}
عروض

بنات حواء الثلاث: بين زمنين متناقضين وهويات متشظية

سحر عبدالله

6 أكتوبر 2017

ثلاث نساء مسلمات شابات قدمن لأوكسفورد للدراسة سنة 2001: التركية بيري والإيرانية شيرين والمصرية منى. تصفهن الكاتبة أليف شافاك في روايتها الأخيرة "بنات حواء الثلاث" بالمؤمنة واسمها منى من مصر وبالملحدة أو المذنبة واسمها شيرين من إيران والمتأرجحة بينهما واسمها بيري وهي من تركيا.

ترسم هذه الرواية بدقة ووضوح ملامح الشخصيات الثلاث من دون رغبة أو نية بالتعميم أو الإسقاط على ثقافات ومجتمعات إيران ومصر وتركيا، بل تعلق على الأفكار المُتبناة منهن، بناءً على نشأة كل واحدة وظروفها الخاصة، إلا أن القارئ لا يجد صعوبة في فهم بنية تلك الشخصيات على أنها نتاج النشأة الدينية بشكل أساسي وفي محلات كثيرة ضحاياها.

بيري هي الراوي الأساسي في الرواية. تتنقل زمنياً في الرواية بين عام 2001 حيث ذهبت كطالبة طموحة وبريئة لتدرس التاريخ والفلسفة في أوكسفورد، وبين عام 2016 إسطنبول المتوترة والمتفاعلة مع اضطرابات الداخل وما حولها.

من مائدة عشاء اجتماعي برفقة زوجها في قصر أحد محدثي النعمة الأتراك، والذي يزين بيته بصوره مع ديكتاتوريين من العالم العربي وملوك ورجال أعمال ومافيات حيث ترصد تغيرات إسطنبول التي عرفتها طفلة ومراهقة والآن كأم شابة في بدايات أربعينياتها. إسطنبول المتغيرة على مدار الوقت، إسطنبول غير وفية نحو عشاقها ولا تحمل ذاكرة عنهم.

تتوزع فصول الرواية بالترتيب على أحداث متعاقبة بين هذين العامين وبين أوكسفورد وإسطنبول. في أوكسفورد تسرد بيري حداثة وبراءة تعاطيها مع التجربة الجامعية في أعرق جامعات العالم وكذلك صدمتها بالمكان والمناخ ودهشتها من جرأة شيرين الإيرانية في إشهار إلحادها والتحدث بإسهاب عن تعقيدات أسرتها وكيف يمكن أن "يأكلوا" بعضهم البعض بالخلافات، وإمكانية أن يكونوا كالملائكة مع الزائر الغريب، لكن ما يصعق بيري أكثر، هو عفوية شيرين بالحديث عن تجاربها الجنسية وكذلك طلاقتها في الشتائم والبذاءة عموماً.

باعتمادها على تقنية العودة بالزمن للوراء عبر استحضار الذاكرة لتفاصيل الماضي، تفتتح أليف روايتها بمشهد انتشال حقيبة يدها من مقعد سيارتها الخلفي وهي تنتظر إشارة المرور كي تحضر وتتابع رحلتها مع ابنتها دينيس لحفلة عشاء رجال الأعمال المدعو إليها زوجها عدنان.

بعد مشهد مبالغ به قليلاً من حيث وصف مواجهة بيري لزعيم عصابة النشل المكونة من ثلاث طفلات، حيث تتمكن من ضربه وهو الهزيل المنهك من شم الغراء أو الكحول تستطيع إنقاذ صورة بدا أنها تعني لها الكثير، الصورة التي احتفظت بها من تجربة أوكسفورد التي تركتها من دون أن تتخرج بعد فضيحة كادت أن تودي بحياتها وتسببت باستقالة البروفسور آزور من مهنته كمدرس مادة عن الله بقسم اللاهوت.

الصورة التي تعكس التعاطي الثقافي بين أربع شخصيات أو أربعة عوالم تحاول كل منها معرفة الله وكينونته، تلمسه، فهمه، والاطمئنان بأن فهمها هو الأقرب أو الأكثر راحة، الأكثر سلاماً مع النفس. صورة ثلاث بنات شابات تتميز كل منهن بملمح أساسي، فإحداهن أنيقة وبسيطة والثانية تستخدم مكياجا فاقعاً والثالثة تلبس حجاباً، يتوسطهن الأستاذ آزور، بشعر طويل في يوم مثلج من أوكسفورد، ابتسامة للزمن وللكاميرا.

سنعرف في نهاية الكتاب تقريباً كيف وصل الأمر بالطالبة التركية بيري لمحاولة الانتحار عبر تناول كميات كبيرة من المنوم بسبب اضطرابها العاطفي تجاه آزور، الأستاذ الإشكالي، الأنيق المثقف الذكي اللماح والذي اخترق قلبها منذ أول نظرة وقعت عليه في محاضرة دخلتها خلسة ومتأخرة ومن دون بطاقة عبر كواليس الباب الخلفي للقاعة، لتصبح بعد ذلك طالبة مواظبة على محاضراته وتدرس بجدية كي تقدم حلقات البحث في مواعيدها وبالمستوى الذي يحدده.

آزور يختار طلابه بدقة وعناية عبر تصريح مهم ووحيد: "كل شيء مسموح هنا إلا الكسل".

في جلسة مميزة طلب آزور من طالباته أن يحاولن النوم والذهاب إلى غرفة نوم ديكارت حين أتته رؤية من الله، وفي محاولة تنويمهن كان يحاول قيادتهن عبر غرفة ديكارت ورحلته إلى الكنيسة ليروي للكاهن رؤياه. وحين يطالبهن باليقظة والعودة لقاعة الدرس يقول الآتي: لو قيض لك أن تتحدثي مع الله ماذا ستسألينه؟ فتأتي أجوبة الطلبة متنوعة بشكل بديهي لتعكس خلفياتهن المعرفية والروحية، فالهندية والبوذية تقول سأسأل لم لا يعم السلام والمحبة في العالم دون استثناء ويتوقف الشر؟

والنسوية المدافعة عن حقوق المرأة بشراسة وسليلة عائلة تقليدية من أوكسفورد، ستجيب: لن أسأله لأن الله بالنسبة لي أنثى وليست ذكرا.

أما منى المسلمة فستسأله: لتتأكد بأن الجنة هي للمؤمنين والمسلمين الأوفياء لرسالة النبي محمد. وحين يأتي دور بيري بالإجابة تفاجئ الأستاذ وزملاء الحصة بجوابها: سأطالب الله بالاعتذار مني ومن جميع من خذلهم في كل شيء.

وهنا ستسترد بيري خيبتها حين دعت وصلّت لله أن يفرج البوليس التركي عن أخيها المعتقل بتهمة حيازة سلاح، واحتمال المشاركة باغتيال شخص قيادي من السلطة في ثمانينيات القرن الماضي، حيث يأخذ حكماً بالسجن لثماني سنوات يخرج بعدها معطوباً للأبد بسبب عمليات التعذيب والاغتصاب والإخصاء، مما سبب حدوث جلطة للأب كادت أن تودي بحياته وقد تكون هي من سرعت بموته لاحقاً.

خيّب أملها حين لم يسعفها بالصراخ عندما أطعمت شقيقها التوأم خوخة بنفسجية خنقته فمات، وظل شبح الطفل الصغير مرافقاً لها طوال حياتها، وجها ضاحكا بلون زهري. نعم يجب أن يعتذر لأنه يسمح بكل هذا الظلم.

على طاولة العشاء الفخمة لمحدثي النعمة ورجال النفوذ حيث تتراكم وجبات الأكل من كل مطابخ العالم، وتتفنن زوجة صاحب الدعوة بتعداد أسماء الوجبات وأنواع المشروبات وأنواع المقبلات والأطعمة ودلالاتها، تستغرق بيري في الشرود في انفصالها عن هذه العوالم لكنها مضطرة لأن تساند زوجها الذي تحب في تلبية مثل هذه الدعوات. في مثل هذه اللحظات التي تبدو السعادة فيها معطى متاحًا للجميع، تفكر بيري بالمعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب الآن كما تعرض أخوها منذ سنوات، تفكر بالنساء المعنفات واللواتي يضربن الآن ويغتصبن الآن في بيوت الدعارة أو الفنادق الفخمة في إسطنبول تحت مسميات كثيرة. لا تستطيع أن تسكت أصوات المظلومين في رأسها. في كل مرة تشرد تنبهها صاحبة الدعوة، "هي يا خريجة أوكسفورد هل أنت معنا؟ اشربي المزيد وستنسجمين معنا".

في الزمن الأوكسفوردي، نواكب رحلة اندماج بيري مع المكان والمجتمع عبر محاولتها إيجاد عمل، وتنجح بالحصول على وظيفة مؤقتة خلال فترة أعياد الميلاد في مكتبة خاصة، الأمر الذي سيحقق بهجة مضاعفة لها، أي العمل في مكان تحبه وتمارس شغفها التاريخي، القراءة. يرصد ذاك الزمن الروائي محاولات شيرين الملحة على بيري، للانتقال إلى خارج السكن الجامعي والسكن في بيت خاص مستقل: "يجب أن نخرج ونجرب أنفسنا في فضاء يخصنا بعيداً عن هذا السكن الكئيب. السكن الجامعي للطلاب الصغار، طلاب السنة الأولى فقط. لقد اجتزنا ذلك وعلينا الانطلاق".

ستكتشف بيري بأن شيرين دبرت إقناع منى بالمساكنة أيضًا في ذلك البيت الصغير من أوكسفورد، وكذلك دبرت ونفذت شيرين خطة توزيع النفقات متحملة الحصة الأكبر مقابل قبول بيري ومنى السكن معها.

ستبدأ جدالات منى وشيرين منذ الأيام الأولى فيما يخص الدين الإسلامي والله حصراً، وستكتفي بيري بمحاولات التهدئة مثلما كانت تفعل وهي طفلة ومراهقة للتوفيق بين أبيها الأتاتوركي العلماني وبين أمها المتدينة، وفي معظم الخلافات تكتفي بالانسحاب بعد إحساسها بالفشل في تحقيق نتيجة ترضيها.

هنا في أوكسفورد بعد أن تستنفد طاقتها في التوفيق بين منى وشيرين، تنسحب بيري لغرفتها لتمارس عاداتها المفضلة، الشرود والتفكير بآزور أو القراءة.

في لحظة خلاف قصوى بين الشابات الثلاث ستنتبه بيري أو ربما تتخيل بأن هذه التجربة في السكن هي تحريض صريح من آزور ليجمع الشخصيات الثلاث تحت سقف واحد ويدفعهن لامتحان علاقتهن بالدين والله عبر علاقة قريبة ومباشرة ليصل لنتيجة ما متعلقة باختباراته البحثية.

في جدال صاخب بين بيري وشيرين، تحاول الأولى جر الثانية للاعتراف بدوافعها لهذه التجربة، أليس هو من أقنعك أن تجمعينا هنا ويطبق علينا تجاربه؟

لا تنفي ولا تؤكد شيرين احتمال علاقة آزور بموضوع السكن، وهو ما لم ينقص بيري لتصل لذروة غضبها فوراً وإحساسها بالغباء والفشل والانكشاف المهين أمام آزور، إنها ساذجة ولن تنضج أبداً.

تتسارع أحداث الفصول الأخيرة لتغطي بصفحات قليلة ومكثفة استدعاء آزور للمثول أمام محكمة في الجامعة وللاستماع لرد بيري عن الأسئلة، إن كان لمحاولة انتحارها أي علاقة بآزور. ستعترف بيري لشيرين وآزور بعد خمسة عشر عاماً منذ يوم المحاكمة الأخلاقية للأستاذ ولحب حياتها الأول، بأنها لم تمثل أمام اللجنة لأنها لم تكن تنوي الاعتذار منه، أي آزور هو الذي كان يلقبها في محاضراته بفتاة إسطنبول، الفتاة التي تعتذر عن أخطاء البشرية كلها، الأخطاء التي لا علاقة لها بها. ألم تقل لي لا تعتذري بعد الآن من أحد، ولا مني؟ لقد فعلت ذلك الشيء وغادرت.

في تلك السنوات التي مضت على مغادرة بيري أوكسفورد وعدم تخرجها من أعرق جامعة في الغرب والعالم، فشلها في تحقيق حلم والدها بأن تتخرج من هناك ويعلق شهادة تخرجها على الحائط ليريها لكل زائر. ستتزوج بيري من رجل أعمال تحبه ويشق طريقه في عالم الطموح والثروة والمال، وتنجب ولدين وبنتا وتتفرغ للتربية والمناسبات الخيرية ومساعدة الفقراء.

وكذلك شيرين ستتزوج من الحبيب الذي قضت أطول علاقة معه، وها هي تستعد لإنجاب طفلها الأول، وآزور الذي نشر كتباً كثيرة في السنوات التالية على تركه التدريس ويكتفي من العالم بحفنة أصدقاء وكلب سماه سيوران بعد موت كلبه المفضل سبينوزا.

السرد الشيق من أهم ميزات كتابة أليف شافاك، حيث تمتد كتبها الطويلة كدرب تحتضن خطوات القارئ نحو المعرفة وتفتح له أبوابًا فسيحة إلى التراث المنطوق والمكتوب في شرق يمتد بين إيران وتركيا مروراً بالدول العربية لغرب ينوس بين المدن التي سكنتها الكاتبة. 

لا يبدو غريباً تعليق أورهان باموق عن أليف على طبعة الرواية الإنكليزية بأنها أهم اسم تركي يكتب في الوقت المعاصر فهي كاتبة سخية بمشاركة القارئ تجربتها الإنسانية كأنثى شرقية المنبت، لكنها عالمية التجربة الممتدة من ستراسبورغ إلى أريزونا وإسطنبول ولندن.

سحر عبدالله.

كاتبة سورية مقيمة في اسكتلندا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.