}
قراءات

"في الرواية" لإميل زولا: العمل يكمن في الإنسان (1-2)

أنس إبراهيم

21 أكتوبر 2018

 إميل زولا (1840-1902) روائيّ وقاصّ وناقد ومنظّر فرنسيّ للكتابة الأدبيّة، ويعدّ رائد الرواية الطبيعيّة ومساهمًا في تطوير المسرح الطبيعي، ومن الشخصيّات الفرنسيّة الهامّة التي لعبت دورًا في المجالات السياسية في عصرها.

يجمع كتاب "في الرواية ومسائل أخرى" ("مشروع كلمة"، 2015)، من ترجمة حسين عجّة ومراجعة كاظم جهاد، العديد من المقالات التي كتبت في فترات متفاوتة ومتباعدة، لكن بمجموعها تقدّم ملخّصًا مكثّفًا عن زولا الناقد والمنظّر الأدبيّ.

ويتعرّض زولا، في مقالاته هذه، إلى العديد من المواضيع الأدبيّة، التي رافقت حركة عصره الأدبيّة وتلك التي أثّرت وساهمت في خلق هذه الحركة، حركة الرواية الطبيعيّة أو الانطباعيّة.

وانقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، الأول "في الرواية"، واشتمل على مقالات تنظيريّة في الرواية الطبيعيّة ودراسات عن ستندال وفلوبير والأخوين غونكور. أمّا القسم الثاني فقد عالج المسرح الطبيعيّ، وكذلك اشتمل على نقد للمسرح الرومنطيقيّ عبر نقد فيكتور هوغو. وأخيرًا القسم الثالث بعنوان "الكاتب والعصر"، وقد ناقش زولا في مقالاته في هذا القسم قضايا عديدة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة تخصّ الكاتب، كقضيّة المال والعصر، والعمل الصحافيّ، والأدب الفاحش، كذلك بعض المقالات المتعلّقة بالأدب.

عندما قرأت الكتاب للمرّة الأولى وجدتني مشدودًا بشكل خاصّ إلى قراءة زولا في غوستاف فلوبير الإنسان وفلوبير الكاتب. فقد طبّق زولا نظريّته في النقد الحديث بشكل رائع في كتابته عن فلوبير؛ إذ لم يكن ناقدًا بالمعنى الأكاديميّ البارد، وكذلك لم يكن ناقدًا معجبًا متعبّدًا في غار فلوبير. بل انصهر هو نفسه في عمل فلوبير ناقدًا وروائيًا وقارئًا وصديقًا، مستكشفًا الإنسان عبر عمله، الذي فيه يكمن الإنسان. ولذلك فإنّ هذه المراجعة، تركّز بشكل أساسيّ على نظرية زولا في الرواية، وكيف طبّقها على كلّ من ستندال وفلوبير.

شيء ما اسمه "رواية"

إن ذلك الشيء المسمّى بالرواية لدى زولا ليس إلّا حكاية عاديّة، وكلّما كانت عادية أكثر كانت نموذجيّة ومعياريّة أكثر. ففي مقالته "الحسّ الواقعي" يرى زولا أنّ على الروائيّ أن يمتلك ميزة رئيسة بوصفه روائيًا طبيعيًا، تناقض كلّ ما عرفه معاصروه عن زمن الرواية الرومنطيقيّة القائمة على الخيال والاختراع. "مثلما كان يُقال في الماضي عن الروائيّ: "يملك مخيّلة"، أطالب أنا اليوم بأن يقال "إنّه يملك الحسّ الواقعيّ".. فموهبة النظر أقلّ شيوعًا من موهبة الاختراع".

بين النظر والاختراع وفي الفارق العميق بينهما يبني زولا حجّته على الرواية الرومنطيقيّة مدعّمًا أسس الرواية الطبيعيّة. فعلى الروائيّ الطبيعيّ في نظره أن ينبذ "الخيال والاختراع"، كمثل جورج صاند التي كانت تجلس أمام ورقة بيضاء وتنطلق من اللامكان واللاشيء إلى نسج رواية مليئة بالمغامرات والأحداث، تلك هي الرواية الرومنطيقيّة، وأمّا رواية زولا الطبيعيّة، فهي رواية مدام بوفاري لفلوبير، جوف باريس لزولا، وليس أخيرًا الأحمر والأسود لستندال.

لا يجب على الراوي أن يعلّق الأهميّة على غرابة الحكاية، بل العكس هو الصحيح، وهو الذي من شأنه أن يقوده إلى إكمال عناصر الرواية الطبيعيّة. عليه أوّلًا وأخيرًا أن ينظر إلى الطبيعة الإنسانيّة، شاملًا بنظره المحيط الذي يحيط هذه الطبيعة وتتفاعل معه وعبره وفيه، أن يُحرِّك شخوصًا فعليّة في وسط فعليّ، وأن يقدّم مجرّد نتفة من الحياة الإنسانيّة للقارئ، تلك هي الرواية الطبيعيّة ولا شيء أكثر. وحتى يستطيع الراوي أن يكتب مثل هكذا رواية، كـ مدام بوفاري على سبيل المثال، عليه أن يمتلك الميزة الرئيسة وهي الحسّ الواقعيّ. وهو المتمثّل بالشعور بالطبيعة وتقديمها كما هي عليه، أن يأخذ انطباعه عن الأشياء كما هي، أن ينظر إلى الواقع ويُعاينهُ بعين الروائيّ الخبير، ومن ثمّ بعين الروائيّ المحلل، ومن ثمّ بعين الروائيّ وحسب، لا أن ينحو نحو إنتاج انطباع غريب، ولوحات غير متوازنة، تنقلب إلى عمل كاريكاتوريّ، هو عمل ولد ميتًا ومحكوم عليه بالنّسيان السريع بكلمات زولا، لأنّه غير مؤسس بما فيه الكفاية على الحقيقة، وما من سبب لوجوده.

"ما من سبب لوجوده"، تلك هي العبارة التي يبني زولا حجّته عليها في البداية والنّهاية، وعلى العمل الروائيّ أن يستمدّ سببًا لوجوده من الطبيعة نفسها.

إلّا أنّ الحسّ الواقعيّ وحده لا يكفي حتى يستطيع الكاتب أن يكون روائيًا جيّدًا وأن يكون النصّ الروائيّ نصًّا جيّدًا، فمن دون التعبير الشخصيّ، أي صوت الراوي الذي بإمكان القارئ تمييزه بين آلاف الأصوات الناشزة الضاربة ببعضها البعض، لا يمكن للنصّ الروائيّ أن يعيش طويلًا، وهو أيضًا، محكوم عليه بالنسيان السريع.

يصف زولا الروائيين الذي يكتبون على نحو سليم، ويحصلون في نهاية المطاف على "شهرة أدبيّة طيّبة"، بأنّهم "يبدون وكأنّهم يتمتّعون بموهبة حقيقيّة"، و"يبدون" هنا، هي كلّ شيء لم يتحقّق بعد، ولمّا كانوا يفتقدون إلى "التعبير الشخصيّ"، فهذا بحدّ ذاته يكفي زولا لوصم كتابتهم بالرداءة.

على الروائيّ أن يمثّل أدوار شخوصه، أن يكون هو نفسه شخوصه، أن يمكث في وسطها ذاته، ويمارس نوعا "من الإحماء يصهر فيه شخصه بالكائنات الأخرى، لا بل حتى بالأشياء التي يرغب هو في تصويرها.. وينتهي به الأمر في ألّا يكون شيئًا آخر غير عمله، بمعنى أنّه يذوب فيه، وفي الوقت ذاته يعيشه من جديد لنفسه". تلك طريقة زولا في البحث عن التعبير الشخصيّ لدى الكُتاب، وعلى الكاتب وإن ظهر في النصّ، ألّا يظهر خارجًا عن النصّ بقدر أن يكون هو نفسه جزءًا منه، وفي أحيان أخرى عليه أن يلتزم حتى في أبسط أجزاء الرواية موقعه كراوٍ خفيّ، منصهر في شخوصه؛ هكذا يمكن له أن يملك تعبيره الشخصيّ، الذي يظهر في كلّ عبارة يكتبها.

وهكذا يستطيع الكاتب أن يخلق عملًا حيًّا، نابضًا، لا يمكن تجاهله؛ فإمّا أن يحبّه القارئ أو يكرهه، ولكن لا يمكن له أن يبقى غير مكترثٍ به. يستشهد زولا بسان سيمون: "هو ذا كاتب كتب بدمه ومرارته، وترك لنا صفحات لا تنسى بكثافتها وامتلائها بالحياة.. بدفعة واحدة بلغ ذروة الأسلوب، توصّل إلى خلق لغة وتعبير حيّ". وباختصار؛ يُسمّي زولا الروائيّ الكبير ذلك الذي يتمتّع بالحسّ الواقعيّ، والذي يعبّر بصورة فريدة عن الطبيعة، بجعلها تحيا حياتها الخاصّة، منفصلة ومنصهرة به وعنه في آن.

في النقد والوصف

كما أنّ الرواية لم تعد هي نفسها، فالنقد أيضًا، كما يراه زولا، لم يعد هو نفسه أيضًا. عبر كلّ من سانت بوف، وهيبوليت تَين، وهما ناقدان فرنسيّان شهيران في عصر زولا، يتتبع زولا التحوّلات التي طرأت على حقل النقد الأدبيّ في عصره والتي دفعته أخيرًا إلى الاعتقاد بالخلاصة الآتية، ألا وهي أنّ عمل الروائي والناقد متشابه من حيث استناد كليهما إلى المنهج الطبيعيّ في دراسة الشخصيّات وتحليلها وتوقّع أفعالها في حالة الروائيّ ومن ثمّ دراسة محيطها أيضًا ومحاولة النظر في طبيعتها الإنسانيّة وجوهرها ودوافعها. وكذلك الأمر في حالة الناقد أيضًا.

فها هو تَين مثلًا يقوم بدراسة حول بلزاك؛ يشرع في تجميع كلّ الوثائق المتعلّقة بحياة بلزاك وجمع الكتب التي نشرت عنه والدراسات. يستجوب أولئك الذين عرفوه وأولئك الذين بإمكانهم أن يوفّروا كل المعلومات المؤكّدة عنه. يُعنى ويزور الأماكن التي عاش فيها بلزاك، يزور المدينة التي ولد فيها، والبيوت التي سكنها، والشوارع التي مشى بها. يفحص كلّ شيء، الأقارب والأصدقاء، "حتى يستطيع الإمساك ببلزاك بصورة مطلقة، في أخفى خفاياه، مثلما يمسك المشرّح بأسرار الجسد الذي قام للتوّ بتشريحه"، وبعد تلك اللحظة يشرع بالكتابة.

"العمل يكمن في الإنسان"، وبلزاك الملاحق من قبل دائنيه، والذي ينضّد الروايات الرائعة الواحدة تلو الأخرى، ويسهر الليالي حتى يستطيع دفع فواتيره، بينما يواصل رأسه الغليان، هو هذا الإنسان نفسه الذي منه تخرج "الملهاة الإنسانيّة"، وهو نفسه الذي كتبَ "الأب غوريو". ومثلما يرى زولا الأمر، كما يدرس تَين بلزاك كناقد، يدرس بلزاك بالمنهج ذاته الأب غوريو حتى يستطيع الإمساك به بالطريقة نفسها التي قام بها تَين بالإمساك ببلزاك ومن ثمّ فالاثنان يشرعان بالعمل والكتابة بعدما استطاعا إدراك الإنسان ومحيطه وطبيعته وجوهره الإنسانيّ. "فالشاكلة التي يعالج بها الناقد كاتبًا ما، بهدف معرفة أعماله، تشبه تلك التي بها يعالج الروائيّ أحد شخوصه من أجل معرفه أفعاله". وليس مهمّة كليهما إلّا العرض، لا الاستنتاج ولا الحكم؛ فكلاهما ينطلقان من النقطة ذاتها، أي أخذ الوسط الدقيق والوثيقة الإنسانيّة من مصدرها الطبيعيّ، ومن ثمّ استخدام المنهج ذاته بغية الوصول إلى المعرفة والتفسير. فهناك من جهة العمل الذي كتبه إنسان ما، ومن جهة أخرى، أفعال شخصيّة بعينها، وكلاهما، العمل المكتوب وسلسلة الأفعال، هما بمثابة نتاجين للماكينة الإنسانيّة الخاضعة لتأثيرات معيّنة.

هنا يصل زولا إلى تذمّره من مفردة "الرواية"، التي لم تكفّ في نظره عن الإيحاء إلى الكثيرين بأنّ "الرواية" ليست إلّا حكاية، أو خرافة أو تخييل محض، وهذا ما يناقض في رأيه "المحاضر المحض التي نحرِّرها نحنُ الكتاب". فلم تعد مفردة "الرواية" تعبّر بدقّة عن "المحاضر الطبيعيّة في الطبيعة الإنسانيّة" الخاصّة بالروائيين الطبيعيين. حتى أن زولا يذهب إلى حدّ اقتراح مفردة "دراسة"، بدلًا من الرواية، حيث في نظره، ليست الرواية الطبيعيّة إلا دراسة معمّقة لأعماق الطبيعة الإنسانيّة وجوهرها.

كذلك فمفردة "الوصف" لم تعد دقيقة من وجهة نظر زولا. فهي بمثل رداءة مفردة "الرواية"، إذ لم يعد لديها مغزى إن ما طبّقت على "الدراسات الطبيعيّة"، والتي هي الرواية الطبيعيّة. لم يعد الوصف في الرواية الطبيعيّة هدفًا، كما كان الحال مع الرواية الرومنطيقيّة، بل إن الوصف يقتصر على الرغبة في إكمال الأشياء وتعيينها وحسب. فالوصف في الرواية الطبيعيّة ليس موجودًا لمجرّد الوصف، بل هو موجود لاعتبار أنّ الإنسان لا يمكن فصله عن وسطه الذي يعيش فيه، وكلُّ ما هو في هذا الوسط يُكمِلُ ويُعيِّنُ الإنسان، فالملابس، والبيت، والمدينة، والمنطقة، وكلُّ ما هو متعلِّقٌ بالإنسان، من الضروريّ وصفهُ وصفًا يقتصرُ على إكمال وتعيين الإنسان في هذا الوسط. وهذا يعني أنّ أيّ ملاحظة لأيّ ظاهرة في عقل أو قلب الإنسان على الكاتب أن يبحث عن بواعثها أو مقابلها في وسط الإنسان، وهذا ما يُسمِّيه زولا بـ"التوصيفات الأزليّة".

فقد كرّست الرواية الطبيعيّة للطبيعة والعالم برمّته مكانة تماثل مكانة الإنسان، وذلك التكريس نابع من اقتناع بكون الإنسان "محض نتاج"، ولرؤية المأساة البشريّة الحقيقيّة والكاملة لا بدّ من مساءلة كلّ ما هو قائم، وذلك عبر وجهة نظر علميّة قائمة على المراقبة والتجريب. إلّا أنّ وجهة نظر كهذه، في رأي زولا، "تسيء للبلاغة العريقة" للروائيين؛ فمحاولة إدخال العلم في الأدب تبدو وكأنّها محاولة يقوم بها جاهل أو شخص متخايل، إلّا أنّه يوضّح كيف أنّ عملية إدخال العلم في الأدب لم تحدث لمجرّد قرار شخصٍ ما، بل هي نشأت وحدها. فالشخصيّة في الأدب الحديث  - في عصر زولا - لم تعد مجرّد تجريد نفسانيّ، بل أصبحت تولد من الهواء والأرض، وهذا هو الإدراك العلميّ؛ أي إدراك الإنسان إدراكًا لا يفصله عن وسطه، بل يُعنَى بدراسة هذا الوسط عبر الوصف الضروريّ، دراسة دقيقة وإنشاء ما يمكن تسميته بميدان ملاحظة يتعلّق بالعالم الخارجيّ، والذي يتناظر مع الحالات الداخليّة للشخصيّات. وباختصار فإنّ الوصف في الرواية الطبيعيّة هو حالة الوسط التي تعيّن الإنسان وتكمّله.

إلّا أنّ استخدام الوصف من قبل روّاد الرواية الطبيعيّة وخاصّة في بدايات تلك الحركة الأدبيّة، لم يكن متّسمًا دائمًا بالاتزان اللازم، وكذلك فإنّ ما يظهر وكأنّه نوع من الصرامة العلميّة في وصف زولا لمكانة الوصف في الرواية الطبيعيّة، أيضًا هو الآخر لم يكن بالضرورة حاضرًا عند جميع الروائيين، فيما عدا غوستاف فلوبير.

فيمكن القول إنّ فلوبير قد اختزل إلى "حدود الضرورة الحصريّة أعداد الدلّالين الذين يتخم بلزاك بدايات رواياته بهم. إنّه معتدل، وهذه خاصّية نادرة، فلا يقدِّم إلّا الملمح البارز، والخط العريض، والخصوصيّة التي بها يكتمل رسم الشخصيّة، وذلك كافٍ لكي تكون لوحته غير قابلة للنسيان". وإذا كان على زولا أن يختار الرواية النموذجيّة للرواية الطبيعيّة، فستكون رواية مدام بوفاري لفلوبير، الذي عنده يوصي بدراسة الوصف والتصوير الضروريّ للوسط، في كلّ مرّة يساعد فيها الوسط على تفسير الشخصيّة أو إكمالها.  

*كاتب فلسطيني- رام الله

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.