آلام أنثوية
معاناة هذه النسوة لا تكون بنفس الدرجة، بل يقدم الفيلم طبقات مختلفة من التسلط الذكوري بحقهن، فيُقدم مَن عانت من تسلط الزوج، ومن عانت من تسلط الإخوة، والتي عانت من تسلط العادات والتقاليد، وكذلك التي عانت من الحرب والفصائل المتشددة.
وما يُحسب لهذا الفيلم أنه يقدم شخصيات نسائية مختلفة تشي باختلاف ثقافتهن وتعليمهن ومعاناتهن، ومن خلال الحكايات يقدم الفيلم كذلك طبقات مختلفة من الذكورية، أو طبقات وأشكالاً مختلفة من التسلط الذي يحرم المرأة من رغباتها أو آمالها أو حتى شخصياتها.
يُشير الفيلم إلى أن النساء ينتمين إلى "روج آفا"، وهو مصطلح كردي أطلقته سلطة الإدارة الذاتية على مناطق سيطرتها وإدارتها في الشمال الشرقي من سورية، ولكنه لا يُقدم نساء كرديات فقط، بل نساء عربيات أيضًا، ولم يضع المخرج هذا المصطلح سوى للدلالة على المكان الذي تم فيه التصوير في العامين السابقين.
يبدأ الفيلم في "قرية النساء"، وهي قرية تقع في مدينة "الدرباسية"، قرب الحدود السورية التركية، وقد أنشأتها جمعية المرأة التابعة للإدارة الذاتية. وكانت فكرة إقامة هذه القرية تأمل، في بدايتها، أن تضم زوجات المقاتلين اللاتي استشهد أزواجهن، ولا يوجد لهن معيل، أو عائلة ترعاهن مع أطفالهن. فتم بناء 30 منزلًا مختلف المساحات، بحسب عدد الأطفال، ومرافق لصناعة الخبز والطعام والأجبان، مع مساحة كبيرة لرعي الحيوانات والزراعة. بمعنى أنها قرية نموذجية مكتفية ذاتيًا، بل وتبيع إنتاجها للمستهلكين.
ولكن فيما بعد فتحت القرية أبوابها للنساء اللاتي عانين من العنف، أو من عدم وجود وظائف لهن، وفي كل الأحوال، ليس لهن زوج أو أسرة تعيل حاجاتهن وحاجات أطفالهن، وغير ذلك من الأسباب.
وبعد تقديم المكان، الذي يبدو فكرة متقدمة كما بيوت "دعم النساء" في أوروبا، لنساء تخلصن من سطوة الذكورية، وسماع عدة قصص، يذهب المخرج إلى عامودا والرقة، ليُقدم نماذج أخرى من نساء قررن الاعتماد على أنفسهن لتحقيق أمنهن الاقتصادي، واستقلالهن المادي.
في قرية المرأة نسمع حكاية الشابة التي سافر زوجها للعمل، فبقيت في بيت أهله مع بناتهما الثلاث. ولكن سرعان ما تتذمر عائلة الزوج منها ومن بناتها. وعندما يأتي الزوج في زيارة، تقول له بأنها ستبحث عن عمل لتساعد في مصاريف البيت، ومصاريف بناتها. ولكن الزوج يرفض، ويهددها بالطلاق إذا هي خرجت من بيت أهله ولو لشراء حاجيات من السوق.
بعد فترة تقوم عائلة الزوج المسافر بطرد الزوجة وبناتها، فتلجأ إلى بيت أخيها، الذي سيعاملها، وسيعامل بناتها الصغار، بتذمر واستياء. ويأتي الزوج ويطلقها. ويأخذ بناته إلى أهله، الذين يطلبون منه التخلي عنهن. وهكذا تلجأ مع بناتها إلى قرية النساء.
في قرية النساء تعمل الأم، مع بقية النساء، في الزراعة والحصاد وصنع الألبان والأجبان والخبز، بينما تتابع الصغيرات تعليمهن في المدرسة القريبة من القرية.
الاعتماد على الذات
نستمع في الفيلم إلى قصتين لفتاتين أخريين، تختلف عن القصة الأولى، ولكنهما تشتركان معها في أن كل واحدة منهما تريد أن تثبت قدرتها على الاتكال على نفسها، وقدرتها على تكوين شخصية قادرة على المساهمة بالفعل في بناء المجتمع.
في مكان آخر يقدم الفيلم المعلمة الأم التي تعمل في وقت فراغها، القليل، في نسج منسوجات فنية للمساهمة في اقتصاد البيت. والبنت التي تعمل في ثلاث وظائف، بقرارها الشخصي، لكي تقدم جهدها في تعليم الأطفال، من خلال تدريسهم، بشكل خاص، اللغة الإنكليزية، وفي إلقاء الضوء على قضايا مجتمعية راهنة، في زمن الحرب والعوز، من خلال برنامجها الإذاعي في الإذاعة المحلية.
وهناك تقديم للمرأة التي أسست مشروعًا اقتصاديًا صغيرًا يجمع العديد من النساء، لتجهيز "المونة" وبيعها للجمهور. والمرأة التي تعمل في مهن رجالية، مثل النجارة والحفر على الخشب، وتدريب الصغار لتعلم رياضة الجودو.
هذه الفتاة، التي تدرب الأطفال رياضيًا، كانت قد هربت من الرقة، بعد رجاء كبير من أمها المريضة، لكي تفلت من قبضة مقاتلي "داعش"، الذين كانوا يفتشون البيوت ليأخذوا الفتيات كزوجات لهم.
وفي الرقة سيقدم الفيلم فتاة، خرساء، مبدعة في حياكة أثواب النساء وتطريزها بشكل جميل جدًا، لكي تعيل نفسها وتعيل والدتها. ومن خلال إشارات يديها تحدثت عن زمن "داعش" وخوفها وهروبها واختبائها.
ومن الرقة كذلك يقدم الفيلم عمل مجموعة من النساء في أرض قمن بزراعتها، رغم أنها لا تصلح للزراعة، بعد استصلاحها، وتعرضن للشتم والطرد والتنمر من أهالي القرية. ولكنهن بقين يعملن بصمت وبعزم حتى صار أهل القرية أقل عنفًا معهن، ثم صاروا يتقبلونهن ويشجعنهن على ما يقمن به.
طبقات
بهذا المعنى يقدم الفيلم طبقات مختلفة من النساء من حيث السن، الصغيرة والشابة والأم والأخت والجدة، ومن حيث التعليم، أمية ومتعلمة، ومن حيث الوظيفة، فهناك من لم تكن تعمل نهائيًا ومنهن من كانت تعمل ومنهن الطالبة، ومن حيث اللغة، الكردية والعربية، ومن حيث الثقافة كذلك.
ومن جهة أخرى، يقدم الفيلم طبقات مختلفة من السلطة الذكورية، فهناك سلطة العائلة، الأب والأخ والزوج، وهناك سلطة الحي، أي الذكور الذين يجدون الفتاة التي تنتقل من وظيفة إلى أخرى، أو حتى تعمل في وظيفة واحدة، بأنها سيئة السمعة، كما يرد في إحدى قصص الفيلم، وسلطة العادات والتقاليد، والسلطة السياسية والعسكرية.
وعلى الرغم من اختلاف النساء، تعليميًا وثقافيًا وعمرًا، إلا أنهن يسلكن نفس الطريق، ويفكرن في الوصول إلى ذات الأهداف، وكأن هناك وعيًا واحدًا مشتركًا يجمع بينهن، ألا وهو الاستقلال الاقتصادي، وتحقيق أمنهن الاقتصادي، في أنهن يستطعن متابعة العيش، وتأمين مصاريف معيشتهن، ومعيشة أطفالهن، إن وُجدوا، بالاعتماد على أنفسهن. وبالتالي، لن تكون نهاية العالم إذا توقف الذكر عن تأمين مصاريف حياتهن.
قضايا اجتماعية
المخرج الألماني روبرت كريغ (ولد في عام 1949) درس علم الاجتماع والأعراق والصحافة، وعمل محاضرًا في علم الاجتماع في عدة جامعات ألمانية، وقام بعدة مشاريع بحثية في العلوم الاجتماعية تركز على التهميش والهجرة، حتى عام 1983، حيث عمل بشكل رئيسي على إخراج أفلام وثائقية، ليس في ألمانيا فحسب، بل في أوروبا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، مثل "من لا يملك شيئًا، لا يزال بإمكانه أن يحلم بكل شيء" (1986) عن الصحراء الغربية في الجزائر. و"انتفاضة" (1989) عن الانتفاضة الفلسطينية. و"رسالة من كوبا" (1992). و"أتيتُ إلى فلسطين" (1998). و"كانت أوروبا قريبة جدًا" (2000) عن صربيا. و"الذهب الأبيض، ملح الصحراء" (2001) عن تشيلي. و"أطفال الحجارة، أطفال الجدار" (2010) عن أطفال فلسطين... وغيرها من الأفلام المهمة التي تتناول قضايا إنسانية واجتماعية أفرزتها الصراعات السياسية المختلفة.
وفي هذا الفيلم "رغم كل ذلك" (2025) يُقدم روبرت كريغ، في 90 دقيقة، شغف نساء سوريات لتحقيق ذواتهن، ففي أوج الحرب والصراع والدمار وانعدام الاستقرار السياسي، وضمن مجتمع يعاني من العوز والفقر وانعدام الحاجات الأساسية والتسلط الذكوري، تكافح نساء سوريات من أجل استقلالهن وبناء مجتمع قائم على المشاركة والحريات والمساواة.
فيلم يُثير الكثير من الأسئلة حول المفاهيم النمطية والعادات والتقاليد، حول معنى وجود المرأة في البيت والمجتمع والعمل، واحترام القوانين والسلطات والمواطنين لها ولإمكانياتها. قصص مؤلمة ومؤثرة وتشي بالفخر وتثير أسئلة حول الماضي والحاضر والمستقبل السوري.