}
عروض

"لطف الأعداء" لليلى أبو العلا.. حكاية مقاومة وهويات متداخلة

سحر عبدالله

6 نوفمبر 2017

بعد "حارة المغنى" و"المئذنة" و"المترجمة" و"الأضواء الملونة"، تتناول الروائية السودانية ليلى أبو العِلا في هذه الرواية "لطف الأعداء"، موضوعاً حساساً هو الجهاد الإسلامي، ولكن من منظور مغاير لما تم تداوله في السنوات الأخيرة، إعلامياً، على الأقل.

عبر بطلة الرواية ناتاشا حسين، الباحثة ومدرسة التاريخ، تأخذنا الكاتبة إلى مدينة أوكيولغو القوقازية، في الفترة الزمنية التي شهدت حصار تلك المدينة، من قبل جنود القيصر الروسي- أواسط القرن التاسع عشر- حيث اضطر إمام المدينة "شامل" لقيادة مقاومة الحصار. وهو دور ليس من اختصاصه، ولكنه اختير له من قبل أكبر مرجع ديني في القوقاز، وهو الشيخ الصوفي جمال الدين الحسيني، والذي علمه الفقه وزوجه ابنته.

قاربت بطولات شامل مستوى الأسطورة، كما هي غالباً قصص المحاربين والأبطال، إذ تحاكي الكاتبة بين أسطورة البطل الاسكتلندي وليم والاس وبين شامل، من خلال حديث تنقله لها ملك، التي سنأتي على ذكرها لاحقاً، وهي إحدى حفيدات الإمام شامل، فتذكر أن القوقازيين تلقوا فيلم قلب شجاع الخاص بالبطل الاسكتلندي المذكور بترحيب وحماس شديدين، إذ وجدوا فيه حكاية المقاومة الداغستانية بأهم تفاصيلها، وأولها الشبه بين البطلين وليم والاس والإمام شامل، وكذلك بين المحاربين معهما.  

تسرد الرواية تفاصيل الحصار القاسي بأسلوب يوحي بالحيادية، من دون استخدام عبارات تقديس أو تهويل ولا تجييش عاطفي أو ديني. فيبدو القائد شامل بوصفه بطلاً وطنياً أكثر منه شخصية دينية. عبر هذا المدخل سنكتشف عوالم أبطال الحكاية، في تشويق زمني ومكاني ينوس بين داغستان في بدايات القرن التاسع عشر، وبين مدينة إسكتلندية في الألفية الثانية.

من خلال بحثها المتعلق بأدوات القتال، المستخدمة في حروب الجهاد والمقاومة الإسلامية، تقبل نتاشا دعوة طالبها أسامة لزيارة أمه في الريف. وهناك تجد نفسها شاهدة على اعتقال أسامة بشبهة تورطه في خلايا إرهابية.

في تلك الليلة المثلجة، اضطرت نتاشا إلى قضاء ليلتها في بيت أسامة، فتتعرف إلى أم أسامة (ملك)، الممثلة اللامعة التي تصوفت لاحقاً. تمضي معها وقتاً كافياً للتعرف إلى تاريخ العائلة وحكايات نشأتها قبل هجرة أسرتها ولجوئهم لبريطانيا منذ عقود؛ سيظهر سيف الإمام شامل معلقاً في بهو البيت كعلامة على أصالة نسب أسامة وأمه.

تستيقظ نتاشا مع مضيفيها على مداهمة بوليسية سببت لها الذعر. لقد أدركت هول المشكلة، من خلال طريقة تفتيش رجال البوليس العنيف وما خلفوه من فوضى إضافة إلى اعتقال أسامة، من دون أن يعفوا عن كومبيوترها وموبايلها الشخصيين.

لم يولد خوف نتاشا من فراغ. فهي شخص مرتبك أصلاً، كسليلة زواج مركب وخاطئ بين أبيها السوداني المسلم وأمها المسيحية الجورجية. الزواج الذي حصل على هامش علاقات الصداقة بين شعوب العالم النامي والاتحاد السوفيتي سابقاً حيث سافر والد نتاشا للدراسة في جورجيا، الجمهورية الشيوعية سابقاً.

ارتباك نتاشا مشبع بخلافات الوالدين الباكرة ونهاية الزواج بالطلاق وارتباط الأم المطلقة برجل اسكتلندي ميسور الحال نسبياً تتعرف إليه عبر مصادفة غريبة أيضاً حيث عمل فترة في الخرطوم، وكانت أم نتاشا توصل طلبات صنع الحلوى والكعك للبيوت.

في رحلتها المضطربة لتشكيل هوية راسخة تستطيع اللجوء إليها تقول نتاشا: "رغبتُ في أن أندمج وأستقر ثم أصبح لاحقاً الارتباك، بيتي"، نتاشا حسين كان ذلك الاسم مقروناً بشكلها الهجين من اللون السوداني والملامح الجورجية كفيلاً بجعلها هشة من الداخل على الدوام.

تتوزع الرواية على سبعة فصول، تروي نتاشا بشكل أساسي قصة شامل في مقاومته لهيمنة القيصر مع بدايات القرن التاسع عشر. تمر كذلك على تفاصيل حياتها في اسكتلندا وعلاقتها مع زوج أمها التي ماتت منذ فترة بالسرطان.

عبر فصول الرواية نعايش مقاومة الداغستان لاحتلال روسيا القيصرية في مشاهد حصار مريرة وجو شديد القسوة، برد وثلج قطع المنطقة أصلاً عن الحياة بغض النظر عن أنها كانت بحالة حصار حربي جعل عملية إسعاف الجرحى ودفن القتلى أمراً غير ممكن. في تلك المعركة يتم الضغط على الإمام لوقف القتال مقابل إرسال ابنه جمال الدين أسيراً أو رهينة مقابل السلام وإيقاف القتال. يقبل شامل بهذا الشرط القاسي ليحفظ ما تبقى من أهله وقريته التي شارفت على الفناء بعد الحصار الشاق. لكن مؤيّديه أقنعوه بالفرار والنجاة بنفسه، لكي تتسنى له قيادة المقاومة لاحقاً. في ذلك الظرف انتحر كثيرون من الخوف.

"الفتيات الصغيرات خشين الاغتصاب، غطين وجوههن بأغطية رؤوسهن وقفزن في النهر. امرأة أفقدها الحزن عقلها واجهت الجنود بجثة طفلها الميت"، ص 31.

يحاول شامل استعادة ابنه جمال من الأسر، فيرسل رجاله لاقتحام قصر أحد الأمراء الجورجيين. ويتمكن من أسر الأميرة آنا وطفليها ألكسندر وليديا الرضيعة وكذلك مربيتهما الفرنسية دارسي. في رحلة شاقة عبر الجبال الوعرة والطرق الضيقة تفقد الأميرة رضيعتها التي سقطت من حضنها حين حاول جنود القيصر إطلاق الرصاص على قافلة الأسر. تقضي الأميرة الأسيرة أسابيع طويلة وشاقة تحت تأثير الحزن الشديد الذي أصابها لفقدان ابنتها وخوفها من الموت إن لم يستجب القيصر لمبادلتها بابن شامل وقد مضى على أسره سنوات طويلة، تعلم فيها جمال التحدث بلغتهم والتصرف مثلهم في حفلات الاستقبال والتوديع وحتى مشاركته في حفلات الرقص. وهذا ما كان يؤلم شامل وأسرته أكثر من أي شيء آخر.

ستتم المبادلة عبر وسطاء موثوقين من الجهتين. ويعود جمال لقريته وأهله، إلا أنه سيختبر غربة هائلة تؤدي إلى مرضه ثم موته. بعد مقاومة ثلاثين عاماً يستسلم شامل لقوة القيصر ويبقى عشر سنوات تحت الإقامة الجبرية قبل السماح له بأداء فريضة الحج، ليموت خلاله، ويدفن في المدينة المنورة.

 تفاجأ نتاشا بسرقة شقتها. ومع حالتها الراهنة، ببابها المخلوع، ما عادت الغرفة قابلة للسكن. فتحجز نتاشا غرفة في فندق، لفترة مؤقتة، ريثما تتمكن من استعادة مقتنياتها من البوليس. وهو الأمر الذي ترددت كثيراً في متابعته لخوفها الشديد من أي عواقب يمكن أن تؤثر على وضعها في الجامعة، لا سيما أن هناك شكاوى من طالبة محلية ضدها. في العلاقة الملتبسة لنتاشا بهويتها وانتمائها، يحدث تفصيلان يضعانها أمام ذاكرتها مع والدها السوداني وأمها الجورجية. تتجه بسيارتها الى بيت زوج أمها، البيت الذي سكنته أمها قبل موتها. تدخل البيت في ساعة متأخرة، تستحق عليها اللوم من قبل زوج الأم لعدم اتصالها به قبل قدومها المفاجئ، فتبدي له عذرها بأنها تعرضت للسرقة دون أن تذكر شيئاً عن اعتقال أسامة. وهنا تطل من شرفة الطابق الثاني الخادمة التي كانت تعين أمها أثناء مرضها. فتفهم نتاشا سبب غضب العم. تطلب المبيت حتى الصباح في غرفة الكتب، لتكتشف هناك أكوام الأكياس البلاستيكية مملوءة بمقتنيات أمها الشخصية، فتقرر أن تتبرع بها في اليوم التالي للجمعيات الخيرية وعدم العودة لذلك البيت مطلقاً.

في ضفة مقابلة، ونقيضة، تسافر نتاشا للخرطوم لرؤية والدها المريض لكنها تصل متأخرة حيث توفي والدها قبل ليلة وصولها. ستتعرف أثناء واجب التعزية على زوجة والدها وأخيها المراهق لتنشأ بينهما علاقة جميلة وحميمية تنقذ نتاشا من اضطرابها القديم. لقد أصبح لديها سبب لزيارة الخرطوم أكثر.

يثير السرد الذكي في هذه الرواية مزيجاً من الإعجاب، لتناول الكاتبة فكرة إشكالية كالجهاد الإسلامي ولطريقة المعالجة الأدبية الذكية التي رسمت لطف الأعداء ماضياً وحاضراً، وكذلك نبالة واستبسال المقاومة الإسلامية بسياق زمني إشكالي يكاد الحديث فيه عن الإسلام لا يخرج عن موضوعة التطرف الإسلامي غالباً في الأدبيات الإعلامية والتحليلات السياسية. الجهاد الإسلامي في الرواية يبدو كمقاومة وطنية وقومية في وجه المحتل، وبالمقايسة مع الشخصية المعاصرة، أي أسامة، سنعرف أنه بريء من التهم المسببة لاعتقاله ويتم إطلاق سراحه، فيترك الجامعة ويغادر المكان فترة غير معروفة.

أشاد معظم مراجعات الكتاب في الصحف البريطانية المهمة والمتخصصة بأسلوب الكاتبة وجمال الرواية وليس مستغرباً ما عبرت عنه جريدة الهيرالد بأن كتاب ليلى أبو العِلا الأخير "لطف الأعداء" هو أكثر كتبها طموحاً، وقد يكون المقصود ليس فقط في مضمون الكتاب بل في متانة النص وشاعرية السرد.

إشارة:

ليلى أبو العِلا روائية سودانية مقيمة في اسكتلندا.

لطف الأعداء: صادر باللغة الإنكليزية عام 2015 في بريطانيا.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.