مثل العزلة، والبحث عن الهوية، والموت، لكنه يتناولها بأسلوب ساخر وحنون، يمزج بين الكآبة والفكاهة السوداء. فالموت لديه ليس نهاية، بل بوابة للتأمل. ومن خلال هذه الثيمات المتداخلة، يبني بيرتون عالمًا سينمائيًا متماسكًا يحتفي بالغريب والمهمّش، ويُحوّل الألم الداخلي إلى حكاية خيالية غنية بالتفاصيل والتعاطف.
يستخدم بيرتون الفكاهة السوداء والتصور الخيالي ليخفف حدة الرعب، ويجعل من الموت نفسه موضوعًا للتأمل الفلسفي المغلّف بالطرائف. هذا التوازن بين الكآبة والطرافة يمنح أعماله عمقًا إنسانيًا. وقد عُرض للمخرج ضمن "ماراثون الأفلام" المشار إليه الأفلام التالية:
"بيتلجوس": فيلم كوميدي أسود يدور في عالم الأشباح والحياة ما بعد الموت. يروي قصة زوجين شابين يموتان بحادث ويظلان كأشباح في منزلهما الريفي، ليجدا أنفسهما في صدام طريف مع عائلة غريبة تنتقل للسكن في منزلهما. يستعين الزوجان بشبح فوضوي يُدعى بيتلجوس لاستعادة بيتهما، وتنطلق الأحداث بسلسلة من المواقف الكوميدية المروعة. يميز الفيلم أسلوبه البصري السريالي، حيث صوّر بيرتون عالم الموتى كمكان بيروقراطي غريب مليء بالكائنات الغريبة والألوان الصارخة المتداخلة مع عتمة المقابر. يتناول الفيلم فكرة التعايش بين الأحياء والأموات من خلال معالجة ساخرة، ويطرح موضوع الهوية بعد الموت وانتماء الأرواح لمنازلها وذكرياتها. بفضل المزج المبدع بين الرعب والفكاهة السوداء، أصبح بيتلجوس فيلمًا كلاسيكيًا لا يُنسى، لا سيما مع الأداء الاستثنائي لمايكل كيتون.
"إدوارد ذو الأيدي المقصّات": فيلم فانتازي رومانسي يعرض حكاية خرافية حديثة. إدوارد هو شاب صناعي اختُرع من قبل عالم عجوز لم يكمل صنع يديه فاستعاض عنهما بمقصات حادة. يعيش إدوارد وحيدًا في قصر قوطي على تلة، إلى أن تأتيه امرأة طيبة القلب من الضاحية لتعيش معه.
يبرز التباين البصري بين قصر إدوارد الكئيب والضاحية الملونة، ما يعكس التباين بين عالمه الداخلي والمجتمع الخارجي. الفيلم يعالج مواضيع العزلة والقبول، حيث يرمز إدوارد لكل شخص مختلف يعاني من الرفض بسبب تفرده. ورغم الأجواء الحالمة، يبرز الفيلم نقدًا اجتماعيًا لسلوك القطيع والتعصب ضد غير التقليدي. تُعد هذه الحكاية من أروع الأفلام البصرية لبيرتون، مع مزيج من البساطة الجمالية، بينما تحمل قصة حب مأساوية ومعبرة عن العزلة.
"جثة العروس": فيلم رسوم متحركة بالإيقاف (ستوب موشن) يقدّم أجواء فانتازيا. تدور القصة في قرية فيكتورية كئيبة حول الشاب الخجول فيكتور الذي يجد نفسه متزوجًا من عروس من عالم الأموات (إميلي) عن طريق الخطأ. يقودنا بيرتون في رحلة بين عالمي الأحياء والأموات، حيث يبدو عالم الأموات أكثر حيوية وبهجة من عالم الأحياء الباهت. يعكس الفيلم التناقض بين الرومانسية والموت بأسلوب شاعري، ويتناول فكرة تقبل الموت والمضي قُدمًا. تميز الفيلم في فن تحريك الدمى، حيث تظهر الشخصيات بتصميم كاريكاتيري حزين، بينما تُبرز الألوان المتباينة بين الأزرق الرمادي لعالم الأحياء والألوان الزاهية لعالم الأموات.
في النهاية، جثة العروس تقدّم قصة دافئة عن الوفاء والأمل وسط أجواء الأشباح والمقابر.
"أليس في بلاد العجائب": بمثل هذا الفيلم تُمثل رؤية تيم بيرتون الخاصة لقصة الأطفال الكلاسيكية، حيث تعود أليس الشابة إلى "بلاد العجائب" التي عرفتها صغيرة، فتجدها تحت حكم ملكة قلوب شريرة. تنطلق أليس في رحلة مليئة بالمخلوقات العجيبة، لتكتشف أنها جزء من نبوءة لإنقاذ العالم الخيالي. اعتمد بيرتون في هذا الفيلم على الخدع البصرية الحديثة بشكل أكبر، وازدحمت الشاشة بمشاهد رقمية تُجسد عالمًا فانتازيًا غنيًا بالفطر العملاق والمخلوقات الأسطورية. ورغم الإسراف البصري، يحافظ الفيلم على جوهر رؤية بيرتون من خلال تصميم شخصيات غريبة الأطوار وأجواء تمزج بين المرح والفزع.
"أليس في بلاد العجائب" يسلط الضوء على صراع الهوية والقوة الذاتية، حيث تبدأ أليس مغامرتها مترددة ثم تستعيد قوتها الداخلية لتقرر مصيرها بنفسها. ورغم أن الفيلم حظي بإنتاج ضخم من شركة ديزني، إلا أنه لم يخل من لمسات بيرتون الفريدة.